العامية في الرواية من “تشارلز ديكنز” إلى “جوخة الحارثي”.. لماذا ننتقدها؟

انتهيت مؤخرًا من قراءة رواية جون شتاينبك “عن الفئران والرجال” ضمن مجموعة من الروايات القصيرة لذلك الروائي الأمريكي الشهير الذي حصل على جائزة نوبل في الأدب في عام 1962، ليثير فوزه، آنذاك، زوبعة في الأوساط الأدبية حول العالم، بل وفي الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، اعتراضًا على سطحية كتاباته. ولكنه في تقديري – إن لم يكن فيلسوفًا – فأنه يمتلك القدرة على وصف خلجات النفس البشرية بدقة.

وبعد مرور نصف قرن على ذلك، وتحديدًا في عام 2012 فُتحت أوراق أرشيف الجائزة ليتبين أن شتاينبك كان أفضل “المرشحين الضعفاء”، وأن اسمه جاء كتسوية بينه وبين عدد من الكتاب الأوروبيين الأسوأ منه (ومن بينهم ذكروا اسم لورانس داريل صاحب “رباعية الإسكندرية”).

ومع ذلك، فروايته هذه “عن فئران ورجال”، كما حدث للعديد من رواياته الأخرى مثل: “شرقيّ عدن”، و”عناقيد الغضب”، و”اللؤلؤة”، و”أفول القمر” وغيرها، قد تحولت فيما بعد إلى أفلام سينمائية على جانب كبير من الأهمية.

بل وكتب هو – أو شارك في كتابة – عدد من الأفلام السينمائية المهمة مثل: “فيفا زاباتا”، و”قارب النجاة” الذي أخرجه ألفريد هيتشكوك.

جون شتاينبك

أما روايته التي نحن بصدد تناولها “عن فئران ورجال” (1937) ففيها يتأمل “جورج” العامل المتجول، الوقت الذي أمضاه في السفر مع “ليني”، الرجل الطفولي الضخم، المتخلف عقليًا، وهو يعتمد كليًا على رفيقه “جورج” في كسب لقمة عيشه، رغم القوه البدنية الضارية التي يبدو عليها.

يتجول الرجلان في كاليفورنيا أثناء فترة الكساد العظيم بحثًا عن عمل، ولكن بعد العثور على وظيفتين في مزرعة، يهيم “ليني” افتتانًا بزوجة ابن مالكها؛ المرأة اللعوب التي تستجدي اهتمام كل الرجال، و”ليني” من بينهم. لكن “ليني” هذا مولع أيضًا بمداعبة الحيوانات، يتلذذ بتمسيد شعرها، إلا أن قوته الجسدية مع غبائه الواضح يجعلانه يقتل فأرًا اصطاده، ثم جروًا حديث الولادة، وأخيرًا.. زوجة ابن صاحب المزرعة. ومع ذلك، فعندما يُمنح كل من “جورج” و”ليني” فرصة لامتلاك جزء من المزرعة، فإن افتتان “ليني” بالمرأة الجميلة يدمر أحلامهما بعد أن كسر عنقها دون قصد منه، مما دفع “جورج” – بتحريض من عمال المزرعة – يطلق رصاصة الرحمة عليه من وراء ظهره في محاولة لحمايته من انتقام صاحب المزرعة وابنه الأرعن.

أما عن كتابة شتاينبك لهذه الرواية التي تعد من أهم وأشهر ما كتب بعد “شرقي عدن” (1952)، فهي تتميز باستخدام اللغة الدارجة، العامية، فضلًا عن أن الحوار جاء بحذف بعض الحروف التي لا تنطق في الحوارات العادية، ولا سيما بين أبناء الفئات الدونية في المجتمع الأمريكي، ولكن ذلك جاء من دون سخرية منهم أو حط من شأنهم.

 ونحن ربما تحتاج حين تقرأ الرواية في لغتها الأصلية أن ننطق الحوار حتى تستسيغه، وتتأمل ظلال سخريته ومغزى قفشاته.

وقد ذكرتني هذه الطريقة في الكتابة بروايات كاتب أمريكي آخر هو “ويليام فوكنر” (الحاصل هو الآخر على جائزة نوبل في عام 1949) إذ استخدم هو أيضًا لهجة الجنوب الأمريكي العامية في كتابة رواياته المتعددة مثل: “الصخب والعنف” (1929)، و”بينما أرقد في حضرة الموت” (1930).

أما “برنارد شو”، (الحائز على نوبل 1925)، فإن رائعته “بجماليون” (1912) التي تحولت فيما بعد إلى الفيلم السينمائي الشهير “سيدتي الجميلة” (1964) ففيها الحوار الشعبي الكريه الصادر عن العوام من سكان مدينة لندن في أوائل القرن العشرين والتي أبدعت في أدائه الرائعة “أودري هيبورن” حين لعبت دور البطولة النسائية في الفيلم. بل إننا إذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، فسنجد أن “تشارلز ديكنز” في رائعته “أوليفر تويست” (1837) كتب حوارها باللهجة العامية اللندنية أيضًا.

أوليفر تويست

إن ما ذكرته هنا – وكثيرًا غيره مما لم أذكره، مثل: “يوليسيز” لجيمس جويس، التي أصبحت في الترجمة العربية “عوليس”، أو رواية “البؤساء” لفيكتور هوجو – وغيرها من روائع الأدب العالمي، التي حظيت بأعلى درجات التقدير والشهرة، قد تعمد مؤلفوها صياغتها بلغات ولهجات عامية أو شعبية أو دارجة مختلفة، ولم يصرخ أحد في وجوههم ويتهمهم بالإساءة للغاتهم، أو بتعمد تجهيل شعوبهم، أو الادعاء بصعوبة – أو استحالة – فهم أعمالهم إذا كُتبت بتلك الطريقة.

 بل وتخطت أعمالهم كل هذه الحواجز، ووصلت إلى قمة درجات النجاح الأدبي.

أما عندنا – في دولنا العربية بالذات – فلا نزال نعاني من هذه الإشكالية بصورة متكررة على نحو يدعو إلى التأمل والتدقيق. بل ونجد كتابًا ممن يتسمون بتحرر أفكارهم وتقدمية مفاهيمهم، مثل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين يصرون على استخدام اللغة الفصحى في جميع ما يكتبونه هم، أو فيما يحرره الآخرون من قصص وروايات، بل ومقالات صحفية.

وكذلك نجد عميد الرواية العربية، صاحب نوبل؛ نجيب محفوظ، يصر على استخدام اللغة الفصحى، بل ويستخدم لغة تقع بين العامية والفصحى، حتى وإن كان سياق استخدامها (خاطئ) مثل “زوبا العالمة” وهي راقصة مبتذلة وليست باحثة في العلوم، أو “المعلم” التي تعني شيئًا مختلفًا عن صاحب مقهى أو جزار، أو “السبيل” التي لا تعني زيرًا مملوءًا بالماء يسقي العطشى بالمجان.

ونتجاوز في كتابات عديدة أخرى عن ذلك الالتزام الصارم في استخدام اللغة الفصحى؛ فحين يكتب الأدباء مسرحيات أو أفلامًا للسينما أو مسلسلات للتليفزيون، نجدهم قد تناسوا ذلك الحزم وركنوا ببساطة للكتابة باللهجة الشعبية دون غضاضة.

بل ونجد نجيب محفوظ شخصيًا يكتب سيناريو أفلام عديدة باللهجة العامية، مثل: “لك يوم يا ظالم” (1951) و”جعلوني مجرمًا” (1954) و”الفتوة” (1957) بالاشتراك مع السيد بدير.

وحتى أمير الشعراء أحمد شوقي فقد كتب عدة أغاني لعبدالوهاب باللغة العامية، مثل: “في الليل لما خلي”، و”بلبل حيران”، و”كل اللي حب اتنصف”، و”شجاني نوحك يا بلبل”، “النيل نجاشي” وغيرها.

كما برع أحمد رامي، وهو شاعر فصيح، في كتابة أروع الأغاني بالعامية المصرية وبخاصة لأم كلثوم. والأخوان رحباني اللذان كتبا لفيروز أجمل الأغاني باللهجة العامية اللبنانية.

ومما لا شك فيه أن تمرَّد بعض الشعراء والكتاب على مدار السنين على هذا القالب المتعسف، الذي تخطاه العالم قبلنا بقرون، كما سبق وذكرت. فشعراء العامية المصرية من أمثال: محمود بيرم التونسي، وفؤاد حداد (السوري الأصل)، وصلاح جاهين كتبوا فأبدعوا شعرًا ممتعًا بمفردات شعبية سليمة.

وكذلك كتب فتحي غانم، ويوسف إدريس، وإحسان عبدالقدوس حوارات أبطال رواياتهم وقصصهم باللهجة العامية. بل وكتب لويس عوض بالعامية عملًا أدبيًا كاملًا هو “مذكرات طالب بعثة” (2001).

وفي عام 2019 فازت رواية “سيدات القمر” للكاتبة العُمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر البريطانية باعتبارها أفضل رواية مترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وقد قرأتها بالعربية فوجدت حوارات أبطالها مكتوبة باللهجة الدارجة العُمانية. فجاءت لتفند أمر صعوبة فهم اللغة الشعبية بالنسبة للقارئ العربي من خارج البلد المنتمي إليه المؤلف.

وختامًا.. أود هنا أن أخوض في نقطة قد تعد شائكة عند البعض؛ وهي قدسية اللغة العربية الفصحى. فأقول إن اللغة العربية وجدت قبل نزول القرآن الكريم بعدة قرون، وتكلم بها المشركون من عبدة الأصنام وغيرهم، وكتبوا بها ونظموا الشعرَ، ومع ذلك نزل بها القرآن الكريم.

الأمر الثاني هو أن أغلب المسلمين في أرجاء العالم لا يتحدثون باللغة العربية، بل إنهم لا يفقهون حرفًا واحدًا منها، ومع ذلك فهم يتخذونها – مضطرين – أداة للعبادة في صلواتهم دون فهم، كما يصلي بعض الكاثوليك باللغة اللاتينية، وكما يصلي بعض الأرثوذوكس المصريين باللغة القبطية.

وأخيرًا.. هناك الملايين من البشر يتحدثون ويكتبون باللغة العربية وهم من غير المسلمين؛ مسيحيون أو يهود، وهناك الملايين من المسلمين العرب الأميين الذين لا يقرأون العربية أو أي لغة من اللغات، ولا يفهمون إلا اللهجات المحلية التي ورثوها، بما قد تحتويه من كلمات فصحى هنا أو هناك، ولكنهم في أغلب الأحيان لا يفهمون معناها.

إذن، فالقداسة هي للنص القرآني وليست للغة العربية التي كُتِبَ بها هذا النص.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى