مدنين.. بوابة تونس الشرقية

مدينة البحر والجبال والحدائق والأشجار

على الحدود الليبية التونسية ثمّة مشهد جميل يجلب إليه الأنظار .. ثمة مدينة شامخة، صامدة على مرّ الزّمان، تجذبُك إليها كأنّها تفتح ذراعيها للقادمين إليها من الشّرق والغرْب، من بعيد تنكشف لك الجدران البيضاء والنّوافذ الزّرقاء محاصرة بالحدائق وأشجار الزيتون في كلّ مكان، يا لها من لوحة ساحرة.. إنّها مدينتي التي احتضنتني منذ البدايات الأولى، تلك هي محافظة مَدْنين التي تحتضنها الجبال الممتدة.. وتطوقها من ناحية الغرب وتنفتح على الحدود المشتركة مع القطر الليبيّ وتصافح السّواحل البحرية للبحر الأبيض المتوسط.
هكذا كانت مدينة مدنين تتراءى لصديقي القادم من القطر الليبيّ. وكنت على موعد معه بجانب الحديقة الغنّاء المحاذية للاّفتة التي تشير إلى المسافة التي تفصلنا عن طرابلس والقاهرة.

مدنين سحْر الموقع ووهج التّاريخ:

هناك كان لقاء شيّقًا رائعًا.. تبادلنا فيه المعلومة والآراء المختلفة. وقد ألحّ عليّ بأنّ أصْحبه في جولة في مدينة مدنين آملا أن يتعرّف على أهمّ خصائصها والوقوف على أهمّ ما تتميّز به. كان يروم التّعرّف على أهلها الطيّبين وآثارها المتعدّدة وأسواقها المتنوّعة، وقصورها الأثريّة التي تحمل عبق التّاريخ وتسرد حكايات الأجداد وأمجادهم، و”طائفة غبنتن” التي ذاع صيتها بين الناس. فالمدينة بمثابة القطب والمركز الذي يأتيه النّاس من كلّ ناحيّة حتى أنّك لا تستطيع السّفر إلى تونس العاصمة دون المرور بها. فهي حلقة وصل بين مختلف الولايات الأخرى.

■ مشهد احتفالي تنشيطي داخل بهو القصور الأثرية تحييه فرقة طائفة غبنتن بمدنين

وكانت المصافحة الأولى مع ضيفي تاريخيّة بالأساس. فمحافظة مدنين تقع في الجنوب الشرقيّ من البلاد التونسية. يحتضنها الجبل. وتنفتحُ على السّواحل البحريّة. وتُعرف بطول سواحلها الممتدة على البحر الأبيض المتوسّط من السّواحل الليبيّة إلى شواطئ محافظة قابس المجاورة لها.
وهمسْتُ فى أذن صديقي وضيْفي بأنّ هذه المحافظة تتميّز أيضًا بتنوّع تضاريسها الجغرافيّة والجبليّة والسّهلية والسّاحليّة. وتعدّ أكثر من 500 ألف ساكن وتنضوي تحتها مجموعة من المدن الكبرى هي مدنين الجنوبيّة ومدنين الشّماليّة، أجيم، بني خداش، بن قردان، جرجيس، جربة ميدون، الماي، حومة السّوق جربة، وسيدي مخلوف.
كنت أجهّز نفسي لرحلة شيّقة صُحبة ضيفي القادم من طرابلس. فالمدينة متّسعة تتوفّر بها مؤسّسات التّعليم العالي والثانوي والصّحة والنّقل. وتتركزّ بها أنشطة تجاريّة وثقافيّة وصناعيّة وسياحيّة وسياسيّة مختلفة، وهو ما جعلها تتميّز بها عن غيرها من المدن. ولقد كان كلّ همّي أنْ يستمتع صديقي بسحْر مدينتي وهوائها النّقي وطقسها المعتدل. فهي بين البحر والجبل، كلّ منهما يحاول أنْ يخطب ودّها. فإذا هي عروس الجنوب الحافلة دومًا، يهرع إليها النّاس من كلّ المعتمديات المجاورة خاصّة في الأسواق الأسبوعيّة والمناسبات الثقافية والحفلات الموسيقيّة والنّدوات الثّقافيّة يبتغون حاجاتهم ويشاركونها فرحتها وحركيتها.

القصور الأثريّة بمدنين.. تروي تاريخ الأجْداد:

أخذتُ بيدي ضيفي إلى النّاحية الأخرى من الحديقة، وقادنا الطريق إلى القصور الأثريّة بمدنين في الطريق المؤدّي إلى جزيرة جربة. فهي أوّل المعالم الأثريّة التي تستقبل الزّائر من ناحية الشّرقية، وهي تعتبر من أبرز روافد السّياحة الصّحراوية بالجنوب الشرقي للبلاد التونسية نظرًا لتميّز هندستها المعماريّة وكهوفها الحجريّة، إذْ تُشيّد الغرفة الواحدة فوق الأخرى. صعدتُ أنا وضيفي إلى الأعلى بواسطة سلالم علويّة كانت محاذية لهذه الغرف تُيسِّر الوصول إلى آخر غرفة. وأطل صديقي على كل القصور الأثرية من الأعلى. فبدت له القصور لوحة ساحرة تجلب الأنظار. وأطلّ على مدينة مدنين بأكملها من خلال موقعه. وأعلمته بأنّ هذا الأمر طبيعيّ لأنّ هذه القصور الأثرية قد شُيّدت على مساحات عالية لأنّ أصحابها كانوا يراقبون من خلالها كلّ التحرّكات التي تقع على تخوم المدينة ومشارفها. فيتفطنون إلى كل محاولات الغزو التي كانت تشنّها القبائل الأخرى. وما النّوافذ التي نجدها في بعض القصور الأثريّة إلاّ أبراج مراقبة من خلالها يراقب ساكنو هذه القصور مدينتهم. فيعرفون أعداءهم. حول هذه القصور الأثرية تلوح المساجد يمينًا ويسارًا متاخمة للقصور تعاضدها وكأنّها تُمسك بها، فهي شاهدة على ماضي المدينة المجيد تلك المساجد التي تعتبر مهْدا للمعارف والعلوم والثقافة. وكأنها تعاضد تلك القصور الأثرية. وتقف شاهدًا على ثرائها. ومن هذه المساجد المشهورة جامع سيدي علي بن عبيد وجامع الحبيب بورقيبة. وكلاهما شُيّد على مساحات عاليّة غير بعيدة عن هذه القصور الثقافية.

المكتبة الجهوية بمدنين مقصد الطلاب والباحثين

في الأثناء، تفطّن صديقي إلى الحارس الذي يرتدي زيّا فلكلوريّا خاصّا. فينتصب أمام هذه القصور الأثرية مبتسما ومرحّبا. فهو مكلّف بمراقبة مداخل القصور المختلفة والتثبّت من هويّة مرتاديها. وتتوسّط هذه القصور الأثريّة مدينة مدنين. وتمتدّ على مساحات كبيرة منها تكاد تحتل الجانب الشّرقيّ منها. وتبعا لذلك، فهي تستقطب عددًا كبيرًا من السّياح من الدّول الأوروبيّة والعربية. وقد بُنيت هذه القصور الأثريّة على شكل هندسيّ مخصوص، بحيث تكون في شكل طوابق يأخذ بعضُها برقاب بعض.
ويمثّل القصر الواحد بمثابة المخْزن (بيْت خزِين) الذي يتضمّن بدوره مجموعة من الغرف عادة ما يستعملها أصحابُها لتخزين المواد الضّرورية مثل المواد الغذائية من زيت وتمور وغلال، وحتى بعض الأسلحة التي يستعملونها للدفاع عن أنفسهم ضد الغزوات الخارجية. وتعود ملكيّة هذه القصور الأثريّة إلى قبائل متعدّدة تستوطن مدينة مدنين إلى الآن. وقد كانت تستعملها زمن الحروب والنّزاعات التي كانت تحدث بين القبائل في ما بينها.

القصور الأثريّة .. ذاكرة شعْب:

كما تستعمل في هذه القصور الأثريّة فضاءات تُعقد من خلالها اجتماعات القبائل المختلفة. فيتشاورون في شؤونهم وفي مختلف القضايا السّاخنة التي تهمّهم من مثل النّزاعات التي يمكن أنْ تحدث بين القبائل بين الفيْنة والأخرى. وعادة ما يكون لهذه الاجتماعات هيْئة عُليا هي التي تتدبّر الحلول وتُنصِف المظلوم وتخطّط لما يمكن أنْ يطرأ من أحداث تهمّ هذه القبيلة أو تلك. فيتحوّل دور الاجتماعات فى هذه القصور الأثرية من الثّقافي والتّاريخيّ إلى ممارسة دورها الاجتماعيّ والتّوعويّ والنّظر في مشاغل القبائل ومشاكلهم.

■ هذه الفرقة أدرجت هذه السنة ضمن قائمة التراث العالمي اللا مادي لمنظمة اليونسكو
طائفة غبنْتنْ.. نحو العالميّة:

ومن حسن حظّ صديقي أنّ هذا اليوم كان مخصّصًا لإقامة نشاط ثقافيّ ببهو القصور الأثرية تُؤثثه طائفة “غبنتنْ للفنون الشّعبيّة” وهي طائفة لها تاريخ كبير وحافل بالنشاطات الثقافية أهَّلها إلى أن تكون حاضرة في مختلف المناسبات الثقافية والوطنية. وتقديرا لإشعاعها وفنها فقد تمّ إدراجها مؤخّرًا ضمن التّراث اللاّماديّ بالقائمة الدّوليّة لمنظّمة اليونسكو. فقد استمتع ضيفي بمختلف العروض الموسيقيّة والشّعريّة والعروض الفرجويّة التي تقيمها هذه الطائفة داخل أرْوقة القصور الثّقافيّة.

الأسْواق الأسْبوعيّة.. خيْرات بلادي:

غيْر بعيد عن القصور الثّقافيّة تخيّرتُ أنْ أصطحب ضيفي إلى الأسواق الأسبوعيّة التي تتوسّط المدينة ويرتادها كلّ متساكي القرى والمعتمديات المجاورة ويتوافد عليها التّجار وباعة الخضر والغلال من كلّ ولايات الجمهوريّة التونسيّة عشيّة يوم السّبت وصباح يوم الأحد. ذلك أنّ اقتصاد الولاية يتوزّع على مجالات مختلفة كالتّجارة البينية والسّياحة والفلاحة مثل الزيتون التي تعتبر من أكثر الأشجار شيوعًا وانتشارًا بولاية مدنين ومصدرًا رئيسيًّا لزيت الزّيتون إلى الدّول الأوروبيّة وتربية الماشيّة وصيد الأسماك والسّلع المستوردة من القطْر الليبيّ والجزائريّ.
لقد سعدتُّ كثيرًا وأنا أتابع انبهار ضيفي بتنوّع الأسواق وتفاعله الدّائم مع الحركيّة التي يشهدها السّوق الأسبوعيّ ليذكّرني من حين لآخر بأنّ الأسواق في ولاية مدنين تُشبه إلى حدّ كبير الأسواق الأسبوعيّة عندهم في طرابلس وقُراها. كان ضيفي يرافقني مستفسرًا حينا مستحثًا الخطى حينا آخر ثم ما يلبث أنْ يتوقّف في مدخل الزّقاق مُنبهرًا بأبواب المدينة العتيقة التي تزيّنت باللّون الأزرق، وقد انتصب أمامها الباعة عارضين منتوجاتهم الفلاحيّة مُتباهين بجوْدتها وملاءمة سعرها للحريف.

مدنين العاصمة الإداريّة والاقتصاديّة:

ها نحن على القنطرة بشارع الحبيب بورقيبة، أكبر الشوارع بمدينة مدنين وأطولها، يكاد من علوّه يُطلّ على الجزء الشرقيّ من المدينة. تخيّرنا مكانا مفتوحا يسمح لنا بمراقبة السوق الأسبوعيّة. فيتناهى إلى أسماعنا صوت الباعة على اختلاف أنواعهم وقد جلبوا معهم أصنافًا مختلفةً من الخضر والغلال وسلعا متنوعة سريعا ما تفطن ضيفي أن جزءًا كبيرًا منها قدم من ليبيا عن طريق التجارة البينية بين القطرين التونسي والليبيّ.
كان ضيفي يُشير بإصبعه من حين لآخر إلى الأبنية العصريّة الشّاهقة التي تتجمّل بها ولاية مدنين وتعانق من خلالها الحضارة والحداثة. فولاية مدنين تعدّ أحد أبرز المدن التي تعرف بأنّها عاصمة اقتصاديّة وإداريّة في آن. فكلّ المعاملات الإداريّة والإقتصادية تنجز في مدنين المدينة نظرًا لتعدّد المعتمديّات المنضويّة تحت إدارتها إذْ تعرف إقبالا كبيرًا من قبل المواطنين خاصّة في بداية الأسبوع من جربة وجرجيس وبن قردان وسيدي مخلوف وغيرها من المعتمديّات.
تلك الأبنية الكبيرة التي تعلوها تماثيل تطلّ بدورها على كروم الزّيتون من كلّ ناحيّة كانت تشدّنا ونحن نغادر الأسواق متّجهين إلى المكتبة الوطنيّة الكبرى التي تُعد أحد أبرز المعالم الثقافيّة بالجهة، يرتادها الطلبة والباحثون، ويحرص المشرفون عليها على إقامة الأنشطة العلميّة والترفيهية لكلّ مرتاديها.

مدنين ترحّب بضيوفها:

لا شكّ أنّ هذه الرّحلة الموجزة التي قمنا بها في ربوع ولاية مدنين هي رحلة شيّقة وطريفة. غنمتُ من خلالها الكثير، إنّها جولة ممتعة أطلعتكم من خلالها على سحر مدينتي، تمامًا كما أطْلعتُ ضيفي. واصْطحبتكم فيها كما اصْطحبت ضيْفي القادم من طرابلس، رحلة ولا شكّ أنّها ستُغري الكثيرين بزيارة مدينة مدنين ومشاهدة مواطن جمالها واحتفالها بالجبل والبحر وتعايش مختلف الجاليّات العربيّة فيها (التونسيّة والجزائريّة والليبيّة والمصريّة والسّودانيّة) باعتبارها نقطة عبور، وهو ما يُؤهلها لتكون مدينة مُنفتحة على غيرها مُتسامحة مع زُوّارها حالمة بمستقبل واعد. رحلة أنهيتُها باتّفاق مع ضيْفي على أنْ تكون الرّحلة القادمة إلى بقيّة المعتمديّات الدّاخليّة لولاية مدنين.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى