“القات” و”المقيل” في اليمن

متنفس يفرُّ إليه الناس من بؤس الواقع وجحيم الحياة

قبل البدء في الحديث عن المقيل في اليمن وخصوصيته وما يدور فيه، لا بد من مقدمة تتحدث عن العنصر الأساسي للمقيل ألا وهو القات.

فقد جرت العادة أن تذهب التصورات الذهنية لكل من يسمع عن القات – من غير البلدان التي يوجد فيها – إلى إدراجه في قائمة المخدرات المحظورة التي قد يتسبب تعاطي الإنسان لها في الوصول إلى مرحلة الإدمان. ويعتقد البعض أن تناول القات يُفقد من يتناوله قدرته على الوعي أسوةً بالمخدرات التي يصنف في إطارها، وهو أمر غير صحيح يؤكده الواقع وتنفيه التجربة.

هذا النفي في الحقيقة ليس دفاعًا عن القات، ولا نفيًا لأضراره الموجودة فعلًا، والمؤثرة على حياة الفرد والأسرة والمتمثلة في استنزاف زراعة القات للمياه الجوفية في سقايته واستئثاره بنصيب كبير منها، واستنزافه للكثير من دخل الفرد على حساب احتياجات الأسرة، وخصوصًا الأفراد من ذوي الدخول المحدودة، إضافةً لتوسع زراعته على حساب المحاصيل الزراعية المهمة.

غير أن الخطر الأكبر هو فيما أُدخل على زراعته من سمومٍ وموادٍ كيماوية تساعد على توفره طوال العام بشكل غير طبيعي وما ينتج عنها من أمراض.

وهنا تكمن خطورة القات، وهو ما يتطلب توفر جهود رسمية تعمل على وضع قوانين تنظم بيعه وتعاطيه وتشرف على زراعته وتشجع المزارعين على زراعة المحاصيل الأخرى وفي مقدمتها “البن” أهم منتجٍ قومي اشتهرت به اليمن عبر التاريخ.

وفي المقابل تعمل على الاستفادة المُثلى من الضرائب التي يتم تحصيلها من تجارته، علمًا بأنه يوفر فرص عملٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ لآلاف المواطنين.

■ المقالح وجارالله عمر في مقيل للنخب السياسية والثقافية

أما القات ففي حقيقة الأمر هو ليس أكثر من مُنبِهٍ ذهنيٍ صار تناوله جزءًا من العادات اليومية في سلوك الإنسان اليمني أثناء فترة ما بعد تناول الغداء حتى المساء، ويستمر لساعات تزيد أو تنقص حسب الرغبة من شخص لآخر. ولكل شخصٍ طريقته في تناوله بحسب عمله أو فراغه في هذا الوقت، والوقت الذي يحدده لنفسه من زمن “التخزينة” أي إبقاء القات في فمه. ولكلٍّ أيضًا أسلوبه في استغلال مفعوله، حيث وهو قابل لكل الاحتمالات، إما بمضاعفة نشاط أصحاب الحرف اليدوية، أو بزيادة تركيز أصحاب المهن التي تحتاج إلى التركيز، وهو أيضًا سجادة سحرية مبسوطة للباحثين عن الاسترخاء والإنصات للذات.

وهو كذلك وقودٌ فعالٌ لمضاعفة الهواجس والخيالات الجميلة وأحلام اليقظة. وهو “الكيف” الخاص الذي يجتمع عليه الناس في مناسباتهم المختلفة وينوب عن القهوة والشاي وغيرها من المنبهات المنتشرة في المجتمعات الأخرى.

 كما أن لكل مجتمعٍ بالضرورة “كيفه” الخاص الذي يساعدُه على استمرارية الحياة والتغلب على الهموم، فإن القات هو الكيف الخاص والعتيق للشعب اليمني، وهو الأخف ضررًا بين كل المنبهات و”المكيفات” الأخرى.

فالقات هو مفتاح الحديث بين الأصدقاء، وبوابة التجلِّي لمن يتناوله من المبدعين والكتَّاب، ومدينة الصمت لمن يبحث عن الهدوء والسكينة، وجحيم الكآبة لمن يتناوله وهو غارقٌ في مواجعه وهمومه، وقد يساعده في لحظةٍ ما على الإفلات من كل ذلك بوصوله لحلٍ سحريٍ لم يخطر له على بال من قبل.

ويمكننا القول: إن القات لما “خُزنَ له”.

وبعد الحديث عن القات كعنصرٍ أساسي يقوم عليه المقيل في اليمن سندخل إلى المقيل وطقوسه.

والمقيل في اليمن – قبل أن يكون المجلس الذي يجتمع فيه عدد من “المُخزِنِينْ” من شخصين إلى ما لا نهاية لمضغ القات – هو طاولة الأصدقاء، وقاعة المحكمة، وصالة الاجتماعات، ومنبر الثقافة، ومجلس العائلة، وكهف الفيلسوف ووقود العامل، وشرارة الخيال.

وتختلف طقوس المقيل باختلاف الغايات التي يجتمع من أجلها المُقيِّلون “المُخَزِّنون”. وعادةً ما يختار المكان المخصص للمقيل في المنزل بعنايةٍ فائقة منذ وقت بناء المنزل؛ حيث يكون بمدخل مستقل عن مدخل الأسرة.

القات لما «خُزنَ له »

 

ولمجلس المقيل عدد من الأسماء منها: “الديوان”، و”المَبرَز”، وأجملها هو “الطيرمانة” وهي التي تُبنى بمواصفات خاصة على أسطح المنازل أو البنايات المرتفعة بحيث تمنح “المقيلين” فيها إطلالةً جميلةً على المدينة أو منظرًا طبيعيًا خلاَّبًا في الأرياف.

ويتنوع المقيل بين الفردي، والجماعي، والإجتماعي، والأسري، والسياسي. فالبعض قد يكون مقيلهم للإصلاح بين شخصين مختلفين عبر تحكيم طرفٍ ثالث بينهما يجتمعان لديه، فيسترسل كل واحدٍ منهما في طرح ما لديه بحضور عددٍ من الأشخاص، ليرد الطرف الآخر فيتم تذويب نقاط الخلاف تحت قبة المقيل وأثر القات حتى يُحَل الخلاف.

والبعض يكون مقيلُهم من أجل الإعداد لعملٍ ما أو لمناسبةٍ مرتقبة، وللقات قدرةٌ رهيبة على تصفية النفوس ورفع حالة التسامي بين المختلفين والمجتمعين ومد جسور التواصل فيما بينهم تحت مظلة “ساعته السليمانية” وهي اللحظة التي يصل فيها “المُخزِّن” إلى حالة الانتشاء وسريان الكيف في خلاياه.

هذه اللحظة التي تعد ذروة التجلي التي يصل إليها “المُخزِنْ” ويستغرق لبلوغها من ساعةٍ إلى ثلاث ساعات أو أكثر ثم ينطلق بعدها في عمله، أو قضاء ما جاء من أجله في هذا المقيل أو ذاك، أو يستغرقها في تنقيح هواجسه وأفكاره والتأمل في مشاغله وهمومه الذهنية والحياتية إذا كان مقيلًا فرديًا.

 وما إن تبدأ “الساعة السليمانية” فليس لها وقتٌ محدد لتنتهي عنده، لأنها قد تستمر إلى اللحظات ما قبل الأخيرة التي يقرر فيها “المُخزن” التوقف عن تناول القات، وقد تستمر هذه النشوة لعدة ساعات من الحركة أو العمل أو الصمت حتى مغادرة نشوة القات وتأثيره والعودة إلى رحاب الواقع بانسحاب ما يمنحه القات من مفعولٍ ومزاجٍ ونشاطٍ ذهنيٍّ تدريجيًا بعد إلقائه من فمه.

وقد يكون المقيل باجتماع الأهل؛ إما لاستقبال عائدٍ من الغربة أو لوداع مسافرٍ إليها، أو في مناسبات تجمع العائلة كأيام الجمعة أو الأعياد والحفلات الأسرية وفيها يصغي كل واحدٍ منهم إلى الآخر ويسمع جديد أخباره وأعماله.. إلخ،

 وقد يكون بين صديقين أو أكثر لاسترجاع الذكريات والمرح وسماع الغناء والحديث العام عمَّا يشغل تفكيرهم أو ما يهتمون لأمره وقد يصلون إلى حل وقد يكون حديثًا لمجرد الحديث والفضفضة والترويح عن النفس.

وقد يكون المقيل بين زملاء في العمل لاستكمال عملهم أو لاجتماعِ عملٍ خاص من أجل مناقشة أمرٍ مهم أو الإعداد له، فيتناوبون على طرح الرؤى والأفكار حتى يصلوا إلى صيغة نهائية للعمل الذي جمعهم المقيل من أجله بمزاج عالٍ واستيعاب جم لكل ما يقال. والأمثلة عن المقائل وغاياتها لا تحصى.

غير أن المقائل الأكثر أهمية هي المقائل الأدبية والثقافية والفكرية التي يحتشد لها المهتمون من كل حدبٍ وصوبٍ حاملين جديدهم وقد استعدوا لتلقي ما سيطرح في هذا المقيل أو ذاك، وتسلحوا بالمعرفة اللازمة في حال علمهم المسبق بالموضوع الذي سيطرح لمناقشة صاحبه في المقيل الذي يتحول ندوةً ينصت فيها الجميع ويشارك فيها من أراد.

وتتنوع المقائل الثقافية أو الأدبية بتنوع الاهتمامات الفردية لصاحب المقيل أو المؤسسة التي تخصص يومًا أو أكثر في الأسبوع للمقيل، وإقامة الفعاليات والأنشطة المختلفة.

والمقيل الثقافي هو المنصة المفتوحة للجميع ليُقدِّم فيها كلٌ ما لديه، ويستمع لآراء الحضور من المهتمين، وقد أسهمت المقائل الثقافية التي كانت تعقد في أماكن مختلفة طوال أيام الأسبوع في التعويض عن شح النشاط الثقافي والأدبي، إضافة إلى إسهامها الفاعل في صقل مواهب الشباب، حيث تُتاح لهم فرصة الجلوس إلى نخبة المشهد الثقافي في جلساتٍ مفتوحة عادةً ما لم تقيد بمناقشة موضوعٍ خاص أو الاحتفاء بإصدار جديد.

هذه المقائل الأدبية التي تتلاقح فيها الرؤى والأفكار ويتفيد الجديد من القديم والموهوب الداخل إلى دنيا الإبداع حديثًا من أصحاب الخبرة والتجربة، وتتلاقى فيها الأجيال بحميميةٍ فريدةٍ بعيدًا عن عالم الفعاليات الرسمية التي قد يحتكر الحديث فيها عدد محدود من الأسماء.

ومن أبرز هذه المقائل تفتقت المواهب في ظلالها وتم صقلها، من خلال ما يقدم فيها من ملاحظاتٍ وتوجيهاتٍ وآراء وما يدور فيها من نقاشات وما يتخللها من قراءات الجديد من الإنتاج المحلي والعربي.

ويُعد أشهر هذه المقائل الثقافية في اليمن التي كانت محطةً لأهم الأدباء والكُتَّاب والمثقفين العرب الذين زاروا اليمن هو مقيل الدكتور “عبدالعزيز المقالح”. وهو الوحيد الذي لا يزال يحافظ على استمراريته حتى اللحظة، ومن تحت قبته خرجت عشرات الأصوات من المبدعين والكتاب. وهو أيضًا أكثر المقائل تنظيمًا وثراءً معرفيًّا من حيث تنوع ما يطرح فيه من موضوعات وما يقرأ فيه من جديد الكتابات المنشورة في أهم الأعمدة والصفحات الثقافية في مختلف المجلات والصحف اليمنية والعربية الكبرى، إضافة لإتاحته الوقت الكافي لسماع التجارب الناشئة، وتوجيهها، وهو الأطول عمرًا حيث بدأ منذ عودة الدكتور عبدالعزيز المقالح من القاهرة في سبعينيات القرن الماضي.

يليه مقيل اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي يبدأ عادةً بفعاليةٍ رسمية في قاعة الاتحاد ثم ينتقل النشاط للمَقيل الذي يستكمل ما قصرت عنه الفعالية الرسمية، في حال وجود فعالية. أو تتم فيه مناقشة مواضيع مختلفة باستفاضة وإثراء الحديث في مواضيع ثقافية وأدبية تشغل الوسط الثقافي.

ثم يأتي مقيل مؤسسة “الإبداع للثقافة والفنون” التي يرأسها السفير الدكتور عبدالولي الشميري، وهو من أشهر المقائل الثقافية والأدبية في اليمن التي رفدت المشهد الثقافي بالعديد من الأسماء المهمة بعد صقل مواهبهم لسنوات، والعناية بها وتزويدها بالنصح والتوجيه وهو أكثر المقائل أريحية، حيث يجد فيه الهواة مبتغاهم ويتعرفون على قدراتهم وعلى ما ينقصها لتطويرها.

ويليها مقيل “الرويشان” في منزل وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان الذي يتسم بالتنوع والثراء، ويُقام طوال الأسبوع ويقصده المبدعون من مختلف المشارب الإبداعية ورواد الفنون الأدبية ويخصص فيه يومين في الأسبوع بشكل خاص؛ الأول: منتدى “السينما” يوم الإثنين من كل أسبوع، وفيه يعرض فيلم سينمائي عالمي أو عربي يتم اختياره بعناية فائقة، وفق معايير فنية تتمثل في بطل الفيلم ومقدار الجوائز التي حصل عليها أو عدد الجوائز التي رُشِّح لها، وما إن ينتهي الفيلم حتى تتم مناقشته وسماع آراء الحضور عن مميزاته وأثره في نفوسهم.

والمقيل الثاني هو الذي يخصص يوم الخميس من كل أسبوع لمنتدى “أم كلثوم” وهو مقيل خاص روّاده نخبة من عشاق “الست”، وفيه يُستمع لأغنيتين أو أكثر من أغانيها أو اختيار كوبليهات معينة من بعض الأغاني أبدعت في أدائها “الست” بشكل خاص في حفلةٍ معينة؛ فلديهم قائمة بتاريخ كل أغنية وعلى أي مسرح غنتها لأول مرة، وكم عدد الحفلات التي غنت فيها الأغنية نفسها، وأي حفلة كانت أجمل.

 ويا لسعادة الحضور حين يعثرون على تسجيل جديد لم يكن في أرشيفهم من قبل لأغنيةٍ ما أو حفلةٍ ما.

وتعد هذه المقائل الثقافية والأدبية هي الأبرز في العاصمة صنعاء، إضافة إلى عدد من المقائل الأخرى التي تـُعنى بالمجالات الفكرية والسياسية كمنتدى “الجاوي” نسبة إلى الأديب الراحل عمر الجاوي، ومنتدى “الحدي” وغيرهما.

 كما أن هناك الكثير من المقائل المشابهة وبالنمط ذاته في مختلف محافظات الجمهورية اليمنية.

المقيل في اليمن هو المتنفس الذي يفرُّ إليه الناس من بؤس الواقع وجحيم الحياة، وهو الجنّة التي يجدون فيها ما يشغلهم عن ضغوط الأيام، والمنصة المنصوبة للبوح بما يدور في أذهانهم من أفكار وأحلام وهموم، والاستراحة التي يعيدون فيها ترتيب ما تبعثر من شؤونهم اليومية والحياتية على بساط سحري يبسطهُ القات، ليحلقوا في فضاء الخيال الذي قد يتحقق وقد لا يتحقق إلى الأبد.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى