ذكريات شخصية مع توفيق الحكيم

من ضبابية الرؤية إلى ضبابية الوعي

كانت المرة الأولى التي التقيت فيها توفيق الحكيم في عام 1965، ربما في شهر مايو أو يونيو، فقد كنت وقتها قد بدأت العمل – بشكل غير رسمي – في مجلة “المجلة” حيث قرَّبني رئيس تحريرها يحيى حقي منه، وأشركني في الكثير من المشاريع التي نفذها فيها. وهو أمر سوف أستفيض فيه حينما أتحدث عن يحيى حقي في تلك السلسلة من المقالات – الذكريات.
وقتها فاتحني بأن من الضروري أن يكون في عدد يوليو – الذي سيصدر في عيد الثورة – نوع من الاهتمام بأثر الثورة أو دورها في الثقافة. فاقترحت عليه أن أكتب مقالًا عن “الرواية المصرية بعد الثورة”، وهو الأمر الذي حبَّذه. ولكنه كان يريد أكثر من هذا، أن أقوم بعمل نوع من الاستطلاع الأدبي الذي يمكن معه أن يصدر عدد “المجلة” في هذه المناسبة وبه مشاركات حول هذا الأمر من أبرز الأسماء في كل جنس أدبي، ممن لا يستطيع استكتابهم في “المجلة” لأسباب مختلفة(1).
وقد قمت فعلًا بعمل هذا الاستطلاع، بعنوان “وضع الفنون الأدبية الراهن ومشكلاتها: تحقيق أدبي يشترك فيه نجيب محفوظ، يوسف إدريس محمود أمين العالم، صلاح عبدالصبور”(2) ونشر معه في العدد نفسه مقالي الذي اقترحته على يحيى حقي بعنوان “اتجاهات الرواية المصرية بعد الثورة”(3) بشكل استثنائي، لأن “المجلة” لم تكن تنشر أكثر من مقال للكاتب الواحد في العدد الواحد.

■ محمود أمين العالم

ويلاحظ من يقرأ التحقيق غياب اسم توفيق الحكيم من عنوانه الفرعي، لكن ما أن يتقدم في القراءة حتى يعرف السر. فقد اخترت في هذا الاستطلاع أن أعرض مجموعة من الأسئلة المهمة على أبرز علم في كل فن من الفنون الأدبية: توفيق الحكيم في المسرح، ونجيب محفوظ في الرواية، ويوسف إدريس في القصة القصيرة، ومحمود أمين العالم في النقد، وصلاح عبدالصبور في الشعر. وكنت أعرفهم جميعًا، ما عدا توفيق الحكيم الذي لم اكن قد لقيته من قبل. وقد حملت له هذه الأسئلة وذهبت لمقابلته في مكتبه بجريدة “الأهرام” في مبناها القديم في شارع مظلوم، قرب باب اللوق، وكانت له غرفة صغيرة نسبيًا – إذا ما قارناها بغرفته الشهيرة في الدور السادس من مبنى “الأهرام” الجديد، تلك الغرفة الواسعة التي توشك أن تكون صالة اجتماعات فسيحة، وتحولت به مع مرور الوقت إلى صالون أدبي مفتوح. وكان بشارة تقلا – صاحب “الأهرام” – هو الذي حرص على ضم توفيق الحكيم إلى “الأهرام” بعد تقاعده من دار الكتب. وقدَّم له عقدًا فريدًا في نوعه في ذلك الوقت(4)، تقديرًا منه لقيمة الحكيم وأهميته.
وكان من المثير في الأمر أن تقديمي لهذا التحقيق قد أشار وقتها إلى الكثير من الإشكاليات التي تعاني منها الآداب بعد الثورة. فقد قلت في التمهيد له وصياغة الأسئلة التي أراد بعضهم أن يرد عليها كتابة، وكان عليَّ أن أقدم له نسخة منها: أن “الاعمال الأدبية عمومًا تحمل الكثير من بصمات العصر الذي تعيشه. ولذلك فدائمًا ما تقع الفنون الأدبية عقب الثورات في مأزق حرج تتحدد ملامحه وفق طبيعة العلاقات والقيم التي تولد مع المجتمع الجديد.
لذلك تنطلق الفنون الأدبية عقب الثورات لتنفس عن فترة الكبت التي تكون قد عاشتها قبلها تارة، أو تقع في وهاد الصمت والأسى لعدم قدرتها على تمثل ما جد من تغيرات والإفصاح عنها تارة أخرى، أو تعاني من حالة ارتباك شديدة لا تستطيع أن تتخلص منها، إلا بعد أن توفق إلى أساليب تعبيرية جديدة. تسربل بها رؤيتها للواقع الذي تعالجه”.
“وقد وقعت الفنون الأدبية المصرية بعد الثورة في حالة الارتباك الشديدة هذه، والتي ارتوت من ظروف موضوعية، تعلق أغلبها باحتياج قيم المجتمع الجديدة إلى فترة زمنية كافية حتى تتبلور وترسخ قواعدها، ويستوعب الكتاب أبعادها. وبخوف الكتاب من أن يعيق تناولهم النقدي لقضايا الواقع خطوات الثورة الماضية في البناء. بل إنني أعتقد – كما يقول الميثاق – أن خطوات الثورة كانت ومازالت في أشد الحاجة إلى هذا التناول النقدي المخلص الذي يتيح لها التخلص من عثرات الطريق. ومرور الفنون الأدبية بحالة الارتباك هذه هو الذي أشاع تعبير الأزمة في ثناياها. فقيل أن هناك أزمة في الرواية، وأخرى في الأقصوصة، وثالثة في الشعر ورابعة في النقد الأدبي.. إلخ. وقد تُسبِّب حالة الارتباك هذه أزمة فعلية في كثير من الفنون. إلا أن هذه الأزمة ما تلبث أن تغوص من على السطح لتثيرَ في الأعماق الكثير من المشاكل التعبيرية وأساليب التناول النقدي.

■ صلاح عبدالصبور

وبعد هذه السنوات الطويلة علينا أن نفجر، وبمناسبة العيد الثالث عشر لميلاد الثورة، كل علامات الاستفهام التي تطرحها المرحلة السابقة، والتساؤلات كافة التي يتناولها الوضع الراهن للفنون الأدبية؛ ماضيها القريب وحاضرها ومستقبلها. حتى نستطيع أن نستفيد من كل هموم المرحلة السابقة وعثراتها في تحديد موقع خطواتنا في المستقبل، وفي محاولة زيادة فاعلية الأدب في معركة البناء. ويمهد التعرف على أحاسيس الفنان عند ميلاد الثورة، وعقب سقوط كثير من القلاع التي كان يصوب عليها بفنه، وعلى الرؤى والمراحل كافة التي انتابت دوره الفني، الأرض الخصبة لمعالجة هذه التساؤلات. وهذا هو ما حاولنا في البداية أن نطرحه على الكتَّاب الذين حملنا إليهم علامات الاستفهام تلك.
وقبل أن نطرح هذه التساؤلات، يهمنا أن نقول إننا قد حاولنا قدر طاقتنا أن نختار أحد أعلام كل فن ليجيب عن هذه التساؤلات فيما يتعلق بفنه. فاخترنا توفيق الحكيم ليجيب عليها بالنسبة للمسرح، ونجيب محفوظ بالنسبة للرواية وهكذا. ووجَّهنا الأسئلة نفسها إلى كل علم من هؤلاء الأعلام للفن الذي اشتهر بممارسته. وكانت التساؤلات بعد التمهيد الذي تكلمنا عنه حول: اتجاهات الجنس الأدبي الذي يمارسه بعد الثورة كما يراها هو، وعن التغيرات التي انتابت هذه الاتجاهات والأسباب الكامنة وراء ميلادها وتناميها؟ وهل يعتقد أن هناك أزمة في الفن الذي يمارسه أو مضيقًا معينًا يمر به هذا الفن؟ وما هي الأسباب في حالتي النفي أو الإيجاب؟ وكيف يمكن له أن يكون أكثر فاعلية بالنسبة لشعبه وأعمق أمانة معه؟”(5).
ولأن لبنية أي عمل – أدبيًا كان أم نقديًا – دلالتها، فإن من يقرأ هذا التحقيق، لن يفوته أنه بعد هذا التقديم الطويل، وما ينطوي عليه من أسئلة معلنة وأخرى مضمرة، فإن غياب اسم توفيق الحكيم من العنوان الفرعي، وسكوته عن المشاركة فيه، كان نوعًا من رد الحكيم المراوغ على أسئلتي، والتي افاض كل من طرحتها عليهم في الإجابة عن أسئلتها الخمسة. وقد أعلنت بوضوح عن هذا السكوت كي يتأمل القارئ المسكوت عنه. لأنني كتبت فيه وقتها: “عندما حملنا هذه التساؤلات في البداية إلى توفيق الحكيم ليجيب عنها؛ أكد لنا أن كثيرًا منها يلح عليه منذ فترة غير قصيرة. وأن ما يتوصل إليه بالنسبة لهذه التساؤلات من إجابات لا يطرحه في الأحاديث الأدبية أو المقدمات النظرية، بقدر ما يحاول أن يمارسه في كتاباته الفنية. ورغم إلحاحنا عليه في أن يقدم لنا، ولو بعض الإجابات أو الذكريات القصيرة حول هذه التساؤلات، فإنه أصرَّ على الاكتفاء بالرفض فيما يتعلق بهذه الأسئلة. وبعد أن قطع عليّ وعدًا بألا أستخلص من حديثنا الإجابات، واصل حديثًا عذبًا وطويلًا، وأصرَّ في النهاية على عدم نشره. وإني إذ أستجيب هنا لفناننا الكبير، آمل أن تتاح لنا فرصة أخرى لعرض بعض ما دار في هذه المناقشة على قارئنا العزيز”(6).
ولحسن الحظ أنني احتفظت بالنقاط التي سجلتها بعد مغادرتي لتلك الجلسة الأولى والممتعة معه، والتي كان احترامي لرأيه بعدم نشر أيّ مما دار بيننا فيها هو الذي وطدّ أواصر هذه العلاقة منذ بدايتها الباكرة تلك. وجعل الحكيم يثق في أنني لن أفشي ما يصرح لي به، فكان كثيرًا ما يتكلم معي (على راحته) كما نقول.
وقد توطدت علاقتي به بعد ذلك، وكنت أتردَّد كثيرًا عليه كلما عنّ لي أن أمرَّ على أي كاتب أو صديق آخر في مبنى “الأهرام”، فقد كنت أعرف فيه وقتها – حينما كان “الأهرام” لا يزال في مبناه القديم الذي هُدِمَ قبل سنوات – كل من: لويس عوض وصلاح عبدالصبور. وحينما أعود إلى تلك النقاط الآن، والتي أشرت على جانبها في ذلك الوقت بتعبير “معقول! لقد وجدت أن الحكيم يتفق مع الكثير مما نطرحه – أعني أنا وأبناء جيلي – بشأن الواقع الراهن، ولكنه مقيد بأغلال من حرير تمنعه من المشاغبة مثلنا”، أجد أن الحكيم قد كشف لي وقتها عن أن أحد أسوأ المشاكل التي تعاني منها الحياة العامة في مصر – وهو تعبير أوسع من الحياة الثقافية – هو تلك الازدواجية المقيتة. فبعدما عاش هو وأبناء جيله والجيل السابق عليه حياة شبه مفتوحة، تجد فيها أن ما يدور في المجال العام من صحف أو كتب أو جدل عام، هو كل ما يدور حقيقة في الواقع، بما فيه من استقطابات بين مختلف الاتجاهات السياسية منها أو الثقافية. وكانت وحدة المجال العام هذه ليست فقط الحاضنة التي يتم فيها تصويب الأخطاء وكشفها، سواء كان الخطأ شخصًا في المكان غير المناسب، أو غشًّا تجاريًّا، أو تواطؤًا مع القصر أو الاستعمار، ولكن أيضًا المناخ الذي يتيح نشر الوعي بالمسؤولية الفردية والأخلاقية على السواء، وهو أمر حيوي لتقدم أي مجتمع.

■ يوسف إدريس

لكنه وجد نفسه الآن – أي في عام 1965 وبعد سنوات من حكم العسكر – يعيش في مجال عام منفصم؛ ما هو منشور فيه هو جانب واحد من جوانب الحقيقة، وما هو محجوب ويتبادله الناس سرًّا لا يقل أهمية عما هو منشور.
وأكد لي الحكيم أنه لا يعني فقط أن هناك رقابة – وكان معروفًا أن في كل صحيفة مكتبًا للرقيب، وأن كثيرًا من الكُتاب يتحايلون على تمرير ما يمكن تمريره منه – ولكن المؤسف أن الرقيب انتقل في كثير من الحالات ليقبع في داخل الصحفي أو الكاتب، وهو أمر يكبح جماح أي تعبير حقيقي عن هذا الواقع المزدوج والمعقد معًا، ناهيك عن المغامرة بالتجريب والتجديد فيه. وقال لي وقتها إن وجود جانب محجوب يسعى البعض إلى تداول أخباره سرًّا، ويعرف الكثيرون أن هذا المحجوب حقيقي، لا ينشر البلبلة الداخلية فحسب، ولكنه مثل وضع “الزجاج المصنْفَر” الذي يستهدف حجب الرؤية عن الجميع، ولا ينتج هذا ضبابية الرؤية، ولكن يؤدي أيضًا إلى ضبابية الوعي، وهو الأمر الذي يساهم على المدى الطويل في تدهور القيم الأخلاقية والضميرية العليا.
والواقع أنني حينما عدت إلى ما دونته وقتها، لفت نظري تعبير “ضبابية الوعي”، وهو الأمر الذي سأعود إليه بعد قليل حينما أتحدث عن كتابه الإشكالي “عودة الوعي”.
والواقع أنني وحينما أتأمل حيرة الحكيم التي دفعته إلى البوح لي بما لا يستطيع نشره، وطلب عدم النشر بشكل قاطع وقتها، وهو الأمر الذي احترمته، أجد أن الحكيم كان يعاني وقتها من حالة من تلك الحالات المعقدة – أو بالأحرى المركبة – التي وصفها ببراعة بيير بورديو (1930 – 2002) في كتابه الأول “علم اجتماع الجزائر Sociologie de l’Algérie” عام 1958. وهو الكتاب الذي صنع اسمه مبكرًا، وفتح بحثه فيه في المجتمع الجزائري، وخاصة مجتمع البربر في الريف والبوادي، الباب أمام ما يعرف الآن بعلم الاجتماع الثقافي، تمييزًا له عن الانثروبولوجيا القديمة(7).
المهم هنا أن بورديو بنى عليه فيما بعد القواعد الأساسية لنظريته في الممارسة. أعني هنا قواعد التبادل الرمزي المركبة، وعلاقته باللغة وبتراتب الأدوار والمكانات: بما فيه من رأسمال رمزي وعنف رمزي معًا. وهي القواعد التي مدَّ فيها مفهوم رأس المال ليشمل رأس المال الاجتماعي، ورأس المال الثقافي، ورأس المال المالي بالطبع، ورأس المال الرمزي. فقد كشف لنا بورديو أن وضع الفرد في أي مجتمع وتبلور أنساق الممارسات والتراتبات الاجتماعية فيه أمر بالغ التعقيد، لأن الفرد يحتل مكانًا في فضاء اجتماعي متعدد الابعاد a multidimensional social space حيت لا يتم تحديده عنده بناء على طبقته الاجتماعية، أو وضعه المادي فحسب – كما كان الحال في جل التصورات السابقة لعلم الاجتماع – وإنما من خلال مجموع الرساميل المختلفة التي يستطيع بلورتها من خلال ممارساته الاجتماعية للاستحواذ على الدور والمكانة.
وأي مراجعة لمسيرة الحكيم حتى ذلك الوقت تكشف لنا عن أن مفهوم بورديو لدور الفرد ذلك هو الأقدر على تفسيره. ولأن المواجهة الأولى مع رجال “الحركة المباركة” قد تركت آثارها عليه في لعبة الصمت والتقبل الضمني لما هو غير مقبول، وما فيها من مكاسب مادية ليس أقلها الأمن والوجاهة الاجتماعية، وعنف رمزي أيضًا هو الذي دفعه لأن يطلب مني ألا أنشر شيئًا مما دار بيننا في هذا اللقاء الأول.
وسوف أتابع ذكرياتي معه في العدد القادم.
———-
(1) منها مثلا أن تعاقد كل من توفيق الحكيم وصلاح عبدالصبور مع (الأهرام) في ذلك الوقت كان يتطلب منهما نشر ما يريدون نشره فيها قبل غيرها، وأن نجيب محفوظ كان في ذلك الوقت يرفض كتابة المقالات وهكذا.
(2) نشر هذا التحقيق في العدد 103 من (المجلة) لشهر يوليو 1965 ص 95-101.
(3) نشر في نفس العدد 103 من (المجلة) ص 102-111.
(4) يقول هيكل «العرض كان الأول من نوعه في تاريخ الصحافة المصرية، أي يحصل على مرتبه لمجرد أن يحضر إلى الأهرام ويجلس في مكتبه، فإن كتب أي شيء يحاسب عليه بقيمة ما يكتبه. جاء توفيق الحكيم إلى الأهرام بعقد يحصل بموجبة على خمسة آلاف جنيه في السنة بخلاف أجره عمّا يكتبه. وعندما وصلنا إلى هذه الصيغة – التي لم يطلبها الحكيم – لم يكن قادرا على تصديقي، فقال: يعني حا آخد ماهية كبيرة علشان بأقعد بس في الأهرام؟» راجع: هيكل والمثقفون ص 322. وكانت الخمسة آلاف جنيه هي الحد الأعلى للمرتبات والأجور في مصر في هذا الوقت.
(5) صبري حافظ، وضع الفنون الأدبية الراهن ومشكلاتها: تحقيق أدبي يشترك فيه نجيب محفوظ، يوسف إدريس، محمود أمين العالم، صلاح عبدالصبور”، مجلة (المجلة) عدد 103، ص 95.
(6) المرجع السابق، ص 96.
(7) كانت ملاحظاته لعملية التبادل والمقايضة التي تتم في هذا المجتمع، وخاصة في المناسبات الضخمة كالأفراح وطهور الصبيان والمآتم، حيث تنهض القرية كلها بعبء الموقف، وما يتطلبه من إمكانيات ضخمة لا يستطيع الفرد أن يوفرها بإمكانياته المحدودة، فتجيء الأواني والأدوات والأطعمة المطلوبة للمناسبة من كل بيت في القرية. كل يرد ما سبق أن قدمه له صاحب المناسبة من قبل في مناسبات مماثلة، أو يراكم لديه جميلا يتوقع رده في مناسبات قادمة له. وهو أمر يشبه ما يحكيه الطيب صالح في (عرس الزين) حينما يحدث عرس في القرية، وكانت أم الزين تشارك بما لديها فيه، وإن سخر الكثيرون من ذلك واستبعدوا أن يكون للزين أي عرس ترد فيه كل تلك المشاركات التي سبق أن قدمتها أمه للآخرين، ولكنهم كانوا واهمين، لأن عرس الزين صار أكبر الأعراس. لكن بورديو لاحظ أنه في مثل هذه المناسبات فإن كبير القرية يقدم عادة ما لا يستطيع صاحب المناسبة أن يرده، كأن يذبح عجلا أو شاة، لأن ما يطلبه ليس – نوعًا من التبادل الندي في نظام المقايضة بين أفراد القرية المتضامنين – ولكنه نوع آخر من التبادل الذي يفرض سلطته على الآخرين، أو يتوقع منهم مقابله نوعًا من التعاقد غير المكتوب بالزعامة أو غضّ الطرف عما يرتكبه من مخالفات. وهو ما سمَّاه بالعنف الرمزي، والذي يؤدي بدوره إلى نشوء لغة جديدة يلعب فيها الصمت والتقبُّل الضمني لما هو غير مقبول عادة دورًا واضحًا.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى