الواسطة والمحسوبية والرشوة

تعرف أيضًا بالمحسوبية واستخدام النفوذ لتحقيق المآرب والمصالح، وتعتبر في أغلبية المجتمعات العربية بالأخص، أمرًا عاديًا له القدرة في التأثير على ضمائر المسؤولين وتحويل لفظة “لا” إلى “نعم” واستخدام معارف واتصالات الفرد ونفوذه لإنجاز المهام الصعبة، كالمعاملات الحكومية والتنازل عن الغرامات المرورية والتوظيف أو الترقية.
إنّها الواسطة، الشائع عنها المساهمة في نشر الفساد، وقتل الضمائر، والإخلال بالنظم والقوانين الحكومية، والمساواة بين المواطنين، وإلحاق الأذى والضرر بالمصلحة العامة.
لقد تساهل المجتمع العربي بكافة طوائفه بشأن ظاهرة الواسطة، حتّى أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من التعاملات اليومية وفي ميادين الحياة كافة.
قنَّنها المواطن العربي ومنحها صلاحيات المبادئ والأخلاقيات العادية، فامتزجت بأشكال الفساد كافة والتهميش والظلم الاجتماعي، حتّى باتت ذلك الشبح الذّي عاث فسادًا ولم يجد من يردع جماحه ويعيده لرشده.
تحوّلت بموجب ذلك لأسلوب حياة بات يغزو ثقافة الدول العربية بشكل مرعب مخيف. هي “الفيتامين واو”، كما يحلو للساخرين تسميتها، فيتامين تظهر منافعه جليًّا على الطبقة الثرية، بينما مضاعفاتها الخطيرة تنعكس على الطبقة الفقيرة المعوّزة، باستبعادها من المشهد “الوسائطي”، إن صّح التعبير.
الواسطة إذن، ما هي سوى الوجه السيئ للنوايا الحسنة، لها القدرة العجيبة على حلّ أيّ مشكلة مهما بلغت صعوبتها ودرجة تعقيدها، وهي بمثابة زيت تشحيم مثالي وسحري، يفسح المجال لفرص العمل والترقيات والمقاعد في الجامعات، ويطلق العنان للعديد من الأعمال التجارية والصفقات الحكومية، ويساهم في خلق فرص الولوج لعالم النجاح والرفعة من غير بذل أي جهد يذكر، وكذا قفز الطابور الانتظار وتحقيق المبتغى والأماني الصعبة المنال بجرّة قلم مجرم أو بخشخشة أوراق مالية.

الواسطة ما هي سوى الوجه السيئ للنوايا الحسنة، لها القدرة العجيبة على حلّ أيّ مشكلة

لا تعّد الواسطة الآفة الوحيدة التّي تشّكل خطورة على المجتمع بجميع أطيافه وفئاته ميادينه الحيوية، هناك أيضًا المحاباة أو المحسوبية والتّي تعيق بدورها التنمية الاقتصادية وتؤثِّر تأثيرًا سلبيا على سيرورة الأعمال، من خلال توفير ميزة غير عادلة واتّخاذ القرارات المبنية على الاتصالات والعلاقات الشخصية بدلًا من الجدارة والإنتاجية.
كلاهما عنوان الفساد ووسيلة قهر للعباد، وهما بمثابة فيروس اجتماعي فتّاك، يهدد بانقراض المواهب وانهيار قيم المجتمع، والمسبب الرئيس لتفشي الفساد الإداري.
إنّ من يقرأ التاريخ جيدًا يمكنه الوقوف على مدى التأثير السلبي للظاهرتين في المجال السياسي قبل الإداري، وما أسهما به في سقوط دول عربية خلال السنوات القليلة الماضية.
فالمحاباة وتمييز البعض عن الآخرين بالمناصب الكبرى أو حتى الصغرى، وكذا بالرواتب والحوافز، لا يعتبر بأي حال من الأحوال، مجرَّد تصرُّف إداري سلبي، بل إشاعة صريحة لعدم الثقة بالكفاءات العلمية والتعليم بشكل عام، والإبداع والابتكار، طالَما أن هناك من يمتلك إسناد مسؤوليات حكومية مرموقة وعلى قدر كبير من الأهمية لمن لا يستحق، فيما يحرم الجدير بذلك من أدنى المكاسب المستحّقة.
في ظل ذلك يمكن تعريف المحسوبية على أنها محاباة الأقارب أو الأصدقاء، لا بسبب كفاءتهم، وإنما بدافع القرابة. خطورتها الحقيقية تكمن في قلة الإدراك لحجمها كآفة، وعدم الاستيعاب التام لما تُسببه وتتركه من آثار جسيمة، باعتبارها تضيف إلى الواسطة نوعًا من العمى الوِجداني الذي يمنع ظهور ملامح الصورة الحقيقية، ويساهم في انتشار شتَّى أنواع الإغراق في الذاتية بمنأى عن الموضوعية الحقّة.
فبالإضافة إلى سوء استخدامها، اكتسبت المحسوبية سُمعتها السيئة، فباتت تقدم شماعة نفسية مقنعة لمن يُخفقون في حياتهم وأعمالهم، ويعزون ذلك إلى افتقارهم إليها، باعتبارها مسبّب النجاح ومحرّك آلياته.
خطرها الاجتماعي متمثل في تأثير القيم الاجتماعية السائدة بالشكل السلبي؛ كالولاء العشائري أو الطائفي على حساب سيادة القانون، وعلى حساب العمل المؤسسي، وعليه فإنها أخطر ما تكون عندما يصبح اللجوء إليها عُرفًا اجتماعيًّا، بل قيمة اجتماعية قيّمة لا يمكن الاستغناء عنها، أدّت إلى انسلاخ مجتمعاتنا عن مبدأ الاعتماد على النفس.
إنّ الأسباب التّي تقف وراء هذا الفعل المنافي لكمال الأخلاق، تتلخص في عوامل تخص ثقافة المجتمع، ككيفية تنظيم أسلوب الحياة، وطريقة العيش التي تميز مجتمعًا عن غيره، وتمنحه صبغة صحيحة وشخصية أصيلة.

إن كلّا من الواسطة والمحسوبية يُعمقان مفهوم عبثية القانون في أي مجتمع بشري كان، ويعطلان عملية تكافؤ الفرص، ويعمقان الظلم الاجتماعي، فضلًا عن غياب قيم العمل والتقاعس عن القيام بالواجب العملي على أكمل وجه.
إنّهما تعبّران عن واقع مؤلم، وهما صورة مجسّدة للفساد المتفّشي في الأوساط الإدارية وتنطويان تحت لوائه بامتياز. فالمحاباة والتمييز بين المواطنين بسبب الدين أو العرق أو الصداقة أو القرابة، يمكن تفسيره على أنه خدمة لقطاع أو مجموعة معينة، غير أن خطورة هذا التصّرف المشين، إضافةً إلى الإجحاف الاقتصادي بحق مجموعات أخرى من السكان، تعمد إلى تحويل هذا الأخير إلى مجموعات من ذوي المصالح التي تتصارع فيما بينها للحصول على أكبر نصيب من الغنيمة.

الواسطة والمحسوبية يُعمقان مفهوم عبثية القانون في أي مجتمع بشري كان، ويعطلان عملية تكافؤ الفرص، ويعمقان الظلم الاجتماعي

ويشكل الفساد الإداري أكثر صور الممارسات غير الأخلاقية التي تعاني منها المجتمعات عامة، وهو ينتشر بصورة أكبر في دول العالم الثالث. ولقد أدركت الكثير من الدول المتقدمة خطورة التباطؤ في القضاء على تلك الممارسات، فتحركت الجهود لمحاربتها باعتبارها وباءً يفتك بالمجتمعات، ويفتت جهودها، ويَهدر طاقات أبنائها، غير أن في الدول النامية ما زالت القوانين والأنظمة البيروقراطيّة وغياب الشفافية، تحكم قبضتها في أماكن العمل، وتقف حاجزًا دون قدرة الفرد على المساهمة في تحقيق الخدمة المثلى لمجتمعه من خلال عمله، والاستفادة في الوقت نفسه من ثروات بلاده البشرية بالأخصّ.
إن الحديث عن الفساد الاجتماعي يقود لاستقراء أساليب الانحراف وحياد البشر عن الطريق القويم للفطرة الإنسانية والتجرد من المثل الأخلاقية التي أفرزها الوجود الإنساني على وجه البسيطة.
هو نوع من الفساد الذّي يشوه البنية والنسيج الاجتماعيين، من خلال صعود الأقلية على حساب الأكثرية، وتوزيع الفرص بشكل غير متكافئ؛ الأمر الذي من شانه أن يؤدي إلى حدوث تحولات سريعة ومفاجئة في التركيبة الاجتماعية، بتكريس التفاوت الاجتماعي، وتراجُع العدالة الاجتماعية، وتعطيل القوة الفاعلة في المجتمع.

إنّ ثقافة الواسطة ضاربة جذورها في المجتمع العربي، وقد ساعد على ترسيخها اعتبار أنها يمكن أن تكون حميدة، وأنها ليست دائمًا سيئة.
هكذا وجهة نظر تجد ما يؤيدها في تراثنا الإسلامي وتراثنا الاجتماعي، كما أنه لا بد أن نعترف ابتداءً بأن مكافحة الواسطة مسألة لا تحتاج فقط إلى أساليب أو وسائل فاعلة، ولكنها تحتاج أيضًا إلى مرور مدة زمنية ليست بالقصيرة وقد تستغرق أكثر من جيل، وإن تضافرت جهود مؤسسات المجتمع المختلفة، ابتداءً من الأسرة التي تزرع في نفوس نشئِها مبدأ العدل وتكافؤ الفرص، وأنّه مَن أراد شيئًا فليحصل عليه بكفاءته وجهده المبذول في سبيل ذلك.
لقد حاول الكثيرون تبرير لجوئهم للواسطة كونها أمرًا حسنًا لا غبار عليه، ونوعًا من الشفاعة الواجبة، وهي بالطبع اجتهادات خاطئة باطلة، لا تمّت للحّق والفضيلة والخلق الكريم بصلة.
بتصنيف الواسطة كشفاعة حسنة، يجب أن تتصّف أوّلا بالفعل الخيِّر، الواضحٍ البيِّن، كمن يتوسط بين متخاصمَين للصلح بينهما، أو زوجين متنافرين للجمع بينهما، أو بين دائن ومدين، للرفق بالثاني وحطِّ شيءٍ من دينه.
إنّ الشفاعة لم تكن أبدًا حكرًا على الأديان الإبراهيمية، فجذورها تمتّد إلى معتقدات الإنسان الأولى كتعبير عن عجز بشري في مواجهة الحياة بكل قسوتها وشرودها وجنوحها، بالاتكاء على وجود وسيط بين الإنسان وخالقه، يخفِّف عنه محنته الذاتية، أو يمنحه أمانيَّ مُرتجاة.
وبفعل قُوَى الصراع كان الوسيط هو الملك وزعيم القبيلة والكهنة، كوسيلة تدعم موقفهم وسطوتهم، وتجعل من الشفاعة أمل وأُمنية الضعفاء في أن يجدوا طوق نجاة في عالم قاسٍ غير مَعنيٍّ بهم، ولا بضَعفهم وجهلهم.
إنّها مسلك يطرحه التراث الديني كوسيلة “خياليّة” تُحقق النجاة والأماني، وتتم ممارستها باتخاذ وسيط له حظوة خاصة لينقل طلبات ومنافع.
إنّ مفهوم الشفاعة لن يترك الإنسان دون أن يُفقده البوصلة التي تُعينه على فَهم الحياة فهمًا موضوعيًّا، ولهذا حدَّدها الإسلام بضوابط شرعية سليمة كونها بوجهها الصحيح من أعظم أبواب النفع للمسلمين، ومن أجلِّ النعم متمثلة في أن يكون الشخص ذا جاهٍ في هذه الدنيا ليشفع فيما بين الناس، وليحكم الناس في خصوماتهم ونزاعاتهم، وأن تكون كلمته كلمة حق، يدلي بها في الموضع المناسب.
وقد ولّانا – سبحانه عزَّ وجلَّ – أمانته على هاته الأرض، وحمّلنا إياها إلى يوم القيامة، فحرّم على عباده كل ما يكون سببًا لضياعهم أو تيههم في منغصات لا عد لها ولا حصر، فحرم الرشوة التي تعرف بأنها بذل المال للتوصل به إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقه، أو بإعفائه من حق واجب عليه.
إنّ الرشوة تكمن وراءها مصلحة مباشرة، وغالبًا أيضًا ما تكون لأشخاص لا نعرفهم، أهّم صفة فيهم أنهم أصحاب سلطة ما، على خلاف الهدية التّي تقدّم لأشخاص تربطنا بهم علاقة حميمة، مما يدفع بعض المرتشين لوضعها في خانة الرشوة “الطيّبة” غير المباشرة، بغية خلط المفاهيم وتضليل الرأي العام.

مفهوم الشفاعة لن يترك الإنسان دون أن يُفقده البوصلة التي تُعينه على فَهم الحياة فهمًا موضوعيًّا، ولهذا حدَّدها الإسلام بضوابط شرعية سليمة كونها بوجهها الصحيح من أعظم أبواب النفع للمسلمين

تظّل الهدية تعبيرًا صادقًا عن الحب والتقدير للمُهدى إليه، ليس القصد منها التوصل بالعطية إلى إبطال حقٍّ أو إسقاط واجب، وهي مستحبة طبعًا إذا كانت على هذه الصفة الشرعية.
ومن أجل القضاء أو التقليل من ظاهرتي الواسطة والمحسوبية، فلا بد من التوعية المستمرة بخطورتهما، وتدريب العمال وغيرهم على فضائل الأخلاق، وزيادة فعالية العملية الرقابية في الوسط العملي.
على الناتج الإيجابي للمجتمعات المسلمة التي تنشد الرقي والسمو بطاقاتها وثرواتها، أن يظّل مرهونًا بمدى تحقيقها لمبدأ العدل والمساواة والأولوية، والتفوق وعدم إهدار الفرص عن ذوي الكفاءات، والاحتكار النجاح والتميّز لحساب فئة معينة من الأشخاص، على حساب ذوي الكفاءات والمواهب الظاهرة.
إنها دعوة للجميع، جهات دينية وسياسية واجتماعية، ومنظمات مجتمع مدني وحقوقية، وعشائرية وإعلامية، لقيادة حملة توعية واسعة من شانها إنهاء هذه الثقافة السيئة الصيت التي تحرج المسئول، وتغبن الأكفاء، وتدمر بناء الدولة.
وإذا كان بوسع المؤسسات الرسمية من هيئات نزيهة، أن تدين وتحاسب وتلاحق مَن يرتكب الجرم الإداري، إلاّ أنّها تبقى بحاجة مّاسة لمن يساعدها بتجفيف منابع التفكير الخاطئ، وهي أفضل طرق القضاء على الفساد والمحسوبية.
وإذا كان من الصعب التخلّص من هكذا ظواهر سلبية تنخر في جسد المجتمع، فعلى الأقّل يستوجب الإقلال منها ومحاولة مداواة المرض قبل أن يتجذّر في عمق الكيان الأخلاقي ويستحيل استئصاله فيما بعد.
يستوجب في هكذا حالة الحرص على ضرورة التنشئة الصالحة عبر بثِّ الأخلاق الحميدة منذ الصغر في الأجيال الناشئة، وتعويدهم على الاعتماد على الله وحده، ثم على سواعدهم وكفاحهم، وإفهامهم أن اللجوء إلى الوساطة هو من قبيل إهدار الكرامة الإنسانية، التي أوجب الله على المسلمين احترامها، وتعويد الأجيال الناشئة على نبذ المحاباة، من خلال نشر ثقافة رفض “التدّخل” إلا في المحمود، وتأكيد أن طاعة الله مقدمة على رضا الأقارب والأصدقاء.
إنّ التوكل على الله بصدق، وحسن الظن بعونه سبحانه، ونجدته لمن يتوّجه إليه بقلب مخلص، من أعظم المبادئ الإيمانية التي يجب أن يتحلّى بها المجتمع، لحين الابتعاد تمامًا عن نطاق الواسطة والمحسوبية.
على المختصين بالشأن الاقتصادي ضرورة إصلاح الهيكل الإداري بما يشمله من رواتب، وحوافز ومكافآت وغيرها، لتكون الوقاية كاملة وشاملة، كما يتحّتم على كبار القادة والمسئولين في الهيئات والشركات المختلفة، أن يجعلوا من أنفسهم قدوة لموظفيهم، في رفض الوساطة والمحاباة، وكذلك المساواة بين جميع الموظفين فيما يخّص الأمور المحفزة، مع ضرورة أن يستشعر الموظفون رقابة الله على أعمالهم، بتفعيل الرقابة الذاتية الداخلية، وألا تكون خشيتهم دائمًا من السلطان والحاكم والمسئول.
يجب كذلك تفعيل دور الإعلام في الحض على الابتعاد عن الوساطة والمحسوبية والرشوة، من خلال حملات إعلامية وتقاريرَ وتحقيقات صحفية، يتم نشرها بين فترة وأخرى لبيان خطورتها، والتحذير منها، مع الاستعانة بوسائل الإعلام الجديد بما تشمله من شبكات اجتماعية ومواقع التواصل وغيرها، في التنبيه إلى خطورة الظواهر السابقة محل الدراسة، وإنشاء مجموعات خاصة لنشر كل ما يمكنه التحذير من خطورة تلك الظواهر.
بهكذا وسائل يمكن مداواة الكيان المجتمعي العليل والتقليل من آلامه، ورفع الغبن عنه، ولو بشكل جزئي والعمل على تحريره من وثاق غليظ، بات يقيّد حركته نحو التنمية والتغيير الجذري للمفاهيم المغلوطة، التّي لم ينّزل بها الّله من سلطان.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى