“الديبة”.. زوارق للصيد ومراكب للهجرة

تقول الحكاية التي يعرفها الأطفال، إن عائلة من عائلات الصيادين قرب “بحيرة المنزلة” نزحت إلى هذا المكان المقفر الذي لم يكن به حس أي إنسان. وأقامت بيوتًا من الصفيح، وصنعت مراكبها، ورتقت غزلها القديم، ثم ذهب أفراد هذه العائلة للصيد. ولما عادوا اكتشفوا أن الذئاب قد هجمت على المكان وأنشبت أنيابها في أجساد الصغار، وحتى النساء اللاتي هاجرن مع أزواجهن تعرضن لتلك الهجمات الشرسة. فجمعوا نقودًا، وامتنعوا عن الصيد، وعاشوا على الخبز اليابس، وكلما اكتمل مبلغ من المال أرسلوا إلى المدينة مَن يشتري لهم بنادق، وبالفعل رجع رسولهم وبيده ثلاث بنادق.

كمن الرجال في مدخل القرية، وحين جنّ الليل شاهدوا الذئاب تتسلل تحت جنح الظلام، فصوبوا عليها فوهات بنادقهم، وأطلقوا الرصاص الحي، فسقطت أربع جثث، وهو ما يعني أن صيادًا منهم تمكن من إصابة ذئبين! وفي الصباح الباكر تفقدوا المكان، ورأوا خيوطًا من الدم في اتجاه البراري فأدركوا أن ثمة ذئاب جريحة قد هربت بجراحها الدامية.

ومنذ ذلك الوقت امتنعت الذئاب عن مهاجمة القرية، وسمَّى الأهالي المنطقة باسم “الديبة”، ولا يزال هذا المسمَّى قائمًا مع تسليمنا بوجود شق أسطوري في الحكاية.

3 رميات:

يشتغل أغلب سكان القرية بالصيد، وحسب حديث الصيادين فهناك ثلاث رميات أساسية يعرفها المخضرمون: رمية الفجر، وهي رمية مباركة لأن السروح للبحر في غبش الصباح يجلب خيرًا كثيرًا، ورمية بعد صلاة العصر، أما الرمية الثالثة فتحدث عندما يزور البلدة ضيوف، وتسمى رمية “الزفر”، وهي تحدث في الأفراح وأحيانًا في المآتم.

■ شباك الصيادين على عربات خشبية، في نوبات الراحة

يشتغل الصيادون وأعينهم تراقب الطريق، وعند ظهور أي غريب يكون من حقه تناول الطعام، وهو من السمك بأنواعه، تجهز النسوة أفضل الأصناف منها في أطباق مخصوصة: مشوي، مقلي، صيَّادية، وسنجاري.

والمراكب أنواع، من أبرزها ما هو مخصص للرمي ويسمى البحر “الضهيرة”، أشهر طرق الصيد “الجرفة”، حيث تتعاون مركبتان للدخول في العمق، وكل منهما تمسك بطرف من الغزل بينما المنتصف معد لجرف الأسماك، يطلق عليه اسم “الرزق”، يظل رجلان يرخيان الغزل لمسافة تقترب من 50 مترًا، ويشد الغزل منهما أعلى المركبين حتى يصلا إلى الشاطئ، ويتم تخليص الأسماك بسرعة، وتشاهد القشور الفضية تلمع حين تنعكس أشعة الشمس على أكوام السمك.

الطريقة القديمة كانت تعتمد على الصيد الفردي، وفيها يهبط الصياد بالشباك لعمق البحر، بعد ربط أحد الطرفين على الشاطئ بوتد حديدي مدقوق دقًّا عميقًا في الأرض الرخوة، ثم يدور بنفسه بالمقدار ذاته ليصنع قوسًا واسعًا يأخذ في الضيق حتى يقترب الطرفان، وفي منتصف الشباك يكون “الرزق” وفيرًا.

يقسم البحر إلى مناطق معلومة، ولكل عائلة منطقة محددة تسمى “مائية”.. ويمنع قانون الصيد العرفي اعتداء عائلة على مناطق العائلات الأخرى. وإذا حدث تجاوز مقصود فهناك جلسة عرفية لحل الخلافات، وقليلًا جدًا ما يحدث التعامل بالبنادق فهذا هو الذي يتم فقط مع الغرباء الذين يظهرون من وقت إلى آخر للسطو على المراكب، أو لنهب الشباك.

أنواع الأسماك:

نوعية الشباك هي التي تحدِّد نوعية الأسماك التي يتم صيدها، وهذا يعتمد على ضيق نوافذ الشباك أو اتساعها.

ومن أهم أنواع الأسماك والقشريات: الكابوريا (الحناجل)، البوري، الطوبار، الموسى (الغطيان)، السيوف، الجران، اللوت، السردين، والنوع الأخير قلَّ وجوده بعد بناء السد العالي سنة 1970، فلم يعد السردين يأتي بالغزارة ذاتها إلا مع موسم الفيضان العالي، وفتح الأهوسة.

وهناك نوع غريب من الصيد، يُقال عنه إن الصيَّاد “يحتّ”، وفيه يضع الفرد حزامًا قويًا وعريضًا فوق كتفه، مع عمل عقدة بطريقة معينة طولها حوالي 30 سنتيمترًا، ويبدأ في التحرك من داخل البحر، والعودة للبر مع وضع أثقال مناسبة للشبكة، وهذا “الحتّ” يحتاج إلى قوة جسمانية ملحوظة، ويحصل مثل هذا الصياد لو عمل لدى الغير على نصيب وافر “رجل وربع”، أو “رجل ونصف”، أو “رجل وثلاثة أربع” مع حساب نسبة لاستهلاك الغزل، أي الشباك.

وبعد عودة المراكب من رحلة الصيد تكون هناك عربات “نصف نقل” بالقرب من الشاطيء حيث يتم الوزن بـ”الإقة” لكن البيع للجمهور يتم بـ”الكيلو”.

وهذا الفارق يصب في مصلحة التاجر، إضافة إلى أن السمك حين يُباع، يكون ذلك بأثمان رخيصة جدًّا حتى أن مكسب التاجر في أغلب الاحيان يتجاوز الضعف. وأغلب السمك يتوجه إلى سوقين كبيرين: بورسعيد، ودمياط.

صيد الطير:

يتم تثبيت عدد من الأعمدة بارتفاع مترين ونصف المتر على امتداد الشاطيء، وعبر مسافات متباعدة تسمح بشد الشبك، وهي نوعان: شباك واسعة العيون، وشباك ضيقة العيون. فيأتي طائر السمان مجهدًا من أوروبا فوق البحر المتوسط، ويكون فاقد القدرة على الرؤية فيتخبط في الشباك، ويسقط ليتم جمعه باليد.

■ مبانٍ بسيطة تضمها القرية، والفراغات بين البيوت لمزيد من الخصوصية

ويقوم “صاحب المنصب” بتوزيع جزء من السمان كهدايا للأهل والجيران، أما الجزء الأكبر فيباع حيًا في المدن القريبة. وإلى عهد قريب كان البيع بـ” التورة” أي أربع طيور، ثم صار يباع بالفرد، وثمن السمانة يتراوح ما بين 15 ـ 25 جنيهًا حسب الحجم.

الهجرة إلى اليونان:

عدد كبير من الصيادين الذين كونوا ثروة من العمل على مراكب تبحر من موانيء اليونان، أو من بعض مدن الجنوب الإيطالي، عادوا بثروات معقولة، يستثمرونها في شراء سيارات “نصف نقل” لنقل الأسماك إلى السوق، أو شراء سيارات ميكروباس يعملون عليها سائقين على خط بورسعيد / دمياط.

وقد وقَّعت مصر على اتفاقية حوض البحر المتوسط الذي يوقف الصيد خلال أشهر: يوليو وأغسطس وسبتمبر، ولا يسمح باستعمال أي شباك إلا شبكة من طراز “الشنشلة” وهي غزل واسع الفتحات. ويمارس حرس السواحل مهمة التفتيش على المراكب ومعاقبة من يضبط في عملية الصيد خلال أشهر الحظر بمصادرة أدوات الصيد، والمركب ذاتها.

قيراط حظ، وفدان شطارة:

ارتفعت أسعار الشباك وموتورات المراكب، وهو ما دفع الصيادين لرفع أسعار السمك المُباع لتاجر الجملة. ولكن أحيانًا تعود المراكب من البحر “صائمة” أي بدون العثور على أسراب الأسماك، وتكون خسارة كبيرة للأطقم التي تعمل على ظهور المراكب.

قلّة الأسماك تكون نتيجة عوامل كثيرة منها: تجاوز الصيادين بالصيد في موسم الحظر، بدت المراكب في الإبحار إلى أماكن بعيدة، ومنها الصومال وإريتريا وجيبوتي، ولبنان والسعودية وليبيا.

وقد أسفر الصيد في هذه الأماكن عن مشاكل متجددة مع سلطات تلك الدول، وتتم محاكمة الصيادين بعد توقيفهم، أو سطو القراصنة على السفن وما عليها قرب سواحل الصومال.

وقد تنبهت مصر مؤخرًا لذلك، ووقعت عدة اتفاقيات لحماية الصيادين ولا سيما بعد احتجاز عدد من مراكب الصيد في مواني عربية مختلفة. وقد تم احتجاز 17 مركبا ذات مرة، وبعدها 54 في مرة ثانية، كما يقول الصحافي محمد مهران، وفي كل مرة تلعب الدبلوماسية دورًا في الإفراج عن الصيادين وتأخذ عليهم تعهدات بعدم تكرار الأزمة. لكن الصياد المصري يُطلق مثله القديم: “في الحركة بركة” ومثل آخر أصدق تعبيرًا عن موقفه “ساعة الحظ لا تعوض”.

يعتقد الصياد أن المهنة تحتاج إلى “قيراط حظ وليس فدان شطارة”.

الزواج ومراسمه:

بعد انفتاح الديبة على اليونان، أصبح هدف الشباب السفر إلى خارج البلاد، وقد واكب ذلك ارتفاع أسعار شباك الصيد وتموين المراكب، وصار من الصعوبة بمقدار شراء مراكب جديدة في ظل الارتفاع الفاحش في أسعار الأخشاب والمصنعية.

■ الشاطئ البكر، والبحر يرسل أمواجه للرمال في وداعة

تكاليف الزواج كلها بالدين، فيمكن شراء الحجرات كاملة: نوم، وسفرة، وصالون، وحجرة أطفال بالتقسيط المريح، بل أن نفقات الزفّة ذاتها تتم بالاتفاق؛ فتبلغ النفقات من 60 – 100 ألف جنيه، وحين يقترب الزفاف يتم جمع “النقوط”، وكتابة ذلك في كشوف يُحافظ عليها.

أثناء فترة توقف الصيد، يلجأ أهل القرية لاستخدام “الخلالة”، وهي عبارة عن رافعة من النوع الثالث، لها يد خشبية بطول متر ونصف المتر على هيئة فأس يثبت في طرفها جرافة حديدية تقوم بجرف “أم الخلول” وهي نوع من الأصداف التي يتمُّ تمليحها، ومعها يتم جمع الأسماك الراقدة قرب الطين.

يقول خالد محمد إبراهيم (29 سنة)، وهو من سكان الديبة، إنه لا يسمح بزواج الفتيات من خارج البلدة، لأن عالم الصيادين يفخر بـ”العزوة” ويجهز الشاب بيته من واردات اليونان وكريت وإيطاليا، ومن مصر كذلك.

يحضر العريس جهازه كاملًا من الحجرات، أما البنت فعلى أسرهن تحمل نفقات: التنجيد، وأدوات المطبخ، والقطن، والصيني، والسجاد، والستائر.

وتفضل الأسر تزويج بناتها في سن صغيرة فهي تخطب في سن يبدأ من 14 سنة حتى 19 سنة، وعقد القران يسبق حفل الزفاف بأيام.

خدمات قليلة:

عمدة القرية منصبه صوري، وكانت القرية عندما تأسست تضم عائلات كبيرة، وشهيرة، منها عائلات: الرودي، وأبو رجب، وأبو أحمد، وطه، وغيرها.

والمدهش في بناء البيوت هو أن الأب يبني بيته، وبالقرب منه بيوت الأبناء، ولذلك تراه يحيط قطع الأرض بأسوار واطئة، والمساحات المتجاورة باسم الصبيان فقط، أما البنات فهن سيذهبن إلى بيوت أزواجهن.

ويقول محمد البدوي خليل (50 سنة) إنه بالرغم من إدخال كافة المرافق إلى القرية فهي غير مملكة لكنه نظام “وضع اليد” الساري في أغلب الأماكن المتطرفة على امتداد الساحل.

كانت هناك مدرسة ابتدائية إعدادية. وحاليًا لا توجد سوى مدرسة ابتدائية ودار للحضانة.

كما يوجد مستوصف لعلاج الحالات السريعة قبل نقلها لتلقي العلاج الكامل في بورسعيد، ولا توجد فيها نقطة شرطة، وهناك سنترال صغير، وفي الطريق إلى المدينة الباسلة تقابلك قرى أقل شهرة، ومنها “المناصرة”، و”الجرابعة”، وبها بيت ثقافة فقير، وبه أخصائيون للرسم والسينما والأدب. ومن جهة مدينة دمياط توجد قرية شطا وكوبري البغدادي.

■ قرية الديبة تنتظر المستقبل في إشراق ومحبة وتفاؤل

حدثنا المصور مصطفى شنشن (65 سنة) عن حقيقة أن أتباع الطرق الصوفية كانوا أول من مروا بتلك البقعة الساحلية حيث تنصب موالد لكل من سيدي أبو المعاطي، ثم شطا، بعدها الشيخ علي الصياد، والشيخ سديد، ثم طابية الشيخ يوسف في رأس البر.

ومن الأحداث الدامية أن طلبة مدرسة دمياط الثانوية العسكرية، قد انفجر فيهم لغم من مخلفات الحروب حينما كانوا يستعدون لتدريبات رمي النار، حدث ذلك فترة الثمانينيات من القرن الفائت.

شوباش للعريس:

سالت عن تعليم البنات، فوجدت أن أغلب الفتيات ينتهين من المرحلة الابتدائية ويجلسن في البيوت انتظارًا لعريس قادم، وهذا لا يمنع وجود بعض الآباء المستنيرين الذين يصرُّون على إلحاق بناتهم بالمدارس الإعدادية والثانوية، حيث يسمح لهم بذلك في بورسعيد.

يؤكد لي محمد إبرهيم الرودي (54 سنة) أن الفتيات لا يعملن بالصيد نهائيًا لكنهن قد يلتحقن بالمصانع التي أقيمت في المنطقة الحرة، وبخاصة مصانع الملابس الجاهزة، ومزارع تربية السمان.

في مواسم الزواج تنتقل العروس إلى أقرب بيت لأقاربها مع صويحباتها قرب بيت العريس، وتسير الزفة في الشوارع الضيقة ويبدأ “شاوبش” الفرح بجمع “النقطة”. صائحًا بصوته العالي “شوباش” ثم يذكر اسم الرجل والمبلغ الذي يدفعه “ألف شمعة” ما يعني ألف جنيه، أو “مائة شمعة” أي مائة جنيه، ثم ينتقل صائحًا “الأخضر (ويعني به الدولار)، وفي الآونة الأخيرة ظهر اليورو كمنافس قوي لغيره من العملات الصعبة.

الميلاد والموت:

يحدث سبوع المولود كالتالي: قبل الاحتفال بيوم واحد تحدث “التبييتة”، وهي تعني وضع صينية فوقها سبع حبوب مختلفة كالشعير والأرز، والفول، والعدس، والذرة، والحلبة، واللوبيا، وبجوارها كوب لبن، وشمعة تظل موقدة طيلة الليل حتى اليوم التالي قبل صلاة المغرب بفترة كافية، ويأتي الزوار لوضع سبوع الطفل ما بين جنيهات وقطع ذهبية ويورو، وغيرها من العملات.

وتجهز قلّة للبنت، وأبريق للولد، وهي من الفخار، وبداخلها توضع الزهور الطبيعية. وكأغلب المدن الساحلية يرش الملح وتبدر قطع الملبّس، وتحمل الخالة أو العمة الطفل لتهبط به السلالم، وتعاود الصعود وهي تنشد: “اسم الله عليه.. جبنا المولود.. اسم الله عليه”.

من خصوصيات هذا اليوم عمل عروس بحجم الكف من الورق يتم ثقبها بالإبرة، وقاية من العيون التي يمكن أن تحسد المولود، ويتم ذلك في فاصل تمثيلي، يجمع بين الجدية والمرح.

أما الوفاة فلا توجد مقابر للدفن في الديبة، وفي أغلب الأحيان يتم الدفن في مقابر بورسعيد، ويومها يضع كل صاحب سيارة نفسه في خدمة نقل المشيعين وعودتهم.

ومدة تلقي العزاء ثلاثة أيام، ولا بد من تقديم الغذاء للضيوف، ويحظر أن يكون السمك من الأطعمة التي تقدم. فهناك الدواجن والحمام واللحوم وغيرها.

في الختام..

يمكن اعتبار “الديبة” قرية منسية، تطل على البحر المتوسط، تعرّض رجالها لإغواء السفر، فشدوا رحالهم إلى أغلب موانئ جنوب أوروبا، محمّلين بتراثهم وثقافتهم، ولكونها هجرة مؤقتة فإن أبصارهم تظل مشدودة طيلة الوقت إلى الوطن: المراكب، الأصداف، وشيش البحر، وخيالات عروس البحر، أي جنية الماء التي تجذبهم دومًا إلى العمق المُغري البعيد!

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى