الشعر قرين حياتي

إبراهيم السعافين
Latest posts by إبراهيم السعافين (see all)

أومن إيمانًا شديدًا بأنّ الجمع بين النقد والإبداع ليس ممكنًا وحسب، ولكنّه أمرٌ طبيعي بل بديهي، لأنّ المبدع الحقيقي أو الأصيل ناقدٌ لنصّه، يمعن النّظر في لغته، ويتأّمّل صوره وأفكاره، ويرجع النظر في بنائه. يحذف ويضيف حتى يستوي نصًّا يرضى عنه من جوانب مختلفة.

تذوّقتُ الشعر، ثمّ دخلت عالمه قبل أن أدخل عالم الدراسة الأدبيّة والنقد بزمن طويل. فالشّعر يستجيب بسرعة وطواعيّة لما يعتمل في نفس الإنسان من مشاعر داخلية أو ما ينعكس فيها من تجارب خارجيّة. ولعلّ أهمّ ما كان يقلقنا منذ الطفولة ما يواجه وطننا العربي من تحدّيات. وأذكر أنّ أوّل استجابة شعريّة تلقائيّة لي كانت في المرحلة الابتدائية في إبّان العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، حين لم أكن قد عرفت العروض ولا معايير الشعر فقلت كلامًا موزونًا قد لا يمثّل أصالة الشعر وشروطها:

أيا بور سعيد حالةٌ ** يُرثى لها عند الكلام

إلى أن بدأت أكتب الشّعر وأدوّنه في كرّاسات أضنّ بها وأحافظ عليها. شاركت فيها في نشاط الجمعيّة الثّقافيّة في المدرسة. عارضت قصيدة كتبها الشاعر الكويتي أحمد السقّاف يمجّد الثورة الجزائريّة ويفضح جرائم المستعمرين. قال أحمد العدواني:

قليل أنّ أزفّ لك التجلّة ** وأن أشدو بفضلك يا ابن بلّة

فأنت البدر في فلك المعالي ** وصحبك لا عدمناهم أهلّة

فقلت معارضًا وأنا في المرحلة الثانويّة:

جليل أن أزفّ لك التهاني ** وأن أشدو بفضلك بالأغاني

ًاأحمد إن فضلك قد تعالى ** إلى الآفاق منطلق العنان

فمجدك في سبيل العرب نورٌ ** يضيء بهديه داجي المكانِ

وعارضت قصيدة شوقي التي مطلعها:

رمضان ولّى هاتِها يا ساقي ** مشتاقةً تسعى إلى مشتاق

بقصيدة أذكر منها:

رمضان أقبل عالم الإسلامِ ** فاهنأ بمقدمه البهيج السّامي

أنر المآذن، جدّد الحفل الذي ** عبّرتَ فيه على مدى الأعوام

رمضان شهر قد تعالى قدره ** خطّتْ يداه مفاخرَ الإسلامِ

وكتبت قصائد من شعر التفعيلة منها قصيدة مداعبة لصديقي يوسف الفيومي الذي ينحدر بأصوله من صعيد مصر أرسم فيها لوحة واقعية متخيلة عن حياة مصر والمصريّين.

كنت عضوًا في اللجنة الثقافية في المدرسة التي تحتفي بالشعر خاصة، وكنت أشارك في نشاطاتها ببعض القصائد.

وحين التحقت بقسم اللغة العربية بكلية الاداب بجامعة القاهرة كان المجال أمامي واسعًا للمشاركة في نشاطات الكلية، في مجلات الحائط وفي الندوات الشعرية في الكلية وخارجها ولاسيما في الجمعية الأدبية المصرية، وكلية دار العلوم بالمنيرة. كنت دائم الحضور في نشاطات الجمعية الأدبية المصرية، وكان أعلامها يقومون بأنفسهم بتقديم ناشئة الشعراء الشباب فقد حظيت بتقديم أمثال صلاح عبدالصّبور وعز الدين إسماعيل، وحظيت بتعليق شكري عياد على قصيدة لي كان عنوانها “الفارس والساعة” تصور الفارس يغط في نوم عميق والزمن يمضي بسرعة. كان لهذه الرعاية أثر كبير في نمو تجربتي الشعرية ولا أنسى رعاية عبدالقادر القط الذي قرأ مخطوطي الشعري ونشر لي بمشاركة محمود حسن إسماعيل في مجلة “الشعر” قصيدة “البرتقالة الحزينة” ثاني قصيدة بعد قصيدة عز الدين إسماعيل، وقبل قصيدة صالح جودت. ولا أنسى فضل أساتذتي أمثال عبدالحميد يونس ويوسف خليف وعبدالمحسن طه بدر. أذكر أنني كتبت قصيدة عنوانها “نهاية ملاح” أصوّر فيها صراع ملّاح ضد أمواج البحر العاتية ينتهي بموته، فانتقد النهاية الرومانسية وقال لي: ماذا ستضيف إلى شعر إبراهيم ناجي وعلي محمود طه، فغيرت جوّ القصيدة ونهايتها. وأذكر أنّه ميّزني في امتحان شفوي مع أستاذتي سهير القلماوي بأن قال لي أمامها: أنت شاعر.

وكانت أستاذتي زاكية رشدي تسمح لنا بإقامة حفلات أو ندوات بعد درسها في اللغة العبرية حيث أوزع بعض قصائدي على الزّملاء للمشاركة في القراءة.

لقد كان لهذه المرحلة أثرٌ كبيرٌ في تجربتي الشعرية إذ حظيت بصحبة شعراء على مقاعد الدراسة مثل حسن توفيق وحسن الكسواني وعز الدين المناصرة، وتعرفت عن طريق زميلي وصديقي سيد الشرنوبي على أستاذه أمل دنقل، وتوطدت الصلة في نشاط الجمعية الأدبية المصريّة.

ولا أنسى في هذه المرحلة ما أتاحته إذاعة فلسطين التي كانت تبث من إذاعة صوت العرب في شارع الشريفين ثم من مبنى ماسبيرو على الكورنيش. كان المذيع الشاعر خليل عيلبوني يخصص لي مساحة في برنامجه في هيئة مقابلات أو قراءة قصائد، لدرجة أن مدير الإذاعة آنذاك وهو علي هاشم رشيد كتب لخليل عيلبوني: ليس من المعقول أن تُقتصر الإذاعة على شاعر واحد.

على أنّ أمرًا كان يُزعجني في ممارسات بعض زملائي وأصدقائي الشّعراء، وهي الظّهور بمظهر المختلف والمغاير للآخرين من النّاس، حين يحاولون أن يقوموا بتصرّفات توحي بالتميز أو المغاير حتى غدا لديّ نفور من صحبة الشعراء وتصرفاتهم، وزاد نفوري من تضخم الذات لدى بعضهم ومحاولة الادعاء بالتفرد والعبقرية. كنت أومن وما زلت بالرّأي القائل بأن الشّاعر والمبدع عامة لا يتميّز عن الآخرين في النّوع ولكن في درجة الإحساس، على أنّ عمق الإحساس، إن جاز التعبير، لا يبيح للشاعر أن يتميز من خلال طبيعة النّوع أي الرّتبة الإنسانيّة. لكن هذا النّفور استحال مع الزمن إلى تسامح ومحاولة تفهّم لبعض من يغلون في تضخيم الذّات.

لم يبارحني الشعر في مرحلة الدراسات العليا فقد غصتُ في تراث الشعر العربي القديم وعكفتُ على قراءة شعر الإحيائيين، أحسست أنني أمتلئ بالشعر، لكنني لم أجد دافعًا للكتابة الحثيثة، ووجدت أن استغراقي في بحثي ملك علي أقطار نفسي، وكأنّه في تلك المرحلة لم يشأ أن يشاركه أي لون من الإبداع باستثناء حالات قليلة أو نادرة.

لكنني بعد الفراغ من مرحلتي الماجستير والدكتوراه عدت تلقائيًا إلى صديقي الشعر ولم يفارقني طوال هذه السنين.

لم يفارقني الشعر على مستوى النظرية والإبداع، فقد تابعت تحولات الشعر العربي والعالمي إبداعًا وتنظيرًا.

لم أنقطع عن الكتابة، ولم أغادر الساحة الشعرية، شاركت في مختارات من الشعر الحديث في الأردن عام ١٩٨٣، وفي مختارات من الشعر الحديث الذي أصدرته رابطة الكتاب الأردنيين عام ١٩٩٣، وفي معجم البابطين للشعراء المعاصرين عام ١٩٩٥، وفي أماكن أخرى.

وليس من شك في أنّ تفاعلي مع حركة الشعر من زاويتي النظرية والإبداع قد أثّر في تجربتي الشعرية، ولكن دون أن أحاكي أو أقلِّد، لقد كان الشكل واللغة لصيقين بالتجربة، ولم أسمح للصّرعات أن تقودني إلى حيث لا أريد.

عدت إلى الشعر بحماسة شديدة لأن دواعيه أصبحت كثيرة تستجيب لمًا يمور في داخلي من مشاعر وتجارب وأفكار.

لي خمسة دواوين منشورة وأعد ديوانًا سادسًا للنشر إلى جانب حصيلة شعرية قديمة مخطوطة قد أختار منها ما ينشر قريبًا. الشعر قرين حياتي بل هو جزء لا يتجزأ منها، أعبر به عن الفكرة والموقف والشعور في مختلف التجارب والأحوال.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى