فلسفة البناء ودلالات الشخوص في رواية “أيام هستيريّة”

هل صحيح أن أعداء الإنسان هم أهل بيته؟

بتوهّج دؤوب وتوحدٍ لافت وإخلاص خلّاق يُصرّ الروائي الكبير ناصر عراق على مواصلة الاتجاه والمضي قدمًا في مساره الروائي الممتد، ليصل إلى محطته الحادية عشرة، محتفيًا مع قرَّائه الشغوفين بإبداعه، بصدور روايته “أيّام هستيريّة” عن دار الشروق عام 2021، مُكملًا عِقد فريقه الروائي، مرتقيًا به إلى إحدى عشرة رواية هي على الترتيب: “أزمنة من غبار” 2006، “من فرط الغرام” 2008، “العاطل” 2011، “تاج الهدهد” 2012، “نساء القاهرة دبي” 2014، “الأزبكيّة” 2015، “الكومبارس” 2016، “البلاط الأسود” 2017، “دار العشّاق” 2018، “اللوكاندة” 2020، وأخيرًا “أيّام هستيريّة” 2021، وهي الرواية التي ستسعى هذه الدراسة إلى تأمّل شخوصها وبنائها وأحداثها ومساراتها السرديّة وأبرز تقنياتها، للكشف عن الرؤية الإبداعيّة والمنظور الخاص الكامن وراء المعمار الفنّي الذي يسوقه لنا ناصر عراق عبر سطور روايته الجديدة “أيّام هستيريّة”.

العنوان وعتبات النّص:

يبتعث عنوان الرواية إلى ذهن القارئ أفقًا للتّلقي يجعله ينصرف إلى فكرة الزمن الخاص الذي تحيل إليه صيغة الأيّام بدلالتها الجمعيّة التي تقوم بدور المنعوت لنعت بالغ القسوة هو (هستيرية) باعثة إلى الذهن صورة محددة لمرض الهستيريا، ذلك المرض النفسي العصابي الذي يصيب الإنسان بخلل في أعصاب الحسّ والحركة مصحوبًا بانفعالات وتشنجات قد تؤدّي إلى هيجان هو في حقيقة الأمر صدى للصراعات الداخلية والاضطرابات النفسيّة والعقليّة، لكن طرافة العنوان تتجلّى في “العدول الأسلوبي” الذي قام به ناصر عراق ناقلًا ملمح الهستيريا من كونه نعتًا للأشخاص إلى كونه نعتًا للأيّام، ليؤشّر – بدايةً – للقرّاء على طبيعة الزمن الكابوسيّ الذي سيباغتهم به السرد الروائي، آخذًا بتلابيبهم للدخول عنوةً إلى فضائه الروائي المنفتح على ترقّب الصراع وتوقّع العبثي والغريب والشّاذ والمختلف، لكنّ الروائي ما يلبث أن يخاتلنا مرّة أخرى لنفاجأ بعتبة الإهداء المهدهدة لأرواحنا والمطمئنة لنفوسنا التي توقعت الصراع فإذا بها تتلقّى باقاتٍ من الحب والتّسامح والسلام.

“إلى الذين يمتلكون موهبة الحب ويتمتعون بفضيلة التّسامح لكم السلام.. لكم السلام”، ليهيئ ذلك الإهداء المخملي الناعم أفق التّلقي مرة أخرى إلى إعادة التّوازن القرائي، وفتح مسارات التّأمّل العقلي في عتبات النص الثلاث المكثّفة لرؤية الروائي، والمؤطّرة لعالمه السردي المرتقب.

وتتراوح العتبات النصيّة ما بين القرآن الكريم وإنجيل متّى وشعر شوقي. لكن ذلك التّنوع الظاهري في المنابع النصيّة لا يُخفى تحته – لمن يتأمّله بعمق – إلا وحدة متناغمة تجعل هذه الاقتباسات الثلاث في ترابط حيوي وتفاعل متواصل كتفاعل أصابع اليد الواحدة، إذ ينفتح الاقتباس القرآني “إنّه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم” على فضاء الكيد النسائي السرمدي الأعظم عبر التّاريخ، وفي هذا الإطار يأتي الاقتباس الثاني محذرًا من مغبّة سوء الاختيار ومؤكدًا أنّ العداوة قد تتأصّل في أقرب الأقربين “وأعداء الإنسان أهل بيته” إنجيل متّى، ليطلّ الاقتباس الثالث من نافذة شوقي مُحيلًا إلى حلم التناغم الصافي بين المحب ومحبوبته، إذا أحسن الاختيار ليتجلّى الرضا في لحظة فارقة يبدو فيها الزمان مجموعًا -على غير عادته – في يوم من الرضا المخالف لطبيعته القاسية بكل تأكيد:

لا أمس من عمر الزمان ولا غدُ ** جُمع الزمان فكان يوم رضاكِ

ومن ثمّ فمن البدهي ألا يجد الإنسان الحالم بالصفاء والرضا مكانًا في فضاء الأيّام الهستيريّة.

إنّ هذه العتبات النصيّة الثلاث التي تبدو في حالة من التناغم والتكامل والتفاعل -كما أشرنا – تنطوي في عمقها الباطني على حالة من الجدل والترقب تتحرّك فيها الذات المختارة من حكمة التجربة إلى تجربة الحكمة مجيئًا وذهابًا متصادية مع الصوت القديم، لابن الرومي أحد شعراء الحيرة الوجوديّة الكبار:

ألا من يريني غايتي قبل مذهبي ** ومن أين والغايات بعد المذاهب

إذن فلنذهب مع الروائي في رحلته السرديّة الممتدّة عبر فصول روايته الخمسة عشر لنتعرّف تفصيلًا ما هجسنا به تكثيفًا، وكان ذلك بالطبع بعد قراءة المتن الروائي الذي ألهم صاحبه بتلك التصديرات النصيّة المؤطّرة للعمل الأدبي والمفلسفة له في آن، متذرعين بقول بروخ: “إنّ السبب الوحيد لوجود الرواية هو أن تقول شيئًا لا يمكن أن تقوله سوى الرواية”، ومن ثمّ فلا مفر من تأمّل فلسفة البناء الروائي وتجلياته السرديّة المتنوعة بكل حمولاتها المعرفيّة التي تشكّلت عبر فضاء الوجود الاجتماعي في علائقه المتنوعة والمتفاعلة والمتشابكة في آن. فالروائي الحديث ليس مؤرخًا ولا نبيًّا إنّه مستكشف للوجود.

البناء الروائي:

تتأسس رواية أيَّام هستيريَّة على خمسة عشر فصلًا وتخضع لهيمنة سرديَّة ثنائيَّة، إذ يتناوب البطلان الرئيسان في الرواية، نبيل عبدالحكيم البنَّا ونسمة فريد فعل السرد الروائي، كلٌّ حسب منظوره السردي الذي يعكس وجهة نظر خاصة ومباينة للبطل الآخر في الوقت ذاته؛ ممّا يفتح المجال لتعدد الأصوات وتصارع الرؤى، ويقوّض – دون ريب – مركزيّة الراوي العليم الذي كان يهيمن على الأحداث ويحكيها عبر منظوره الأحادي الذي يمارس سلطة صارمة لا تقبل التّنوع، أو تفتح الباب للجدل، ومن ثمّ فقد اتّخذ السرد بنائيًا في الرواية منطق المونتاج المتوازي الذي يتيح الفرصة لرؤية الآخر في مرآة الذات وإراقة الأضواء على الجوانب الخفيّة التي تتخلّق بعيدًا تحت سطح السرد الظاهري المعلن، ويسمح في الآن ذاته برصد كثير من التقاطعات والصراعات المضمرة والظاهرة في تجلّيها عبر فضاء ضمير المتكلّم الذي يمارس البوح والكشف عن الدواخل متحرِّر من كل القيود والعوائق الاجتماعيّة.

كما نرى مثلًا في قول نسمة فريد متحدّثة عن زوج المستقبل نبيل عبدالحكيم البنّا:

“أجل .. هذا رجل مجنون! كيف يعرض الزواج على فتاة دون أن يراها وجهًا لوجه، فيتفحّص قسماتها ويتأمّل جسدها؟ لماذا لم ينتظر حتى يتعرّف إليّ مباشرة قبل أن يقدم على هذه الخطوة الجريئة؟”.

ولا شكّ أنّ بناء الرواية وفقًا لمنطق تقابل صَوتَيْ السرد – أو ما أطلقتُ عليه المونتاج المتوازي المنطوي على تقاطعات وصراعات – لم يأتِ عبثا، بل استدعاه منطق الحدث المركزي في الرواية، وهو السعي اللاهث لبطلها الروائي الصحفي المثقّف نبيل عبدالحكيم البنّا للزواج بأقصى سرعة إثر الحريق الناشب في شقته ونجاته من موت محقّق بعد أن أجبرته ظروف انفصاله عن زوجته الأولى علا جميعي على العيش وحيدًا على حافة الخطر مصابًا بما أسماه الحريقوفوبيا، أو على حد قول البطل نفسه: “وبدأت أشعر بالحريقوفوبيا تلازمني ليل نهار، وقرّرت التّقدم بخطوات سريعة وعاجلة نحو إنجاز الهدف الذي لم يخطر لي قط على بال حتى لا يُفاجأ أبنائي بوجود جثّة أبيهم محترقة ذات ليلة سوداء”.

ومن ثمّ كان هذا الحدث المركزي المهيمن بتفاصيله الدراميّة المتوترة باعثًا على فتح أفق جديد للبطل على مستوى الحياة بالإقدام على الزواج السريع من نسمة فريد الشاعرة، وللروائي صانع النّص على مستوى البناء باستدعاء الآخر الأنثوي الطارئ على حياة البطل نبيل عبدالحكيم البنَّا واستحضار صوته لكي يمارس فعل السّرد دون وصاية مسبقة من الراوي العليم.

ودائما ما يمارس ناصر عراق الاستباق السردي في أغلب رواياته – وليس رواية “أيام هستيرية” فحسب – فيعلّق حدثا مركزيًا في فضاء السرد ويجعله القطب الجاذب لأغلب الأحداث الفرعيّة المتضافرة التابعة أو المترتبة على ذلك الحدث أو المرهصة به؛ ممّا يكسر تراتبيّة الزمن السردي الخطيّ ويفتح مجالًا للاسترجاعات السرديّة وتعدد الحكايات الفرعيّة الجانبية، ويمنح ثراء وخصوبة للبناء الروائي المنفتح على أفق التشويق المحبب والمحفّز للقراء على المضي باتجاه ممارسة فعل القراءة بدأب لا ينقطع ودافعيّة لا تتوقّف.

وإذا عدنا إلى تأمّل البناء السردي الثنائي: سنجد أنّ الروائي جعل نبيل عبدالحكيم البنّا يقوم بالسرد في ثمانية فصول من الرواية، بما فيها فصل المفتتح وفصل الختام، مما بشي بانحياز أيدولوجيّ وعاطفي من الروائي لراويه المشارك والمماثل له في كثير من الصفات والمواهب، بينما قامت نسمة فريد بالسرد في سبعة فصول من الثاني إلى الفصل قبل الأخير ليكون مجموع الفصول خمسة عشر فصلًا، وهو رقم فردي يشير إلى فردية المصير الذي انتهى إليه البطل بعد أن سعى سعيًا إلى تطليق نسمة فريد الشاعرة الفاشلة والمرأة الكسولة والمحبطة (بفتح الطاء وكسرها)، والمبالغة في عزلتها وتعاليها الكاذب وغرورها الأجوف.

ويلفت النظر أيضًا في البناء الثنائي أنّ فصول الرواية بدأت قصيرة تتبادل فعل السرد برشاقة وتواصُل – بالرغم من بوادر القلق وهواجس الخوف التي اعترت البطل – لكن ذلك على أية حال كان يشي بإمكانيّة الحوار والأمل في التعايش بين الزوجين الجديدين نبيل ونسمة، لكننا بالانخراط في متابعة أحداث الرواية ما لبثنا أن استشعرنا اتّساع الفجوة، إذ أصبح كل صوت سردي عاكفًا على ذاته، فطالت الفصول الأخيرة واستقل كل راوٍ بمساحة نصيّة أكبر وغدت الحوارات المتضمنة داخل سرد الراويين نبيل ونسمة حواراتٍ تكرّس للانفصال وتنتهي إلى القطيعة والهجر أوقاتًا طوالًا، ليشي ذلك التباعد المتنامي بين الفصول على المستوى النصيّ باستحالة التعايش بين عالمين نقيضين هما أقرب إلى الانفصام، وأبعد ما يكونا عن التّوحد؛ لتتأكد الفلسفة الثنائيّة للبناء مرة أخرى.

إذ تجاوز – وإن كانت لا تنفي – صورة الرجل في مقابل المرأة، وملمح الروائي الناجح في مقابل الشاعرة الفاشلة، وثنائيّة المكان الرّاقي / الرحاب في مقابل المكان المتدنّي / إمبابة، والدفء الأسري والنشأة العائليّة الدافئة إزاء التفكك الأسري والنشأة العائلية المتصدعة، والأب المثقّف الواعي أمام الأب المتشدّد المنغلق ضيّق الأفق، والصعود والتحقق في مقابل الهبوط والفشل، والنظام واحترام قيم العمل والفاعلية الإيجابيّة في تلقّي الحياة في مقابل الفوضى والعشوائية والكسل وإدمان الهروب وتغييب الحياة؛ لتلتقي فلسفة البناء – في تصوري الشخصي – بثنائية هي الأشد خطورة والأفدح دلالة وهي المفارقة الكبرى التي ترصدها الرواية بعمق لافت بين عالم الكلمة وعالم الصورة، حيث ينفتح فضاء الكلمة الذي ينتمي له نبيل عبدالحكيم البنّا على دلالات الثقافة الأصيلة والفن الراقي والسينما الهادفة والموسيقى الخلّابة والغناء الممتع برموزه الكبار: “أم كلثوم وعبدالوهاب”، بينما ينطوي عالم الصورة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي على الغواية الكاذبة والخداع المتقن والعُري المبتذل والبطولات الزائفة والجمال المخلّق والتجميل المستعار، إذ أضحت نسمة فريد بطلة عصريّة مجوّفة تُجسّد تجسيدًا حيًّا أزمة الفيس بوك وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعيّ، أو بالأحرى وسائل اللا تواصل التي جعلت الأفراد العصريين الذين ترمز إليهم نسمة – يقبعون في كهوف الصمت المنسيّة ليل نهار ويتجسدون في وضع تشريحي يمثّل صورة العُبَّاد وهم منحنون برؤوسهم ناظرين إلى الأسفل غالبًا، منهمكون في متابعة الميديا التي تمارس فعل السحر والغواية بالرغم من تلقيها في طقس من الخشوع التّام والانقطاع الكامل.

يا للمفارقة إنها عبادة الغواية! أو بالأحرى في سياق الرواية بطلات نسمة المتجملات: جيجي حديد عارضة الأزياء الأمريكية، وتويا بويوكستون الممثلة التركية، ومريم أوزرلي.

إن اغتواء نسمة بعالم البريق الكاذب المنطوي على حلم الثراء السريع هو ملمح يضرب بجذوره بعيدا داخل نفس نسمة، حينما كانت طفلة صغيرة تحلم بأن تكون مذيعة، فصدّها أبوها الفظ – أحد أسباب مأساتها الكبري – قائلا لها: إنها لا تملك الجمال لكي تكون مذيعة وأختها نيللي أجمل منها، فتركت تلك الحادثة البعيدة تشوهات عميقة كبرت معها وأصابتها بفقدان ثقتها بنفسها وإيمانها بقدراتها، فسقطت في بئر من الإخفاقات المتتالية؛ إذ فشلت في كتابة القصص للسينما وأخفقت في أن تصبح شاعرةً مشهورة، تصطاد الجوائز كصديقتها فجر المنوفي التي اصطادت حبيبها وفيق الجمل وتفوقت عليها في الشعر أيضا برغم امتلاك نسمة موهبة الكتاية الشعرية والقدرة على صياغة العناوين اللافتة كعنوان ديوانها “بهمسة منك أراقص القمر”، فكان أن تردت نسمة في غياهب الإدمان واللامبالاة والنرجسية الجوفاء، ووقعت في فخاخ ثقافة السوشيال ميديا التي كرَّست روحها للكسل والوهن والطمع الجبان في الحلم بالثراء الواسع والربح السريع، في إعادة أسطورية حديثة غدت فيها السوشيال ميديا معادلًا عصريًّا لتيمات أبطال القصص القديمة: مصباح علاء الدين، مغارة علي بابا، خاتم سليمان .

لذلك يغدو من المنطقي ألا نندهش من اندهاش نبيل من عدم اقتراب نسمة فريد زوجته الشاعرة من مكتبته العامرة بدواوين الشعر ورواياته العديدة؛ إنه التحول من عالم الكلمة / القيمة إلى عالم الصورة / الغواية، ومن الحلم باعتلاء مكانة الشعراء المشاهير إلى الحلم باقتناء مراكز التجميل. هنا تتجلى فلسفة البناء الثنائية التي تقابلت وتواجهت ولكنها لم تتلاق أو تتحاور أو تتواصل.

وقد يطفو سؤال على سطح النهر السردي الممتد: ألم يكن ممكنا لنسمة ذات الاثنين والأربعين عاما أن تنتهب الفرصة العظيمة وتفتح أفقا جديدا لحياة واعدة مع نبيل بكل ملاذاتها ورخائها في مدينة دبي الساحرة المختلفة تماما عن حواري إمبابة البائسة الضاجة بالعناء اليومي والزحام الخانق؟!

إن إجابة التساؤل تكمن في أن نسمة أضحت ذات بناء نفسي خرب متهالك قبل أن تكون ذات جسد معطوب، ومثل هذا البناء المتآكل يظل دائما عاجزا عن التقاط أنوار الفرح المشعّ والسرور العميق.

إنها لا تعرف سوى الليل لأنها فقدت النهار إذا استعرنا تعبير صلاح عبدالصبور الخالد: “لا يعرف الليل سوى من فقد النهار”؛ لذلك أمست نسمة بطلة ليلية ترتدي الأسود، وكأنه ستارة الليل الحالكة التي تخفيها عن الأنظار، حتى وإن اكتفت بالتعالي الظاهري بالكعب العالي والتزين المفتعل بالعدسات المستعارة، حتى وإن فرحت بتصدير صورة مزيفة لها على الفيس بوك مبرزة مفاتن كاذبة لجسدها الخَرب، حتى وإن افتخرت بالتعالم الأجوف ومارست فعل التثقيف على زوجها المثقف والروائي والصحفي نبيل عبدالحكيم البنا متحدثة عن عالمها المتجمل بعطوره الكاذبة وعدساته المخاتلة وباروكة الجذور التي تبدو بلا أصل أو جذور. هل كان من المنطقي إذن أن تقسو الطبيعة على تلك النماذج البشرية التي ملأت الأرض ضجيجا برغم صمتها، فيتجلى فيروس كورونا مكرسا لعزلة إجبارية أخرى بعد عزلة إلكترونية أخرى فرضها إنسان العصر الحديث حين أفرط في مظاهر التواصل فغاب معنى التواصل!!

ربما كان الأمر كذلك فالإنسان الحقيقي قد يشعر بالعزلة في الزحام هاتفا مع عبدالمعطي حجازي: “هذا الزحام لا أحد!”.

وقد يجتلي أطياف الأنس في وحدته الحقيقية العميقة التي تنشد الاقتراب من الآخرين برغم تظاهرها بنقيض ذلك، وذلك هو صميم عمل الروائي الذي يسعى الراوي داخله إلى الإجابة عن سؤال علاقته بأحداثه التي يرويها وشخوصه التي يبتكرها.

دلالات أسماء الشخوص:

منذ زمن نجيب محفوظ ومن تلاه من الروائيين الكبار شغف كثير من الروائيين بتوظيف دلالات الأسماء وربطها بالأحداث الروائية وعلائقها السردية بحيث لم تعد دلالات الأسماء في رواياتهم اعتباطية تطلق كيفما اتفق فكان ذلك إيذانا بثراء جديد في عالم الرواية وفتحا لآفاق حديثة من التلقي والتأمل الجمالي الذي يغري النقاد؛ فينخرطون في فضاء من التأويل الممتع والربط الذكي لأسماء الشخوص وعلائقها بنهر الأحداث السردية في آن.

وقد مارس ناصر عراق في “أيام هستيرية” تلك اللعبة الدلالية الجذابة، فجاءت أسماء أبطال الرواية وشخوصها المؤثرين في أحداثها معبرة عن رؤى مبدعها الخاصة.

نبيل عبدالحكيم البنا:

فالبطل نبيل عبدالحكيم البنا يبدو اسمه متماهيا مع شخصه؛ إذ كان إنسانا مثاليا يتسم بالنبل والحكمة والتروي في اتخاذ قراراته المهمة وإدارة شؤونه المتنوعة ولكنه في الآن ذاته إنسان من لحم ودم وقع فيما يمكن أن نطلق عليه “سقطة العارف” وهي سقطة تغاير – بكل تأكيد – السقطات التراجيدية في المآسي القديمة التي كان البطل يتورط فيها دون أن يدرك كنهها كأوديب سوفوكليس مثلا، وكأن جهله بطبيعة السقطة هو شرط تحققها، لكن نبيلا بطلنا الحديث كان يعي خطورة ما سيقدم عليه واعترته دوامات من الشك في نجاح العلاقة الزوجية الجديدة مع نسمة، فمضى برغم ذلك لا يلوي على شيء معترفا بخطئه الجسيم قائلا: “ربما يجبرنا الخوف الشديد من الموت على اقتراف حماقات كبرى تكوي أكبادنا في الحياة”.

وقد جاء لقب “البنا” أيضا متواشجا مع شخصيته؛ إذ كان حريصا على بناء القيم طوال حياته الممتدة حتى سن الستين لاسيما قيم الحياة الزوجية التي ظل وفيا لها مخلصا لزوجته علا جميعي، محافظا على سلامة “البناء النفسي” لأبنائه طوال سنوات طويلة تربو على ربع القرن.

نسمة فريد:

بينما جاء اسم نسمة فريد مناقضا لدلالة المسمى، فكأن الاسم يسخر من مسماه على حد قول نجيب محفوظ حينما كان يجعل الاسم نقيضا للشخصية موضحا ذلك بقوله: “فصابر لم يكن صابرا، وسعيد مهران لم يكن سعيدا ولا ماهرا في تحقيق أهدافه”، وفي مثل هذا السياق جاء اسم نسمة المرتبط بدلالة النسيم الهادئ والهواء العليل شبيها بنقيضه الدخان والحريق إذ كان نبيل يحاول أن يستروح أفياء تلك النسمة التي ظنها لطيفة ناعمة فإذا بها حريقا مضادا يفوق الحريق الهائل الذي كان أحد أحداث الرواية المركزية الكبرى.

لوتس:

وقد جاء اسم لوتس ابنة أخي نبيل متماهيا مع دلالته الروائية والمعجمية لزهرة اللوتس النيلية أو زنبق الماء المصري الأبيض التي كانت مشهورة في الحضارة الفرعونية القديمة لاسيما في أعمدة المعابد والمقابر لتتلاقى محمولاتها المعرفية مع لوتس التي كانت تقوم بدور الصديقة الناصحة الكاشفة والمهدهدة المطمئنة في آن لعمها نبيل إذ تجلت أصالتها في دعمها النفسي الفائق للبطل وإعادة تضميد روحه المنكسرة إثر انفصاله عن زوجته علا جميعي وإعادة بناء كيانه النفسي من جديد وترميمه من آثار الغدر والخيانة والجحود الذي مارسته علا في محاولتها هدم كل ذكريات الأب وصوره وفيديوهاته من ذاكرة أبنائه، لكن نبيل عبدالحكيم البنا عرف كيف يحافظ على البناء النفسي للأبناء ويعيدهم إلى محبته مرة أخرى لاسيما الابن الكبير الذي اعترف بتحامل أمه على أبيه وظلم جدته له .

علا جميعي:

هي زوجة نبيل الأولى ويأتي اسمها رمزا للعلو والجموح والتفكير في المنفعة الشخصية والاستفادة من زوجها نبيل لأقصى درجة ثم الانقلاب عليه انقلابا جامحا مفاجئا بعد أن أصبحت تنعم بالوظيفة المرموقة والدرجة العلمية العالية دون أن تسمح لنفسها بفتح نوافذ للحوار وتأسيس إمكانية لإعادة بناء العلاقة وحماية الأسرة من التفكك.

عماد الدين سرور:

كان اسما على مسمى – كما يقولون – إذ ظل العماد الداعم والسرور المؤنس لصديقه نبيل طوال الوقت، وهو الذي أشار عليه أن يحول معاناته مع نسمة إلى رواية، فكان محفزًا لتيمة فنية شهيرة وهي الرواية داخل الرواية، حين نصحه مشجعا له على كتابة الرواية: “اكتبها فورا .. من اليوم .. من اللحظة .. اكتب تجربتك القاسية هذه.. توغل في سراديب نسمة اكشف الأسرار التي قذفت بها إلى كهوف البلادة والغرور الأجوف والعناد المرذول والكسل الغبي وإدمان الأدوية المخدرة تحرر.. من عذابك اليومي معها بالكتابة”.

مهجة صادق:

كانت أيضا اسما متماهيا مع مسماه فهي الصديقة الصادقة الوحيدة المخلصة التي كانت لا تكف عن الاطمئنان على صحة نسمة وإسداء النصح لها طوال الوقت ولكن هيهات لروحها المظلمة أن تتلقف أضواء الحكمة الساطعة من مهجة صادقة.

ربما كانت ملامح العتبات النصية وفلسفة البناء الروائي ودلالات أسماء الشخوص من الظواهر السردية اللافتة التي توقفت عندها الدراسة، لكن ذلك لا يجعلنا نغض الطرف عن ملامح أخرى جديرة بالتأمل والفحص النقدي كالملمح الأسلوبي الذي تجلَّى في حرص الروائي على نحت جمل تستلهم روح الصياغة الصحفية، وتسترفد بلاغة العنوان الصحفي، وتغدو أشبه باللافتة الجاذبة التي تستفز فضول القارئ وتدفعه للمضي قدمًا في القراءة؛ ليرى تفاصيل ما اكتنزته رشاقة العناوين مثل قوله: “من سوء الطالع أن تقاسمك الفراش زوجة مدمنة”، “كل شيء فيها مزيف” ،”العذاب اسمه المطبخ”، “أجل أقدمت على الانتحار مرتين بجدية”، “اصطادني كورونا وأنقذني الأمل”، فضلا عن طبيعة السرد المكتنز الذي ينطوي على رصد مستويات عديدة للحوار الخارجي والحوار الداخلي مستنطقا مستويات الوعي بالكلام قبل الكلام ومناجاة النفس التي تتجلى في الشكوى العميقة أو السخرية المريرة التي تتحرك تحت القول المعلن، وتكشف المسكوت عنه من المشاعر والأحاسيس، وهي تقنية وظَّفها ناصر عراق بتوفيق بالغ؛ ليكشف مستويات من الوعي المعلن والوعي الخفي عبر ضمير المتكلم الذي تبادله البطلان الرئيسان في الرواية نبيل عبدالحكيم البنا، ونسمة فريد، وعبر أداء يذكرنا بمقولة كونديرا عن جويس: “لقد وضع جويس في رأس بلوم مكبر صوت، وبفضل هذا التجسيم العظيم الذي هو المونولوج الداخلي تعلمنا الكثير عن أنفسنا”.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى