النقد العربي الآن لا يستطيع مجاراة ما كتبه الرحّالة العرب قديمًا

الناقد والروائي والمترجم المغربي بوشعيب السّاوري في حوار حصري لــ"الجَسرة الثقافيّة":

بوشعيب السّاوري ناقد وروائي ومترجم مغربي، له جهود حثيثة وعميقة في تطوير البحث العلمي في الإنسانيات ارتبط بمراجعة الخطاب الرحلي العربي والغربي وتحليله وتفكيك تصوّراته وأبعاده قديمًا وحديثًا، وقد عرّب رحلات غربيّة عديدة للقارئ العربي مع تقديمات لافتة، وهو إلى هذا كاتب روائي تميّز في نصوصه بنهج إبداعي يحفر في واقع الفرد وينصت له. إسهاماته عديدة، من أبرز سماتها التفكير وبناء رؤية تندرج ضمن مشروع فكري يراهن على الموضوعيّة في طرح المسائل، ويندرج في هذا الإطار كتابه الشهير “الرحلة والنسق: دراسة في إنتاج النصّ الرحلي، رحلة ابن فضلان نموذجا” الصّادر عن دار الثقافة بالمغرب في الرباط 2007، وفي سوريا عن دار الرحاب 2017. و”صورة الآخر في رحلات عربيّة من القرن العاشر إلى القرن الحادي والعشرين” الصّادر عن دار النايا بدمشق 2014. وله أيضا “ابن شهيد بين الرغبة الفرديّة وإكراهات السياق الثقافي” الصّادر عن دار الحرف بالمغرب 2007 وبسوريا عن دار النايا 2013.

له كتب عديدة في دراسة النصّ الروائي كـ “ـرهانات روائية قراءات في الرواية المغربية” عن منشورات جذور بالرباط 2007، و”من الحكاية إلى الرواية، بصدد العالم الروائي للميلودي شغموم” عن الدّار نفسها 2008، و”التباس هوية النص” عن منشورات دار النايا بسوريا 2012، و”الذات وصورها في الرواية العربية” عن منشورات المدارس بالدار البيضاء 2016. وله ترجمات عديدة أيضا لكتب الرحلة الغربيّة نكتشف أهمّها في صلب هذا الحوار الشيّق، ناهيك عن مدوّنته الروائيّة التي تشمل روايات “غابت سعاد” و”إصرار” و”حالات حادة”.

وهو فضلا عن هذا كلّه أستاذ باحث ورئيس الجمعيّة المغربيّة للباحثين في الرحلة وسكرتير مجلّة “سرود” المغربيّة التي يصدرها مختبر السرديات في جامعة بنمسيك بالدار البيضاء.

سألناه:

يبدو أنّ الاهتمام بالنصّ الرحلي العربي يتجدّد في ضوء خصائص كثيرة يزخر بها، فقد دعا الباحث الأمريكي إدموند روس دان في كتابه “مغامرات ابن بطّوطة الرحّالة المسلم في القرن الرابع عشر الميلادي” إلى ضرورة إعادة اكتشاف هاته الرحلة وفق المناهج الجديدة، وكنت قد درست رحلة ابن فضلان مستنطقا مضمراتها وأبعادها بالاعتماد على تنوّع الأنساق والمتلقّين. إلى أيّ مدى يجاري النقد العربي والغربي اليوم ما كتبه الرحّالة العرب قديما؟

أجابنا: إذا نظرنا إلى المنجز النقدي العربي حول النصوص الرحلية، يبدو لنا أنه حقق تراكما لا بأس به من حيث الكم، لكن إذا نظرنا إليه من زاوية الكيف سنجد عددا قليلا من الدراسات التي استطاعت أن تجدد في الدراسات الرحلية والباقي ظل حبيس تصورات تقليدية أو في الأغلب الأعم هو تكرار انبهاري لما أنجزته الدراسات القليلة المجددة وهو ما يسقطه في النمطية والتكرار، بالإضافة إلى آفة آخرى وهي النظر إلى النص الرّحلي انطلاقا من أدوات الدراسات الروائية الأمر الذي يفقده خصوصياته المحددة لهويته كنص مختلف منفلت ويجعله مجرد حقل لتطبيق مفاهيم بعيدة عن خصوصياته.

في النصّ الرحلي العربي اليوم تحوّل من الوصفي إلى السيرذاتي.. ومن التركيز على الأماكن المزارة إلى الشخصية الزائرة.. ومن نقد الغير إلى نقد الذات

وجوابا عن سؤالك طبعا؛ فنقد عربي بهذه المواصفات لا يستطيع مجاراة ما كتبه الرحالة العرب قديما، أما النقد الغربي فيستطيع مجاراة النصوص الرّحلية القديمة نظرا لكونه لا ينفك عن تجديد مداخله وتثوير تصوراته النظرية.

سألناه: قارئ الرحلات العربيّة القديمة يظفر بصورة شعوب ومجتمعات عديدة كالصين وروسيا وأفريقيا وصولا إلى اسكندنافيا وغيرها من البلاد الأوروبيّة، ولا شكّ في أنّ هذا يدخل في باب سيطرتهم على المجال الجغرافي وتوسّعهم أوّلا وطموحهم المعرفي ثانيا في ظلّ الحضارة العربيّة الإسلاميّة الصّاعدة في الماضي، ما هي ميزة هاته الرحلات اليوم، إذا ما أردنا مقارنتها بالرحلات الغربيّة من ناحية آلياتها أوّلا، وتصوّراتها وتصوّراتهاالمعرفيّة العميقة ثانيا؟

أجابنا: فعلا استطاعت الرحلات العربية في القرون الوسطى التوسع في مناطق عديدة من المعمور في آسيا وأفريقيا وأوروبا تصاديا مع توسع الإمبراطوية الإسلامية شرقا وغربا وجنوبا وشمالا وتحقيقا لأهداف جمّة اقتصادية وسياسية ودينية وثقافية، ساعد على تناميها رسوخ علمي الجغرافيا والمسالك والممالك، وقد تميّزت هذه الرحلات بتعدّد اتجاهاتها وكذا تعدد كتابها من ساسة وعلماء وفقهاء وحجاج، كما تميزت بالغزارة التأليفية، ناهيك عن موسوعيتها التي جعلت النص الرحلي هجينا يلم شتات العديد من الأجناس ومفتوحا على خطابات شتى؛ أدبية واجتماعية وسياسية ودينية وجغرافية.

تتقاطع الرحلات العربية مع الرحلات الغربية الحديثة والمعاصرة في ميزات عدة كالموسوعية والانفتاح والهجنة وتمثلات وتمثيلات الآخر وحضور العجيب والغريب وغيرها من ثوابت النص الرحلي، بالإضافة إلى الهم المعرفي الاستكشافي المسنود بعلوم ومعارف؛ لكن مع اختلاف في طبيعة هذه العلوم، فإذا كانت الرحلات العربية قد تأثرت بعلمي الجغرافيا والمسالك والممالك فإن الرحلات الأوروبية تأثرت بالتقدم المذهل في العلوم الطبيعية ناهيك عن ظهور العلوم الإنسانية كالاتنوغرافيا والانتربولوجيا في ارتباط بالتوسع الاستعماري. كما تختلف الرحلات الأوروبية عن الرحلات العربية الإسلامية في تعدد تحققاتها النصية، وذلك تبعا لتعدد الرحالين (أدباء، دبلوماسيين، مستكشفين، مغامرين، عسكريين…) وتعدد وجهاتهم والسياقات الموجهة للرحلات وأهدافها؛ إذ تحكمت الغايات من السفر في التحققات النصية للرحالين إلى جانب تنوع وسائل السفر والتقنيات المساعدة على تحققه تصاديا مع التقدم الذي شهدته العلوم والتقنيات في العالم الغربي؛ فسرّعت مدة السفر وكيفيته، ونوعت نصوصهم الرحلية بين التقارير الاستعمارية والعسكرية والاستكشافية والغرائبية والنصوص الأدبية الصرفة.

سألناه: يمكن للقارئ العربي اليوم أن يقرأ الرحلة الأوروبيّة ابتداءً من القرن الثامن عشر التي ربّما توجّه بها كتّابها فقط إلى الأوروبيين كما هو الشأن مع “اثنتا عشرة سنة من الاستعباد: رحلة أسيرة هولنديّة في بلاد المغرب” للهولنديّة ماريا تير ميتلن أو “من موكادور إلى بسكرة” للبلجيكي جيل جوزيف لو كليرك أو “كنت عبدا في المغرب” للفرنسي أندريانجاك فولي، وهي من ترجماتك، إلى أيّ مدى يمكن اعتبار هاته الكتابة تمهيدا للهيمنة الغربيّة باعتبارها تصويرا لانحدار الشرق المعرفي والسياسي؟ وهل دُرس فيها حقّا الآخر أي الشرقي أم أنّ صورته ضرب من التوهّم والدعاية المرتبط بملابسات الكتابة المنفعلة الناتج عن ثنائيّة غرب ـــ شرق المشهورة؟

للأسف الشديد، لا توجد، إرادة سياسية حقيقية في العالم العربي تؤمن بجدوى البحث في العلوم الإنسانية

أجابنا: الرّحلات الغربية إلى المغرب ليست واحدة، إذ يجب التمييز كما أسلفنا بين التحقّقات النصية، فرحلات الأسْر تختلف تماما عن الرّحلات المُغامراتية والاختراقية والديبلوماسية والاستكشافية، فالصّنف الأول بعيد كل البعد عن أي دافع للهيْمنة لأن الدّخول إلى المغرب كان بالنسبة لكتّابها طارئا واضطراريا، ولم تكن للرحالة أي دوافع سابقة موجهة، ويمكن أن نذكر هنا ماريا تير متلن وجاك فولي ورايمو نبريسون وغيرهم، بينما النّوع الثاني كانت لديه موجهات استعمارية واضحة، وبطبيعة الحال كان ممهدا للهيمنة الغربية انطلاقا من التملّك المعرفي للشرق العربي على الأصعدة كافّة، وإظهار تخلفه وانحداره سياسيا واقتصاديا وعلميا وعسكريا ومعرفة إمكاناته الطبيعية والبشرية تسهيلا للتحكم العسكري فيه. يمكن أن نذكر على سبيل المثال رحلات علي باي العباسي ودولاكروا وشارل ديديي والدكتور ديكيجي وجيل لوكليرك وشارل دو فوكو واللائحة تطول… إذ عبروا في نصوصهم عن هذه المساعي المعرفية الواضحة الممهدة للاستعمار، وكذا من خلال محاور رحلاتهم والإحصاءات والمقارنات والدراسات والأوصاف التي احتوتها عن الطرق والسكان والنبات والحيوان والمعادن والثروات الطبيعية والتضاريس والبنيات التحتية والتي كانت موجهة لمجلّات ذات غايات استعمارية واضحة كمجلّات الجمعيات الجغرافية في باريس وغيرها من المدن الفرنسية والتي كانت تقدم بداية على شكل تقارير شفوية قبل أن تنشر على شكل أجزاء ثم فيما بعد في كتب مستقلة.

وعلى الرغم من طابعها الاستعماري أولا، والانفعالي ثانيا، وتأثرها باللاوعي الثقافي ثالثا، فإن هذه النصوص استطاعت أن تقدم لنا صورا وتمثيلات للشرقي، وُسمت بالنمطية العابرة للنصوص والأزمنة، لكن لا تخلو هذه النصوص من تنبيهنا إلى بعض خصائصنا التي لا ننتبه إليها، فالأجنبي يستطيع الانتباه إلى ما لا نلتفت له؛ إذ نستطيع من خلال قراءة هذه الرحلات معرفة وجهنا الآخر وتشخيص كل مشاكلنا وعيوبنا على كل المستويات والتي ينبغي أن نستوعبها ونعيها من أجل تجاوز عثراتنا وأخطائنا.

سألناه: أودّ أن أسألك في صلب هذا السياق عن تأثيرات النصّ الرحلي المبني على جمالية شخصيّة كما هو الشأن بالنسبة إلى الشاعر والرسّام الفرنسي جيرار دو نرفال، فقد كان ممن ارتحلوا إلى الشرق إرضاء لرغباتهم، ألم يعدّل هو ومن نحا منحاه نظرة القارئ الغربي للعالم العربي إلى حدّ ما؟

أجابنا: صحيح ظهرت في القرن التاسع عشر مجموعة من الرحلات الأوروبية إلى الشرق لكتاب وأدباء وفنانين أمثال دو نرفال وفلوبير وشاتوبريان وشارل ديديي والكسندر ديما وبيير لوتي وغيرهم… وكانت رحلاتهم برغبات شخصية تتمثل أساسا في “السفر من أجل الكتابة” بعبارة جيرار كوجي، لقد انتقلوا إلى الشرق بغية البحث عن إمكانات جديدة للكتابة الأدبية، وبذلك ساهم في جعل النص الرحلي يلبس لبوسا أدبيا من خلال مكونين أساسيين؛ أولهما مركزية الذات الكاتبة وحضورها القوي بانفعالاتها وعواطفها وأذواقها ورؤاها وتمثلاتها لذاتها وللعالم وللغير؛ بل صارت شخصية أدبية داخل هذه النصوص بالإضافة إلى اضطلاعها بوظيفة السرد. وثانيها اللغة الأدبية الواصفة التي ابتعدت عن الطابع التقريري لنصوص المستكشفين والمبعوثين الدبلوماسيين وعلماء الجغرافيا والاتنوغرافيا. وبذلك تركوا لنا نصوصا رحلية تدخل الأدب من بابه الواسع.

كما غلبت على هذه النصوص، رغم دوافعها الأدبية الصرفة، نزعة استشراقية تحاول أن تنقل للقارئ الغربي تلك الصورة الثابتة في مخياله عن الشرق وتضاده المطلق مع الغرب أي ما كان يريده المتلقي الذي يخترق شخصية الرحالة ويصاحبها أثناء فعل السفر وخلال عملية الكتابة. وبالتالي للأسف لم تعدل جل هذه النصوص من نظرة المتلقي الأوروبي للشرق.

سألناه: ليس من الضروري أن يرتحل كاتب الرحلة ليس الآن، وإنّما أيضا في الماضي، وقد بسط المستعرب الرّوسي ديمتري ميكولسكي هاته المسألة في كتابه “المسعودي هيرودوت العرب” واضعا كتاب “الحيوان” للجاحظ في صلب الجغرافيا الوصفيّة، ومشيرا إلى كتابه الذي لم يصلنا وعنوانه “كتاب الأمصار وعجائب البلدان”، ومذكّرا بالمسعودي الذي اقتبس أخباره عن الصين في كتابه الشهير “مروج الذهب” ضمن فصل كامل عن أبي زياد السيرافي صاحب “سلسلة التواريخ”، كيف تنظر إلى هاته المؤلّفات التي تغيب فيها الرحلة الفعليّة ضمن الخطاب الرحلي عموما؟

أجابنا: يُمكن أن ننظر إلى هذه النصوص التي أشرت إليها في سؤالك انطلاقا من زاويتين: الأولى وهي أنها نصوص موسوعية استطاعت أن تضم مجموعة من المعارف حول البلدان القريبة والبعيدة، وعن النبات والمسالك والبشر تجعلها مفتوحة على عدة حقول علمية بلغة اليوم، لأنه لم يكن هناك تخصص آنذاك، فجمعت هذه النصوص بين الجغرافيا والتاريخ والمسالك والممالك والسرد، ومع ذلك فهي تندرج في خانة مفهوم الأدب في القرون الوسطى في العالم العربي الإسلامي والمتمثل في مقولة؛ الأخذ من كل فن طرف، فندخل كتابات المسعودي والجاحظ والاصطخري وياقوت الحموي وابن خردادبة وغيرهم في خانة الأدب.

أما الزاوية الثانية فتتعلّق بصلة هذه النصوص بالكتابات الرحلية على الرغم من شبه غياب الرحلة الفعلية فيها، لكن هذه النصوص الموسوعية ناتجة في جوهرها عن رحلات قام بها المؤلفون أو اعتمدوا فيها على رحلات سابقة لكتاب مشهورين أو مغمورين من أجل منح صدق ومصداقية لمحتوياتها، فليس من الضروري طبعا أن يرتحل الكاتب لكنه يعتمد على رحلات غيره في تأليف هذا النوع من الكتب أو يعتمد أحيانا على رحلات من وحي مخيلته، لأن ما تضمنته من معلومات موسومة بالغريب والعجيب لا يمكن الوصول إليها عن طريق فعل الرحلة والانتقال إلى البلدان البعيدة انسجاما مع مقولة “ليس من سمع كمن رأى”.

وبالتالي إذا انطلقنا من تصورنا للنص الرحلي، الذي نعده نصا موسوما بالحرية والانفتاح التيمي والشكلي والأجناسي الذي يجعله نصا غير مكتمل وقيد التحقق، يمكننا أن ندرج هذه النصوص في خانة الرحلة أو على الأقل تتقاطع معها في العديد من المكونات والثوابت؛ الموسوعية وبنية السفر وحضور الآخر وتمثيلاته.

سألناه: تحدّثت، أخيرا، في محاضرة متميّزة وعميقة بعنوان “الرحلة في التراث، انفتاح النصّ” في جامعة اليمامة السعوديّة عن إمكانات النصّ الرحلي واتّصاله بمجالات يصعب حصرها وخلصت إلى أنّ الرحلة نصّ بفضل هذا الانفتاح، وإذا كانت هناك خطابات معلومة في الرحلة كالرسائل والخطب والتراجم فإنّنا نودّ أن تحدّثنا عن خطابين هما الرسم والمسرح في الرحلة لارتباطهما بفنّ التصوير سواء تعلّق الأمر بالمشهد أو بالبورتريه.

أجابنا: الرحلة على حد تعبير الباحث الفرنسي جيرار كوجي مغامرة للعيْن. لذلك لا نستغرب حضور الرسم والتصوير. قبل ذلك يحاول الرحالة عبْر الكلمات رسم لوحات لما يراه من مشاهد يراعي الخطوط والأشكال والألوان والضوء والظل والمنظور كما هي الحال في رحلة ابن جبير. بل أكثر من ذلك يحاول نقل الانفعال الذي عاشه والأثر الذي سبّبه المنظر فيه، وهنا يقترب عمل الكاتب من عمل الرسام حينما يسعى إلى أن ينقل إلى اللّوحة ليس فقط المنظر الملاحَظ وإنّمًا أيضًا العواطف التي أثارها التأمل. وُجد هذا بشكل كبير في الرحلات الحجية أثناء وقوف الرحالين أمام الكعبة أو مهبط الوحي أو جبل عرفة.

لعبت كتابات الرّحلة دورًا في إعادة تقييم صيغ الرؤية التي حوّلت المعطيات الأساسية للتشكيل الأوروبي بعد سنة 1870. وقد حضر الرسم بشكل كبير في الرحلات الأوروبية وصار الرسم جزءا من العدة التي يتسلح بها الرحالون فكان من الضروري أن يرافق الرحالين فنانون تشكيليون في حالة إذا لم يكونوا يجيدون الرسم، يلتقطون مشاهدات عن المدن والأماكن والتضاريس، كما يقدمون بورتريهات عن الأشخاص الذين التقوهم، وأحسن مثال على ذلك هو رحلة الفنان التشكيلي الفرنسي مونبار إلى المغرب في نهاية القرن التاسع عشر التي جاءت طافحة بالبورتريهات. كما حضر التصوير الفوتوغرافي بشكل كبير في رحلات القرن العشرين إذ صارت الصور الفوتوغرافية تقدم صورة موازية لما تقدمه اللغة، ونذكر على سبيل المثال رحلة إدوار مونطي إلى المغرب .

كما يسعى الرحالة دومًا إلى المسرحة التي تجعل المشهد المرئي رائعًا بخلق لوحة حية، وشدّ انتباه القارئ إلى الديكور والممثلين والإضاءة .. الخ. مثلا في نقل مشاهد الألعاب ومروضي الثّعابين والعُروض البهلوانية والرقص في الرحلات الأوروبية إلى المغرب (مثلا في رحلة من موكادور إلى بسكرة، لجيل لوكليرك). خصوصا عندما يكون الرحالة مفتونا بالعرْض الذي يجري أمام عينيْه يتعلّق الأمر بمسْرحة للواقع.

سألناه: هناك نصوص رحليّة عربيّة معاصرة، ما وجه التميّز فيها بحسب رأيك في ضوء هيمنة الكتابة الروائيّة؟ وهل مازالت الرحلة مشوّقة للقرّاء في عالم افتراضي قائم على الصورة المرئيّة؟

أجابنا: عرفت بداية الألفية الثالثة توالي مجموعة من الإصدارات الرحلية في الوطن العربي، لكتاب متعددي الاهتمامات (روائيون، شعراء، إعلاميون، …) كما تميزت وجهاتهم بالتعدد (أوروبا، أمريكا، آسيا، إفريقيا، العالم العربي). عملوا على كتابة تقوم على قطيعة مع أعراف الكتابة الرحلية التقليدية؛ ويتجلى ذلك بداية في تكسير البنية الكلاسيكية للرحلة التقليدية: ذهاب، مسار، عودة. كما يحاول كل واحد من هؤلاء أن يقدم تصوره الخاص للكتابة الرحلية، قد يعبر عنه في المقدمة، وقد لا يعبر عنه، ولكن نلمسه انطلاقا من طريقة الكتابة، ورفض لطريقة أخرى كانت سائدة، يعني أن هناك وعيا بما يُقدِم عليه هؤلاء من تجديد للنص الرحلي؛ نلمسه في مجموعة من التغيرات طالت الشكل والمضمون؛ فلم يعد هناك تركيز على المعارف الموضوعية التي ينقلها الرحالة، وإنما على جودة التعبير عن الأحاسيس والانفعالات والمغامرات التي تمت أثناء الرحلة، وعبّر كثير منهم أنه يريد أن يتقاسم مع القارئ أحاسيسه ومشاعره بإعطاء فسحة لانفعالات الذات. وتحوّل محكي السفر من الوصفي إلى السيرذاتي، ومن التركيز على الأماكن المزارة إلى الشخصية الزائرة. كما لمسنا في أغلبها انتقالا من نقد الغير إلى نقد الذات. وأيضا على مستوى الدوافع لم تعد في الغالب دوافع موضوعية للرحلة، وإنما فقط دوافع ذاتية كالمتعة والاستجمام والكتابة. كما نلاحظ لدى أغلب هؤلاء أن الرحلة ليست سوى ذريعة للكتابة، وهو ما يقرب الرحلة من التخييل الروائي. كما حاولوا أن يقدموا نفسًا جديدًا للنص الرحلي موسوم بحضور البعد التأملي. ولم تعمل كل هذه التغييرات سوى على ترسيخ الطابع التشويقي للنص الرحلي.

سألناه: في رواياتك “غابت سعاد” الصادرة في 2008 و”إصرار” 2011، و”حالات حادة” 2015، رحلة من نوع آخر مدارها على البحث عن هويّة الفرد الهامشي في مجتمع قاسٍ وعنيف، وهويّة المرأة الممحوقة في بيئة معاصرة شبيهة بالمغلاة، إلى أيّ مدى يمكن القول إنّ الروائي فيك يشرّح ما يحيط به ليكتب التفاصيل اللامرئيّة في زحام اليومي ويعيد الاعتبار للوعي بالفرد؟

أجابنا: اسمح لي بداية أن أنوّه بهذا السؤال الذي استطعتَ من خلاله التقاط خصوصية تميز كتابتي الروائية؛ ألا وهي الالتفات إلى ما يحيط بي ككاتب روائي من أجل بناء متخيل روائي ذي خصوصية تعيد الاعتبار للكثير من التفاصيل المسكوت عنها في واقعنا الاجتماعي بتعقيداته، التي تبدو لنا في كثير من الأحيان أغرب من الخيال.

أنطلق في كتابة رواياتي من تصوّر إبداعي يرى أن الرّواية جنْس أدبي مقاوم يستطيع أن يعطي لأي شخص، بغض النظر عن جنْسه أو سنّه أو عرْقه أو مكانته الاجتماعية الحق في التعبير عن ذاته وعن هويته ومشاغله وهواجسه ورغباته وأحلامه وصراعاته، أي أنّها “تاريخ من لا تاريخ لهم” بلغة عبدالرحمن منيف.

لذلك حاولت في رواياتي الثلاث إعادة الاعتبار للوعي بالفرد والمرأة بالأساس، من خلال وضع اليد على نماذج اجتماعية تعيش على هامش المجتمع وإبْراز أشْكال معاناتها، وكيف تسْتطيع مُواجهة عالمها القاسي وقيوده المكبّلة لها، وكيف تحاول إثبات ذاتها داخله، وكيف تعي خيباتها وتكشف عنها، وكيف تُواجه أعْطاب الواقع الاجتماعي المعقّد الخيوط الذي وجدت نفْسها مكبّلة داخله، وتتّخذه مجالًا للصراع والمواجهة وموضوعًا للتّحليل والتأمل.

سألناه: ما هي الرهانات المعلّقة على الترجمة، وأنت مترجم، في الربط بين الثقافة العربيّة والثقافات الأخرى وإرساء حوار فكري عميق وبنّاء ورصين؟

أجابنا: لعبت الترجمة، على مر العصور دورًا كبيرًا في انفتاح الثقافات على بعضها البعض وتفاعلها المتواصل، وكان لها دور بارز وحاسم في تحولات مفصلية كبرى شهدها التاريخ الإنساني. يمكن أن نذكر على سبيل المثال لحظتين: الأولى خلال القرن الثامن الميلادي حينما مكنت الترجمة الثقافة العربية من استيعاب الفلسفة والعلوم والآداب الفارسية والرومية والسريانية والهندية واليونانية، وما ترتب عنه من إثراء للثقافة العربية الإسلامية وجعلها تتقبل الآخر في اختلافه. اللحظة الثانية تمت في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر وتجلت في فتح مدرسة طليطلة لترجمة العلوم والفلسفة العربيين إلى اللغة اللاتينية، وما ترتب عنها من تحولات علمية وفكرية خلال القرون الموالية في أوروبا.

 لذلك ظلت الترجمة، وستبقى الطريق الملكي لتقبّل الآخر وإرساء سُبل الحوار البنّاء معه، لأن الأنا لا تغتني إلا بالتوجه نحو الآخر وفتح سبل الحوار معه؛ ويتحقق ذلك بالنسبة لي أولا في الرحلات التي هي شكل من أشكال الترجمة العفوية، وثانيا في فعل الترجمة. لأن درجة نمو الدول تُقاس بحركة الترجمة لديها منها وإليها، التي تؤكّد من جهة مدى قدرتها على مسايرة ومواكبة ما يجري حولها على المستويات العلمية والفكرية والأدبية والفنية والاقتصادية والتقنية كافة، ومن جهة أخرى درجة إسهامها أو عدمه في هذه المستويات. وبالتالي تظل الترجمة باعثا على خلق قابلية الثقافات لتجديد نفسها عبر انفتاحها على غيرها.

سألناه: كيف تنظر إلى واقع البحث في العالم العربي حاليّا؟ وماذا تقترح في هذا الصدد لتطويره وربطه بالجهد المعرفي العالمي في ظل التقارب الكوني واحتكاك المجتمعات ببعضها البعض؟

أجابنا: للأسف الشديد وضع البحث العلمي، في مجال العلوم الإنسانية، وهو الحقل الذي ننتمي إليه بالعالم العربي حاليا، سيء للغاية، مع وجود استثناءات معدودة على رؤوس الأصابع، وذلك لغياب إرادة سياسية حقيقية تؤمن بقيمة وجدوى البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية، إضافة إلى وجود عوائق ثقافية تمنع هذه العلوم من أخذ مكانتها والاطلاع بأدوارها العلمية، ناهيك عن ريبة السياسيين منها، وهذا يحيلنا على عائق آخر وهو غياب الديمقراطية، الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى وجود أناس دون المستوى في مراكز القرار أو رؤساء فرق البحث والمختبرات الجامعية، مما يؤدي إلى محاصرة الكفاءات وتهميشها وتضييع إمكانات الاستفادة من خبراتها وإقبار طموحاتها.

ولذلك لا يمكن تطوير البحث العلمي في عالمنا العربي دون وعي الجهات المسؤولة بجدواه وقيمته وشروط اشتغاله ومتطلباته التي تقتضي الانفتاح على التجارب العالمية. ولن يتأتى ذلك إلا بوجود رؤية ديمقراطية ذات حس وطني متبصر يراهن على تشجيع الكفاءات وتجديد الأطر والبرامج والمناهج الجامعية وبيداغوجيا التدريس، والاهتمام باللغة العربية وفتحها بشكل عقلاني وعملي على اللغات الأخرى من أجل الاحتكاك بها وتطويعها وجعلها قريبة من واقعها وتساير مستجدات العلم على المستوى العالمي، وتفعيل وتنظيم فعل الترجمة ونقله من طابعه الهاوي إلى طابع استراتيجي واضح المعالم والغايات، بربطه بمتطلبات مختبرات البحث وتوجيهه إلى مسايرة المستجدات العلمية في ميادين العلوم الإنسانية.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى