تفتقت أكمام حواسه الفنية فوظفها توظيف الفنان.. لا المحترف

الشاعر والدبلوماسي د. حسن النعمة يبوح لـ«الجسرة الثقافية» عن علاقته بالموسيقار عبدالعزيز ناصر:

جمعت بين الأديب والشاعر والدبلوماسي الدكتور حسن النعمة والموسيقار الراحل عبدالعزيز ناصر علاقة روحية وإبداعية وفكرية وثقافية وطيدة أثمرت حوارًا وجدانيًا متصلًا، وجعلت من الدكتور حسن النعمة خير شاهد على عبقرية عبدالعزيز ناصر الأدبية والموسيقية وثقافته الموسوعية ورؤاه وفكره الثاقب.
فقد كان الراحل عبدالعزيز ناصر يرى في الدكتور حسن نعمة أخًا أكبر وصديقًا ودليلًا موثوقًا إلى عوالم الفكر والمعرفة والثقافة.
وكان النعمة يرى في عبدالعزيز نموذجًا للمبدع العبقري المطبوع مرهف الحواس.

د. حسن النعمة

هذه التجربة والعلاقة الوجدانية أثمرت ثلاث عشرة قصيدة من ديوان الشاعر حسن النعمة في التعبير عن مقام عبدالعزيز ناصر الخاص في الإبداع والاحتفاء بتجربته وفنه، ومنها قصيدته:

رقّ في فنّه وفي ألحانه
مبدع سابق على أقرانه
شفّه الوجد واصطفته الحنايا
فسقانا من مترعات دنانه

حاورت الأديب والشاعر د. حسن النعمة عن رؤاه حول عبدالعزيز ناصر الإنسان والفنان في ظلال الذكرى الخامسة لرحيله.
■ جمعت بينك والموسيقار الراحل عبدالعزيز ناصر علاقة فريدة قل مثلها بين الأدباء والمثقفين والموسيقيين والمطربين.. حدثنا عن ملامح هذه العلاقة.
* الراحل الحبيب عبدالعزيز هو ابن عمتي، ولكن احتفائي به لم يكن من باب القربى، فمنذ صغره توسمت فيه ملامح الأدب قبل أن تتطور فيه ملامح الفن، كانت له ميول أدبية؛ يستمع إلى الشعر ويستعير مني بعض الكتب لقراءتها.. ومع تطور الزمن تنامى حسه الموسيقي، فهو رهيف الحس كإنسان منذ صغره، درج على حب الشعر والأدب ورقائق الكلام.. وفي مطلع الستينيات من القرن الماضي، أتى إلى الدوحة أخ عزيز هو ماجد طه العمري، معارًا من وزارة المالية السورية لوزارة التربية والتعليم في قطر، وكان رئيسًا لمعهد للموسيقى في حلب الشهباء في سوريا، فنشأت بيينا علاقة، تعرف فيها عبدالعزيز في رونق فتوته على الفن المسرحي، وامتدت تلك العلاقة بين عبدالعزيز والعمري، وتوطدت صداقتهما حتى وفاته “رحمه الله”.
سافر عبدالعزيز إلى مصر لدراسة الحقوق، إذ كان القدماء لا يحبذون دراسة أبنائهم للموسيقى لعامل المحافظة، ولكنه ذهب إلى معهد الموسيقى، وأخفى ذلك عن والده، وتخرج فيه وكان مبرزًا.
إن عبدالعزيز لم يكن فقط محترفًا للفن أو اكتسب موهبته من دراسته للموسيقى، بل كان مطبوعًا، جُبِلَ على هذه الموهبة وتغذى وارتضع من لبان بيئته المحلية وتراثه العربي، ومن هنا تفتقت أكمام حواسه الفنية، فوظفها توظيف الفنان وليس المحترف.

وُلد الأديب والشاعر والدبلوماسي القطري الدكتور حسن على حسين النعمة في الدوحة في عام 1942. وهو حاصل على دكتوراه في الفلسفة دراسات شرقية من جامعة كمبردج البريطانية العريقة في عام 1974. وقد عُين سفيرًا لدولة قطر لدى جمهورية الهند (1975 – 1989). والمندوب الدائم لدولة قطر لدى الأمم المتحدة في نيويورك (1989 – 1997). وسفير دولة قطر لدى الجمهورية التركية. شاعر وباحث في الدراسات الإنسانية والنقد الأدبي المقارن.

■ ماهي الميزات الفارقة في أسلوب عبدالعزيز ناصر الفني وطرائقه في التفكير ومعالجة موضوعاته؟
* تشف القلوب وتهفو إلى الموسيقى، وبعض العارفين يعتبرون السلم الموسيقى أقرب السلالم للوصال مع المعشوق الأول؛ لأن الموسيقى تخاطب الحس وهي مجلى لقضايا الانسان ومجتمعه. وقد استطاع عبدالعزيز فيما أبدعه واستلهمه من فولكلور أن يبرز ويكشف ثراء هذا التراث الذي يعد من أكبر الثروات العربية المختزنة إلى جانب الثروات والموارد المادية المعروفة.
وهنا في بلادنا، يعود الفضل لعبدالعزيز في استشراف وإبراز ماهو مودع ومختزن في بيئتنا من تراث شعبي توارثته الأجيال؛ صاغه وصنعه البسطاء والطبقات الفقيرة والعاملين في البر والبحر.. وهذا فارق جوهري بين بيئتنا الشرقية والبيئات الغربية التي صاغ ثقافتها الرأسماليون والصناعيون.
واستطاع عبدالعزيز أن يستوعب عصره، في مطلع عصر التطور والعلم، فكان خير مستجيب لنداء الروح الفنية. فقد كان يمتلك إحساسًا بما كان وبالحاضر، وتصورًا لما يكون. وكان يتمتع بحس فكري ووطني فأبدع في ألحانه وفي التغني بتراث وطنه وأمته.
■ هل نال ما يستحق من تكريم؟
– لقي بالطبع بعد مماته اهتمامًا وتكريمًا، ولكنه عانى كثيرًا عندما كان حيًا يرزق، فمواهبه لم تستغل في حياته، رغم أنه لم يكن يسعى إلى مناصب أو مكاسب مادية. ولكنه عانى كثيرًا، وكان محبطًا في آخر أيامه “رحمه الله” مثل معظم أدباء ومبدعي عالمنا العربي، فلن تجد مبدعًا أو عبقريًا عربيًا لقى ترحيبًا في حياته.

■ الفنان عبدالعزيز ناصر مع د. حسن النعمة

■ كيف ترى النقلة المهمة التي أحدثها في تحديث الأغنية القطرية وتطويرها؟
* كان الفن يمارس في البيئة القطرية كنوع من الامتاع والمؤانسة إذا جاز التعبير، وكانت هناك أجيال من الفنانين قبل عبدالعزيز أدت أدوارًا مهمة. لكن لم تكن هناك مؤسسات وإمكانيات تعين هؤلاء. لكن، عصر عبدالعزيز –كان عصر النهوض بالفنون والآداب، فأسهم في نقل الفن من بيئتنا المحلية ويضاهي بها رصيفاتها التي كانت تمتلك تجربة متميزة مثل الكويت والبحرين،بل، ونقل الفن من بيئتنا المحلية إلى محيطنا الخليجي، وإلى عمقنا العربي، إلى البلاد العربية الأقدم والأسبق في هذا المجال. واستطاع بجهده المتواضع أن يتميز في فنون تلحين مختلف النصوص التراثية والوطنية والقومية والوجدانية.. وفي وقت مبكر، وهو بعد شاب صغير؛ فغنت الفنانة الكبيرة سعاد محمد من ألحانه على مقام البياتي موشحًا من تأليفي على البحر المتدارك، في مهرجان الأغنية بتنونس في نهاية لسبعينيات من القرن الماضي، يقول:

أقبلَتْ والوجهُ ينْدى خَجَلا
تتهادى بقوام ليِّنِ
وانثنت غصنا وماجَت جدولا
فأثارت في هواها شَجَني
نسج الله لها بُرْدَ الدلال
وحباها خير قدٍّ أهيفِ
غار منها الغصن إذ مالت فمال

ومثل ذلك ألحانه المتميزة لأشعار المرحوم عيسى بن راشد آل خليفة، ولكبار الشعراء في قطر والوطن العربي.
لا بد أن نقف بإكبار لعبدالعزيز في حسه الوطني والقومي، وحسه الإسلامي الصافي الشفاف الذي لم يلتبس بمنافع إيديولوجية، فماذا غير الفن يجلو الصدأ عن النفوس! وقد كان عبدالعزيز صاحب نجوى، فجلب الكثير من العزاء للناس.
■ تجربتك في الكتابة عنه شعرًا أثناء حياته كانت ملهمة جدًا، واستمرت بعد وفاته تؤكد حضوره.
* لم أكتب عن عبدالعزيز من منظور الإكبار والإجلال المظهري.. فهو إنسان رائع رثيته احتفاء بحياته.. فالرثاء يجب أن يكون منطلقًا لحياة، وليس حديثًا عن موت.
والتفكير في أصحاب القيم يجب أن يشير إلى مسيرة تحتذى، واستمرارية لما تؤول إليه الحياة. إن المبدعين لا يلاقون في حياتهم ما يستأهلون من منازل، والتعويض بإجلال القيم التي حملوها، وأنا حريص في سيرة عبدالعزيز على التأكيد أنه فنان تملكه حب وطنه والإنسانية.

■ صور من حفل تكريم الفنان عبدالعزيز ناصر في سوريا

■ ما هي آخر مشاريعكم الإبداعية المشتركة؟
* كان مشروعًا مشتركًا مع الصديق العزيز الراحل الفنان الكبير مقبول فدا حسين الذي ربطتني به صداقة وطيدة منذ منتصف السبعينيات من القرن الفائت في فترة عملي في الهند، أتولى كتابة السيناريو شعرًا ويتولى مقبول رسمه وعبدالعزيز ناصر إبداع الموسيقى له، برعاية مؤسسة قطر. ولكن المنية عاجلتهما الاثنين “رحمهما الله”.
■ كيف تستفيد الأجيال المقبلة من إرث عبدالعزيز ناصر؟
* لا بد من مشاركة فنانين وموسيقيين من الوطن العربي في بحث ودراسة هذا الإرث، وأتمنى أن تتولى مؤسسة موسيقية وعلماء وخبراء دراسة وسبر أغوار الروح الفنية لعبدالعزيز، لتجلو دوره وتعزز القيم التي نادى بها، فعبدالعزيز من مدرسة ترى في الفن معينًا للمجتمع.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى