نزهة الدرّاج في اختراق الآفاق

في رحلة الكتابة كما في رحلة المغامرة: شوق وتوق.. حلم وذوق

كيف لي أنْ أكتُبَ عن رحلة غيريّة، أنا الجاثم هناك، على بعد آلاف الأميال منهما، صديقيّ: “سمير” و”معاذ”؟
كيف لي أن أجُولَ معهما الطّرقَ والمسافات، وأطوي من خلالهما الأميال طيًّا، وأسيرُ الهُويْنَى أو مسرعًا أو خَبَبًا في معارج التّضاريس، وأتسلّق قمم الجبال، وأكشف من أرض المغرب عن خبايا وأسرار مركوزة في أعماق الإنسان، بعاداته، وتقاليده، وبساطته، وحضارته الضّاربة في متون الماضي السّحيق؟
بل كيف لي أن أكون البُراق أهتف من هنا إلى هناك فأسري سريان اللّيل في الأكوان، أو أسطع كشمس مشرقة أو غاربة على الآفاق؟
وأنا المِسْفَرُ معهما سَفَرًا بالكلمات.
أو لم يُسمَّ المسافر مسافرًا لكشفه قِناع الكنِّ عن وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه، وبُرُوزِه إلى الأرض الفضاء؟

■ ولي مع أتَايْ بالنّعناع حكاية.. حكاية بين ورزازات وتازنخت

أنا المرتَحِل من حلمهما إلى حُلم تدوين لحظة المغامرة وحلاوة الاكتشاف. أحاول أن أجعل من الكتابة عن الغير كتابة عن الذّات، ومن كتابة الأنا كتابة عن الآخر، ومن ذكرى السّفر في بطون أرض المغرب إلى السّفر في بطون أعماق الإنسان.
كتابتي ترنو إلى تصوّر توق الأنا الغيريّة إلى ما تصبو إليه وتهفو، وتجهَد أن ترسم جذوة قبس من أحلامٍ مجنّحة، وتروم أن تقول بعضًا من نوازع ذات الآخر، وما تُحِبّ تحقيقه مجازًا أو واقعًا.
إنّها تُنصتُ إلى همس اللّحظات، وتتحسّس هسيس الكلام لتحوّله إلى كلماتٍ مسرودةٍ منضّدة موقّعة، تصير جُمَلًا، وتغدو مجنّحة ترفرف كالأحلام.
في رحلة الكتابة كما في رحلة المغامرة شوق وتوق، حلم وذوق، “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”. بيد أنّها مع مغامِرَيْنا توق إلى ركوب الصّعاب وتحمّل المشاق، غذّاها المرتحلان: “سمير بن يعقوب” و”معاذ بوشيبة”؛ الأوّل من جزيرة “جربة”، والثّاني أصيل مدينة “قفصة”، بروح الصّبر والرّغبة في الاكتشاف وولوج أعماق المغرب الأقصى. ولأنّهما ينحدران من جنوب البلاد التّونسيّة، ففيهما يلتقي البحر بموجه الهادر، والصّحراء برمالها الممتدّة وأغوارها المحجّبة. كلاهما قد صنع من المغامرة مجدهما، حين وجدا فيها لذّتهما، وعثرا فيها على متعتهما.
هما المرتحلان بالدرّاجات الهوائيّة في ربوع المغرب الأقصى من شماله إلى جنوبه، ومن سواحله إلى عمقه الصّحراويّ، ومن وهاده إلى جباله الشّامخة شموخ أهله.

* * *

بدأ “سمير” و”معاذ” رحلتهما من قرطاج إلى الدّار البيضاء جوًّا، ولكنّهما ما إنْ حطَّا الرّحال بأرض المغرب حتّى بدأ سفرهما الطّويل، وصارت لهما الدرّاجة وسيلة الرّحلة، وعونًا على تحدِّي المجهول.
الرحّالتان مستعدّان لخوض المغامرة، متمرّسان بالصّعاب وتجاوز العقبات، وقد استعدّا لسفريهما طويلًا، وخطّطا له مسبقًا، فحزما أمتعتهما، وراقبا مرارًا حالة الدرّاجتين لتكونا لهما مطيّة ذَلُولًا ومركبًا ليّنًا طيلة أطوار الرّحلة، لأنّها لهما أفضل مركب، ولِهَوْل الطّريق ووعورته خير مُعين.

■ حين بلغنا قمّة جبل طوبقال ورفعنا العلم التّونسيّ.. فرحةٌ غامرة

ثمّ فكّكا الدرّاجتين، ليقِلَّ وزنهما فيسهل شحنهما بالطّائرة. وأعدّا خيمتين تقياهما البرد، ونضّدا الأغطية والملابس الملائمة. ورتّبا معدّات التّخييم من إنارة وأدوات للطّهي وغيرها ممّا يحتاج له المغامر، ويندر أن يجده بيسر في الفيافي البعيدة والقرى المتناثرة تناثر الدُرِّ في العقد.
لا يحبّان أن يشغلهما عن متعة الرّحلة، ويصرفهما عن التأمّل في حال الطّبيعة والإنسان أيّ مشغل، أو أن يكدّر صفو بهجتهما وصفاء نفسيْهما أيّ مكدّر.
هما في خلوة من عالم الواقع يرتفعان إلى أعالي الحلم ويجنّحان في سعادة اللّحظات البسيطة التي نسهو نحن عنها ونطّرحها في زحمة الحياة.
ها هما الآن في مطار الدّار البيضاء أو كازابلانكا، مدينة عَرفتْ مجدها على يد السّلطان سيدي “محمّد بن عبدالله” (1757-1790م)، الذي أعاد بناءها في القرن الثّامن عشر، وأطلق عليها إلى الأبد اسم “الدّار البيضاء”. وازدهرت المدينة حتّى صارت عاصمة المغرب الاقتصاديّة والتّجاريّة، وأنشط مركز اقتصاديّ وماليّ في البلاد. كما تعدُّ المدينة أكبر مدن المغرب، وثالث أكبر مدينة في قارَّة إفريقيا.
في هذه المدينة العامرة المكتظّة وَجَدَا من حفاوة الاستقبال وكرم الضّيافة ما أنساهما بُعدَ المسافات، وبَدَّد عنهما غربة الأمكنة، وأذْهَب عن نفسيهما وحشة الأيّام القادمة.

شربةُ ماء من عند الكراب بطعم القطران في مدخل مقبرة الملوك

كانت أوّل مرّة تطأ قدماهما أرض المغرب، ولكنّهما كانا عازمين على المسير في أعماق أعماق أرضها، واكتناه أسرارها، والعيش بين أهلها. وكان محدِّثي “سمير” يقول لي دومًا بابتسامته العريضة وفرحه الطّفوليّ الغامر، كذاك الحكيم الذي خَبَر الدّنيا وعرف حال الإنسان، كان يردّد: نحن لا نقطع المسافات، ولا نريد أن نصل إلى المدن فقط؛ بل نريد أن نلج إلى أعماق أرياف المغرب الجميلة، ونحبّ أن نختلط بأهله، ونلامس بساطة عيش النّاس، ونستلَّ منهم دروسًا وعبرًا في الحياة.
نحن نعبر المسافات، ونشدّ الرّحال، ونركب من الأرض منبسطها ووعر منحدراتها ومرتفعاتها، لنكتشف عمق الإنسان المغربيّ: بساطة عيش، وصبر على مكاره الزّمان، ولطافة معشر، وحبّ منقطع النّظير للإنسان في عيشه اليوميّ البسيط بكلّ عفويّته وما ترسّب على تقاسيم وجهه من قسوة الحياة وفعل الزّمان.
ما أسهل أن تطير وتحلِّق بين المدن بالطّائرة، وما أيسر أن تُلهب الطّريق بالسّيارة أو الحافلة، ولكنّ متعة الدرّاجة في تأمّل المشاهد والتوقّف عند كلّ تفاصيل حياة النّاس. يقول صديقي “سمير”: كنّا نخيّم وسط النّاس، ونأكل ما يأكلون، ونستمع إلى مشاغلهم، وما به يهجسون، ونعرف من همومهم ما هم إليه منصرفون، لذا صنعنا معهم ألفة، وربطنا بفضلهم ما انصرم من عقد بين العرب أبناء الحاضرة الواحدة واللّغة الجامعة المشتركة.
دامت رحلتنا 28 يومًا، قطعنا خلالها 2150 كلم، وخيّمنا طيلة 10 أيّام في العراء، بينما كنّا في باقي الأيّام في ضيافة أهل المغرب، فتذوّقنا عن قربٍ أسرار المطبخ المغربيّ بمالحه وحلوه، بتعدّد أطباقه الشهيّة، وبألوانه البهيّة وروائحه الزكيّة: الطّاجين المغربيّ الفوّاح السّاخن، والحريرة وأكواب الشّاي، لا يزال مذاقها يحلّب الرّيق، ويُمنّي النّفس بوليمة باذخة.

درّاجتي رفيقتي من أمام مسجد محمّد السّادس بالقنيطرة

وقد بدأنا رحلتنا من طنجة شمالًا وصولًا إلى أغادير جنوبًا. وطنجة هي عاصمة الشّمال المغربيّ، وأقرب المُدن الإفريقيّة العربيّة إلى قارّة أوروبا، تطلّ على جهتين بحريّتين هما المحيط الأطلسيّ والبحر الأبيض المتوسّط تحتضنهما معًا في لقاء عجيب يجمع المحيطين السّاحرين إلى حضن واحد. وتُعرف طنجة بأسوارها العتيقة التي يصل طولها إلى 2200م كما تشتهر بقصر القصبة المعروف أيضًا بدار المخزن، والذي تحوّل منذ سنة 1938 إلى متحف وطنيّ عامر بزوّاره. ومن المعالم التي يراها المتجوّل في المدينة الجامع الكبير الذي لا يزال شامخًا بالقُربِ من سوق الدّاخل. ويتميّزُ الجامع الكبير باستخدام الزّخارف المصنوعة من الفسيفساء، ويُعرف بجودة النّقوش والكتابات التي حُفرت على الأخشاب.
وقادتنا المغامرة إلى مدينة القنيطرة، والعريش، والرّباط، ومكناس، وفاس، ومرّاكش، وورزازات، وأمليل، وواحات بومالن دادس. وهي مدن وقرى عامرة بالحياة، ضاربة في عمق التّاريخ والحضارات. ولن نحيط بأسرارها جميعًا، ولا نقدر ولو طلبنا، فتلك قد كُتبت عنها وفيها أجلّ المقالات وأجمل الأغنيات. ولكنّ مدينة فاس تسحرك بحاضرها وماضيها، بمجدها القديم الذي لا يزال ينطق بكلّ صامت ويشير بكلّ حيّ. هذه المدينة ما أشبهها اليوم بالأمس، ينطبق عليها ويصدق ما قاله فيها “أبو محمّد عبدالواحد بن عليّ المرّاكشيّ” في كتابه “المعجب في أخبار المغرب”، حين صوّرها بطريقة غنائيّة بديعة واصفًا معجبًا بها: “ومدينة فاس هذه هي حاضرة المغرب.. وموضع العالم منه. اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة، إذ كانت قرطبة حاضرة الأندلس، كما كانت القيروان حاضرة المغرب. فلمّا اضطرب أمر القيروان، واضطرب أمر قرطبة، رحل من هذه وهذه من كان فيهما من العلماء والفُضَلاء من كلّ طبقة، فرارًا من الفتنة. فنزل أكثرهم مدينة فاس، فهي اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكَيْسِ، ونهاية الطَّرف، وما زلتُ أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب، وما أظنّ في الدّنيا مدينة كمدينة فاس أكثر مرافق، وأوسع معايش، وأخصب جهاتٍ، وذلك أنّها مدينةٌ يحفّها الماء والشّجر من جميع جهاتها، وتتخلّل الأنهار أكثر دُورها زائدًا على نحو من أربعين عينًا ينغلق عليها أبوابها ويحيط بها سورها”.

حين تكون جِربيًّا ببلوزة أصيلة وتعتلي صهوة جبل طوبقال

لا أزال أذكر هذا الوصف وأنا أجول بين طرقها، وأتوغّل في أزقّتها، وأشتمّ عبقًا قيروانيًّا ممزوجًا بعطر أندلسيّ، ومشاهد مغربيّة أصيلة صميمة.
ولعلّ أكثر المشاهد التي شدّتنا إليها وبقيت محفورة في ذاكرتنا حين صعدنا جبل توبقال أو طوبقال (جنوب مدينة مرّاكش)، وهو جبل شامخ كالطّود، يرتفع لنحو 4167 مترًا، وهو أعلى قمّة في شمال إفريقيا. وقد كان المرتقى وعرًا، والبرد قاسيًا، والثّلوج الكثيفة تعوقنا عن المسير. أضف إلى كلّ ذلك أننا لم نكن مجهّزين بمعدّات تسلّق الجبال، ولا كنّا قادرين على معرفة الطّريق التي اندثرت معالمها بتساقط الثّلوج، غير أنّ هدفنا الواضح هو الذي كان يحفّزنا ويدفع بنا إلى القمّة.
هكذا عبرنا المغرب في رحلتنا طولًا وعرضًا، فرأينا الأطلس والمتوسطيّ وهما يتعانقان، ورأينا الصّحراء والجبال تتشامخان. ورأينا المدن الفارهة والقرى البعيدة، وتأمّلنا حال الغنيّ والفقير يتقابلان.
رحلة السّفر متعة الاكتشاف، وهواية ركوب الأهوال، لا يكنهها إلاّ من جعل الدرّاجة له هواية وعشقًا، وأحبّ أن يخرج من الرّفاه والدّعة إلى عالم المغامرات. رحلة مغربيّة بامتياز تعانق فيها شعبان، توادَدَ فيها الإنسان بالإنسان، وظلّت مشاهد المدن والأرياف في ذاكرتينا كالوشم لا يمّحى وكالرّسم محفورًا في الأعماق.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى