“التانغو” في الرواية العربية

عن الموسيقى وقد صارت فاعلًا روائيًّا مهمًّا

يتعزَّز حضور الموسيقى، بالأحرى فعلها، في الرواية العربية من جيل إلى جيل. فبعد أن كان ذلك نادرًا أو محدودًا أو رمزيًّا أو عابرًا، أخذت الشخصية الروائية الموسيقية تلعب دورًا مركزيًّا في العزف أو الغناء أو الرقص.

 كما أخذ فعل الموسيقى في الزمن الروائي وفي البناء الروائي يصير حاسمًا، فيشكلهما وحده أو بالتفاعل مع عناصر أخرى تترك له الحسم والصدارة. وقد تأثرت اللغة الروائية بالموسيقى، وحسبي أن أذكر روايات إدوار الخراط، وقبله بديع حقي. أما للشخصية أو الزمن أو البناء فحسبي أن أذكر روايات (السفينة) و(جيل القدر) و(الشمس في يوم غائم طويل) لجبرا إبراهيم جبرا ومطاع صفدي وحنا مينه، على التوالي. وإذا كانت هذه الأمثلة تعود إلى عقود خلت، فمن العقد الماضي وحده أضرب مثلًا بروايات: إبراهيم عبدالمجيد (أداجيو) ولطيفة الدليمي (عشاق وأزمنة وفونوغراف) وعلي بدر (عازف الغيوم) وربعي المدهون (مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة) ومحمود عبدالغني (معجم طنجة).

 وقد سبق لي أن كتبت عن جميع هذه الروايات، وعن سواها. لكن المؤكد هنا هو في روايات أربع تجسد الفعل الموسيقي فيها في التانغو.

ميّ خالد: مقعد أخير في قاعة إيوارت – 2005

ينهض بناء هذه الرواية في فقراتٍ عناوينها أعمال أدبية (ماكبث– كرامازوف– قصة مدينتين…). والفقرات أقرب إلى قصص سيرية من الطفولة ومن الدراسة الجامعية. ولا تفتأ الأغاني تنهمر على موني وصديقها آدم، مثل أغنية The war we were (هكذا كلنا) التي يترجمها آدم لموني. ويقترح أن يسمعاها معًا كل يوم في العاشرة مساءً/ أغنية داليدا التي تدندن بها موني: (قول يا حبيبي إنت سايبني ورايح فين)/ أغنية كوبا كابانا لباري ماينلو على إيقاع الصالصا الراقص، والتي يرددها الثنائي العاشق.

تظهر شخصيات الرواية غالبًا مدمنًة على الموسيقى: الأغنيات الأجنبية من البرنامج الإذاعي (العالم يغني)/ ما يتدفق من جهاز التسجيل/ داليا التي تنصح موني بالاستماع إلى أغاني خوليو إجليسياس، ومنها أغنية je n’ai pas chsnge وأغنية vous les femmes بلكنة فرنسية مكسرة.

 وفي الرحلات الجامعية يهزج لموني وشيسكا كاسيت داليدا (أغاني أغاني أغاني/ وحشاني كتير وحشاني). أما في السيارة فيهزج لموني وشيسكا وناندو الكاسيت: (دايمًا ويّاكو/ روحي سمعاكو/ غايبة وهايمانة/ في أغاني هواكو).

 وبعد مصرع منصور في الهجوم الإرهابي على وزارة الداخلية، تدمن موني – لأربعة أشهر – على أغنية (دي أغاني بلادي/ زادي وزوادي). وحين يكون موني وآدم على موتوسيكل يغنيان (حيرتني بهواك). وفي مسابقة الرقص تعلو أغنية قديمة تعشقها موني وهي (ملكة الرقص) لفريق آبا. وموني منذ كانت في السابعة عشرة يدللها الجميع بملكة الرقص.

على هذا النحو يوقّع الغناء للرواية ويفتح القول. واللافت أن الغناء يقترن غالبًا بالسيارات: هذا إيهاب يقود السيارة بجنون، بينما يهدر شريط الغجر كأمواج عنيفة، فيتفجر السؤال عما إذا كان ما يرضي في الأغنية الإسبانية هو أنها توحي بعنفوان البحر.

وفي سيارة البيجو 304 يتجاور موني وآدم بينما تتوافق الخلفية الموسيقية مع الموسيقى المعتدلة، ويسري الدويتو الغنائي بين هدى حداد ومطرب مجهول، فتغني موني مع هدى (وحياة عشرتنا وتراب جيرتنا/ حبيتك.. حبيتك)، ويغني آدم مع المطرب، ثم يغنيان معًا.

 في (كونشرتو رقم 1 للبيانو والأوركسترا) تحضر موني محاضرة (مقدمة إلى الموسيقى) للأستاذة الزائرة صاحبة البرنامج التلفزيوني التي حاضرت في الدور والطقطوقة والمقامات: نهاوند ورست وصبا.. وحاضرت في الأوبرا والسيمفونية والكونشرتو والسوناتا، وها هي تحاضر في الفرق بين السوبرانا والميزو سوبرانو، وبين الألضو والتينور، بينما الطلبة يضحكون ساخرين من انطلاق الحنجرة القوية لمغنية السوبرانو، ولذلك تتوقف محاضرات الأستاذة.

للموسيقى الكلاسيكية حضور آخر في الرواية، عبر استماع موني وهي تقود السيارة لما يبثه البرنامج الإذاعي، ومنه مقطوعة موني المفضلة: كونشرتو1 للبيانو والأوركسترا لشوبان. ومع تصاعد الحركة الثالثة في الكونشرتو، تشعر موني بأن ما يجول في صدرها ينبض بانتظام مع دقات قلبها، بينما يعلو النغم ويتوحد مع شجونها، فشوبان يغازل أحاسيسها!

وفي ختام الرواية يأتي حفل التخرج في الجامعة، الذي يقام في قاعة إيوارت التذكارية. وتحدو لموني الموسيقى الأوركسترالية لفيردي وهي تعبر في الممر بين المقاعد. ويحضر الكورال بقيادة المدرب مرجان، فيغني الفريق بعد المقدمة الموسيقية موشح (يا غصن نقًا مكلّلًا بالذهب/ أفديك من الردى بأمي وأبي).

 وقد جعل مرجان أداء الموشح صعبًا جرّاء التنويعات وتداخل الأصوات والنغمات المشتقة، مما ابتدعه مرجان الذي يبتسم رضيًّا حين يمرر عازف الكمان القوس على الأوتار في سلام مربع، وحين يحتضن مصطفى الطبلة، وتأتي لمياء بالصجات، ويغزو الجميعَ الكمانُ بميوعة ودلال المطربة شادية. وفي صباح العرض الأخير للكورال، تملأ موني المقعد الأخير في قاعة إيوارت (عنوان الرواية) ويتكاثف العمر الجامعي وهي تنبض: “لم تعودي قطعة من هذا المكان، وإن كان هو قد صار جزءًا منك”.

مي خالد: تانغو وموال – 2011

كما في الرواية السابقة، تبدو هذه الرواية كأنها مكتبة موسيقية، وكأن الموسيقى تتواجد بالبشر، وإذا بكل شخصية روائية تحمل أيضًا اسم آلة موسيقية. فالراوية المذيعة السابقة ونزيلة المصحة النفسية: فيولا رفعت، هي الفيولا الرقيقة، ورياض الصاخب هو: طبول، وحسين المخادع هو الساكسفون، ومهجة هي الجلاجل والصوت الرفيع، ومروان الطبيب الملاذ هو البيانو.

وقبل ذلك، أسرة فيولا مثل تلك الشخصيات الروائية الموسيقية. فالأم آريا يعني اسمها الغناء المنفرد في الأوبرا، والأخت اسمها (تغريد)، وفيولا نفسها هي (رباب) أيضًا، فتجمع اسمي الآلتين الموسيقيتين العربية والغربية.

ليس لفيولا رفعت من لغة إلا لغة الموسيقى، بمصطلحاتها وأصواتها.

 هكذا يشتبك البيانو بالدفوف في حلقة الزار، ويترجّع مقام النهاوند في نقرات كعب المرأة العالي، كما يترجّع مقام العجم في خشونة صوت الرجل، أما مقام الصبا فللحزن.

إنها فيولا، الشخصية الموسيقية بامتياز، وقد ورثت مهنة والدتها آريا الأرجنتينية كمذيعة في البرنامج الموسيقي. وكانت الوالدة تعدّ دراسة عن الموالد الشعبية القبطية والإسلامية، لكنها توقفت. وبموت الأب في طفولة فيولا، واضطراب علاقتها بوالدتها، وإحباطات حياتها، تقرر الصمت/ الخرس، وتنتهي إلى المصحة النفسية، والبرنامج المحلوم به (تانغو وموال) يظل حلمًا، والتفاعل الموسيقي الروائي في هذه الرواية، يعلن عن شخصية، جبلّتها هي الموسيقى.

واسيني الأعرج: مملكة الفراشة – 2013

لهذه الرواية عنوان فرعي داخلي هو “نحن أيضًا نحب التانغو ونرقص على جسر الموت”. وسوف يختم الروايةَ هذا العنوان.

تصرع حرب العشرية السوداء في الجزائر الزبير، والد يامّا الصيدلانية عازفة الكلارينات. ومن نشأتها ترسم الروايةُ علاقة يامّا بآلتها المفضلة التي كان أستاذ اللغة العربية يمنعها من العزف عليها، بينما كان أستاذ الموسيقى الفرنسي- البلجيكي أندريه غريتي يقول: “الكلارينات هي التعبير الأرق عن الألم، عندما تنبعث منها أنغام الفرح تُضفي على ذلك لمسة حزن، لو كان يسمح بالرقص في السجون، كنت طلبت أن يتم ذلك على أنغام الكلارينات”.

كانت يامّا تهرب من عالم الحرب والموت إلى العالم الافتراضي، إلى وسيلتها الوحيدة لرؤية الحياة: الحاسوب. فعالم يامّا هو مملكة الشاشة الزرقاء. وبإزاء الهرب، كانت يامّا أيضًا تتحدى الموت والحرب بالموسيقى التي ساعدتها على الخروج من دوامة القتل. وكانت قد شكلت مع مجموعة من الشباب فرقة (ديبو جاز) الموسيقية. وكانوا يتدربون في مخزن عائد إلى جد أحدهم، لكن الحرب بددت الشمل، فالمتطرفون حرّموا الفنون، وقتلوا واحدًا من الفرقة ففرقها الذعر، وأصاب الاكتئاب يامّا التي سافر حبيبها فادي المسرحي إلى إسبانيا لعرض مسرحياته، فغدا نجمًا، وهو من كان يدهش العاشقة بعزفه، فتتساءل: “كيف تستطيع آلة صغيرة تسكن بين كفيه أن تغير مزاج الحضور، وتصنع عالمًا موازيًا غريبًا؟”.

بالموسيقى كانت يامّا تنتقم من ثقافة الموت ومن ثقافة السلطة، وترسم الفراشات. وقد عادت إلى فرقة (ديبو جاز) بعد سنوات، آملًة بمعالجة الانكسار. وتقرر مرافقة الفرقة لإحياء مهرجان الجاز في جنوب إفريقيا. ويلحظ هنا زحام أسماء المهرجانات الموسيقية وأعلام الموسيقى في الرواية (مهرجان سان فرانسيسكو- مهرجان فيينا للجاز– سترافنسكي- كارل جنكيز- فرانسيس بولانك – داريوس ميلهود – مهرجان مونتريال..).

 كما تصدح في الرواية الآلات الموسيقية، فسوى الكلارينات، ثمة القيثارة والهارمونيكا والبيانو والساكسو…

وقد اختتمت الرواية بمشهد الرقص على الجسر، والأغنية تصدح: “في بلادنا نحب الرقص أيضًا/ نحب التانغو كثيرًا/ لكن لا أحد يدعونا للرقص أيضًا/ نحب التانغو كثيرًا/ لكن لا أحد يدعونا للرقص على جسر العشاق/ التانغو ليس للأغنياء فقط/ نشرب …، تانغو وننتشي/ ونرقص مع الأشباح على جسر الموتى”.

شادية الأتاسي: تانغو الغرام – 2020

ربما كان السؤال المستبطَن في العلن، في رواية (تانغو الغرام) هو: هل للتانغو لحظة أو مطرح في زمن الحرب، وبالضبط في زمن الزلزال السوري المتفجر منذ عام 2011؟

ولأسرعْ إلى الجواب الذي تنبض به الرواية، وهو أن لا لحظة ولا مطرح لموسيقى التانغو في سوريا منذ 2011 وإلى يوم لا يبدو قريبًا.

من بيان ذلك ما ترويه الراوية التي تعمل في الإعلام عن حياتها الزوجية مع الصحفي خالد الذي تكشف عن شخصية مشبوحة بين المثقف الحر والنرجسي المعقد، حتى إذا حدثته عن حبها الأول بدأ الارتياب يسكنه. وبالتوازي مع الزلزلة السورية أخذت الحياة الزوجية تتزلزل، فحاول خالد أن ينأى بنفسه، وماتت والدة الراوية في مدينتها “حمص”، واختطفت صديقة لها مع زوجها، وهاجرت أختها. وبينما ظلت هي متشبثة بالمقام في “دمشق”، قرر خالد الرحيل إلى ألمانيا “شتوتجارت”. لكن الراوية وابنتها نادية ستلحق به، حيث يحاول استعادتها، لكنها كانت قد أدمنت العيش في عالم من كلام وخيال هو عالم روايات الروائي عمر السمان.

بحثت الراوية عن كاتبها حتى جمعهما السكايب. وكان هذا الخمسيني لاجئًا العلماني على الحدود التركية، حيث يرى المقاتلين الإسلاميين يعبرون إلى سوريا، وقد التحق بهم زوج ابنته كريم.

 وعلى إيقاع الحرب توطد العشق الافتراضي، إلى أن قرر أن يعود إلى سوريا، فرفضت الراوية العاشقة اللحاق به.

في المنفى/ الملجأ تلاحظ الجارة الإيطالية ماتيلدا انفصام الراوية، فتحثها على البحث عن الكاتب/ الحلم، لكنها الحرب/ الزلزلة التي تقوض التانغو، ابتداءً بالغيرة والتعصب، ومرورًا بالجغرافيا، وليس انتهاءً بالحب.

 فالتانغو لا يقوم إلا بقطبين – جسدين وروحين – أرهفتهما الموسيقى، فاندغما في اللحن والحركات. لكن الماضي يداهم الحاضر، منذ نشأة الراوية في “حمص” في الوسط المحافظ، بينما يداهم الحاضر المستقبل، فيتقوض التانغو بين الزوجين، ثم بين الكاتب وعشيقته، لتبقى رقصة التانغو في فندق في جبال الألب نداءً لائبًا، ونقرأ في الختام: “وكأن الأمر أشبه ما يكون بالرقص على إيقاع رقصة التانغو: اجتياز كل خطوات اللف والدوران والانثناء والانحناء والالتصاق، ثم الاستسلام الكامل إلى نشوة ذلك الدوران اللذيذ وانتظار إيماءة الطرف الآخر”.

دلع المفتي: رائحة التانغو – 2014

تعبق هذه الرواية بالروائح التي تُعَنْون فصولها: الزعتر – الزعفران – النعناع – السيجار… وأولها البصل، وآخرها الدم، فأين رائحة التانغو إذن؟

على الرغم من نثار الشخصيات الذي تكاد الرواية تضيق به، فهي تتمحور حول زهرة التي آلت حياتها الزوجية إلى جحيم، جرّاء انغماس الزوج (الشرقي) عادل بأعماله التي ستبين أنها تجارة السلاح لطرفي الصراع في سوريا. وهربًا من الجحيم افتتحت زهرة جاليري وأقامت معرضًا لرسوم أطفال سوريين، يخصص ريعه لمساعدة ضحايا الزلزلة السورية. وفي حمأة الهرب تلتقي زهرة بالأمريكي بيل ذي الأصل الأرجنتيني – من أمه – حيث نبع التانغو. وستجمع “بيروت” بين العاشقين زهرة زبيل الذي يناقض عادل، فالأول – مثلًا – يحب العرب، بينما يشتمهم الثاني ويتعالى حتى على أبناء بلده “الكويت”.

وفي “بيروت” يرقص العاشقان التانغو، ويهمس بيل لزهرة: “التانغو يشعل الحميمية بين المحبين ويحرر مشاعرهم، فتحرري”. لكن السبيل ليس مفروشًا بالرياحين، وثمة ما يشوش، بل يزعزع التانغو والحب. ففي “بيروت” تلتقي زهرة بمن تعده شبيهًا لها: الطفل السوري علي اللاجئ الذي يبيع الورود ليعيل أسرته. وخلف زهرة زمنها الكويتي، حيث الأخت التي تنتسب إلى الجماعة الدعوية السورية – وهي القبيسيات – أو الأخ الذي يقترف مع زهرة سفاح القربى… فإذا بكل الوجوه “التي اضطهدتني كانت ترقص أمامي التانغو: أبي، جاسم، عادل، بيل، وحتى أخواتي”.

***

من المفردات الموسيقية ما عنون بعض الروايات – مثل (عزف منفرد على البيانو) لفوّاز حداد – أو المجموعات القصصية – مثل: (عزف منفرد على الكمان) لجورج سالم. وقد قرأتُ أخبارًا عن روايات لم يُتح لي أن أقرأها بعد، ويُعَنْونها التانغو، مثل (ظل التانغو) لدلال عبدالغني، و(راقص التانغو) لمحمد سالم. ومن الروايات العالمية الباهرة، والمترجمة إلى العربية، أذكر رواية الكاتب المجري لاسلو كراسنا هوراكي (تانغو الخراب). وما جماع ذلك إلا توكيد من بعد توكيد على أن الموسيقى قد صارت فاعلًا روائيًّا مهمًّا.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى