الطبّ والعرق في الزمن الكولونيالي

عند الحديث عن العوامل التي ساعدت الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية على بسط سيطرتها على أجزاء كبيرة من القارة الأفريقية، يتبادر إلى الذهن دور المبشرين في تنصير القبائل وإقامة الكنائس ونشر الديانة المسيحية حيثما حلّوا، بوصف ذلك الدور مدخلا إلى تغيير نظرة الرجل الأفريقي إلى الرجل الأبيض، الذي لم ير منه قبل مجيء المبشرين غير الاسترقاق. ولكن بعض المؤرخين المعاصرين يؤكدون على دور العلماء بعامّة، والأطباء بخاصّة في ترسيخ العنصرية، وبالتالي خلق الأسباب التي تبرر غزو الجيوش الفرنسية، بدعوى أن الأفارقة يحتاجون إلى من يثقفهم ويغير عاداتهم البالية ويأخذ بأيديهم كي يدخلهم في الحضارة.
وإذا كانت العنصرية من وحي بعض المفكرين ورجال السياسة فإن الطبّ ليس بمنأى عن خلق أفكار مسبقة تتستّر بالعلم كي تثبت تمايز الأعراق، ليس من جهة اللون وحده بل ومن جهة البنية الجسدية والذهنية أيضا. فمنذ القرن الثامن عشر، وطوال القرن التاسع عشر، احتدم الجدل بين القائلين بتعدد جينات الوراثة، وبانقسام البشر إلى عدة أنواع، مثل بعض فلاسفة الأنوار الذين غذّوا، تحت شعار مقاومة المعتقدات، نظرياتٍ عرقية تزعم تمايز البشر بعضهم عن بعض، وكان فولتير مثلا قد اعترض على الفكرة التوراتية التي تقول إن كافة البشر هم من سلالة آدم وحواء؛ وبين المؤمنين بوحدة جينات الوراثة وبالتالي وحدة البشر جميعًا، مثل تشارلز داروين الذي اتّخذها منطلقا لنظريته عن التطور البيولوجي وأصل الأنواع. وهو ما أكّده لاحقا علم الجينات.

غلاف كتاب ” أجساد سود وأطباء بيض”

ذلك ما تناولته المؤرخة الفرنسية دِلفين بيريتّي كورتيس في “أجساد سود وأطباء بيض، صناعة التحيّز العرقي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر”. وهو كتاب يعالج تاريخ العنصرية العلمية، ولاسيما ذلك الذي روّج له الطب، بغية التساؤل عن الكيفية التي لا يزال اليوم يطبع بها ذلك الخطابُ المجتمعاتِ الغربية.
أوضحت المؤلفة نشأة النموذجيات (النموذجية هي علم النماذج البشرية منظورا إليها من جهة العلاقات بين الطبائع العضوية والذّهنية) في القرن الثامن عشر، من قبل علماء الطبيعيات أمثال السويدي كارل فون لينّي والألماني يوهان بلومنباخ والفرنسي الكونت دو بوفون، الذين كانت غايتهم تقسيم الجنس البشري للتأكيد على تميّز الجنس الأبيض، وكانوا استعانوا بعلم قوانين التصنيف للبرهنة على تفوق الأوروبيين جسديّا وأخلاقيّا وفكريّا على سكان المستعمرات سواء في أفريقيا أو في آسيا، مركزين ملاحظاتهم على البشرة وحجم الجماجم وشكلها، وحتى على الأعضاء التناسلية؛ فالأطباء وعلماء الطبيعة لا يكتفون بملاحظة الجسد، بل يدرسونه بدقة ومنهجية كي يصوغوا نظريات حول أصل فروق الألوان. هؤلاء ينتمون إلى دعاة تنوع الأجناس واختلافها، وقد تصدى لهم فريق من المؤمنين بما أنزلته الكتب السماوية، وخاصة التوراة والإنجيل، مثل عالم التشريح جورج كوفيي، وظلوا أوفياء للفكر المسيحي الذي يعلي وحدة البشر حسبما جاء في سفر التكوين. غير أن الفريق الأول تشبث بموقفه، وراح يبحث عن مختلف زوايا الوجه كي يبين درجة البدائية والحيوانية لدى كل فرد، فكان أن اعتبر جسد المرأة السوداء قريبا من الفطرة البدائية، صالحا للأمومة في المقام الأول، وقد أكد بعض الأطباء الأوروبيين تميز المرأة الأفريقية من جهة تحمل آلام الوضع عن المرأة الأوروبية، كما سبق أن بيّنت إلزا دورلين في كتابها “حاضنة العرق: الجينيالوجيا الجنسانية والكولونيالية للأمة الفرنسية”، انطلاقا من الأدبيات الطبية زمن الاستعمار. غير أن التأكيد على تلك الميزة ليس من باب التوصيف المجاني، بل كان الغرض منه إقامة الدليل على غياب الحس الإنساني لدى المرأة السوداء، فهي في رأي ذلك الفريق كالدّابة لا تشعر بالألم.
كما أوضحت المؤلفة، انطلاقا من التقارير الطبية التي كتبها “أطباء الأدغال (أي أولئك الذين يمارسون الطب في المستعمرات الأفريقية) ما بين 1860 و1910، أن النظريات الطبية لم تعد تُصاغ في عيادات فرنسا، بل على عين المكان، وكانت في علاقة مباشرة مع النظام الكولونيالي العام، القائم أساسا على قيم العمل، فقد صار الجسد الأسود ينظر إليه بوصفه يمثل قوة مناعية هامة، ويملك قوة تحمّل تفوق قدرة الرجل الأبيض على الاحتمال، خاصة في الأشغال التي تتطلب قوة جسدية كبيرة، أي أن العلم العنصري برر لجوء السياسة الكولونيالية إلى تطبيع علاقة الأجساد السوداء بالعمل، بينما تحافظ الأجساد البيض على امتيازاتها ومراتبها، لترسيخ النفوذ الكولونيالي. تقول المؤلفة “إذا تم الثناء على قوة الأفارقة لقوتهم الجسدية، فذلك راجع أساسًا إلى أن فرنسا تجد فيهم مصلحتها: أي خدمتها، كسائر الشعوب المستعمَرة”.
ومن ثَمّ، تمّ النظر إلى السلطة الكولونيالية من جهة نفعها لصحة الأفارقة، ولاسيما التحكم في حياتهم الجنسية، التي توصف بالجامحة. غير أنها لا تخلو من مفارقة، تفرضها المتغيرات. فالجسد المعنصر يبدو في تقارير الأطباء نهما للجنس، ما يبرر كبح جماح الذّكور، وحتى الإناث، وكانت السلطات الاستعمارية قد شجعت أحيانا على ختان البنات، أو غضت عنها الطرف في أحسن الأحوال. ولكنها ترتدّ فتشجع على الإخصاب والتكاثر لخلق أيد عاملة لخدمة مشاريعها. كما شجعت السلطة الكولونيالية على التقاط صور شمسية للسود كي تجعل السند الفوتوغرافي وسيلة لإخضاع الأجساد المستعمَرة لعين المستعمِر والطبيب داخل معمار المشروع الكولونيالي في القرن التاسع عشر، فتكون شهادة على بدائية الإنسان الأفريقي. ولم تكتف بالسماح بنشر الصور في الصحف والمجلات، بل استقدمت أفارقة لعرضهم في الفضاءات الفرنسية، تأكيدا على بدائيتهم وحيوانيتهم. وكم من أفريقي، رجلا كان أم امرأة، جيء به إلى العواصم الأوروبية لعرضه كما تعرض الحيوانات في الحدائق المخصصة لها، كما حدث لساتجي بارتمان التي لقّبت بـ “فينوس الهوتنتوتية”، فقد فحصها مشاهير العلماء، ثمّ شرّحها عالم طبيعيات يقال له جورج كوفيي، كي يستخلص تميزها عن سائر النساء البيض، ويعمم نتائجه على نساء إثنيتها كافة، وبذلك يعزز خطابُ السلطة العلمية الأفكارَ المسبقة.
لقد تم تحليل سلوك السكان الأصليين من قبل علماء الأعراق، مثل بول ريفي ومارسيل موس ولوسيان ليفي بروهل منذ عشرينات القرن الماضي حين شرعوا في دراسة مقارنة للخصائص الاجتماعية والثقافية للشعوب. وكان المراقبون الميدانيون في الأثناء، سواء أكانوا أطباء عسكريين أم إداريين، ينظرون إلى السكان الأصليين من خلال شبكات قراءة جديدة، وتحرروا شيئًا فشيئًا من مفهوم الفطرة لشرح أصل الاختلافات بين الشعوب. وعلى الرغم من الإعلانات المتتالية التي صدرت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي تحت رعاية اليونسكو من قبل علماء أكدوا أن الأجناس كثوابت طبيعية لا وجود لها، فإن مفهوم العرق “البيولوجي” لا يزال شائعًا في القرن الحادي والعشرين، سواء في المخيال الشعبي أم لدى بعض العلماء، وإن اتخّذ أشكالًا جديدة، لاسيما تلك المتعلقة بالتعريفات الجينية للكشف عن عضوية الفرد في مجموعة منعزلة، تُحدّد بكونها “عنصرية”.
وهو ما تؤكده دِلفين بيريتّي كورتيس. فإذا كان مفهوم العرق قد تمّ تفكيكه بعد 1945، فإن مفهوم الإثنية لا يزال يساهم في نقل أفكار نمذجة قديمة وأفكار مسبقة شمولية متأتية من النظريات التي تناولت العرق الأسود. لقد كانت وظيفة نظريات العَنصرة إضفاء شرعية السياسات القائمة في المستعمرات الأفريقية، وكان للمقاربات الطبية والعلمية الخاصة بالتفريق بين العرقيات دور في استعباد الأفارقة واستغلال طاقاتهم الجسدية، سواء في إنجاز المشاريع الاقتصادية والمعمارية، أو في تعزيز جبهات القتال.
تغير الخطاب الكولونيالي بتغير الظرف كما أسلفنا، حيث كان يستعيض عن العنصرية البيولوجية بعنصرية ثقافية، من خلال نقد الذهنية الأفريقية، ووصفها بالسذاجة والتخلف ما يستوجب تثقيفها حتى تلحق بركب الحضارة بمفهومها الغربي، وفي ذلك صورة عن الأسس الأيديولوجية التي قامت عليها “مهمة التحضير” الفرنسية، التي ما وُجدت إلا لإضفاء سمة أخلاقية على طموحات ترابية صرفة، وأهداف استعمارية محضة، تم التفاوض بشأنها خلال مؤتمر برلين 1884 – 1885. ولكن بالرغم من استقلال البلدان الأفريقية، ما يزال ذلك التصور التثقيفي التحضيري حاضرا في الذهنية الفرنسية حتى الآن، وهو ما تجلى في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأسبق نيكولا سركوزي في داكار عام 2007، حين زعم أن “الإنسان الأفريقي لم يدخل الحضارة كما ينبغي”، وحتى في بعض المعاجم مثل “موسوعة لاروس”، و”ويكيبيديا”، وفي بعض تدخّلات الرئيس إمانويل ماكرون نفسه.
لقد تناولت المؤلفة مواضيع هامة، ولاسيما ملاحظة تأويل الأطباء البيض للأجساد السوداء، والاستهانة العلمية بالقدرات الذهنية للشعوب الأفريقية، والاعتبارات العرقية حول جماليات الأجساد والأسئلة المتعلقة بالنوع والجنسانية، وكذلك تطور التمثلات الطبية عن قوة المستعمَرين وهشاشتهم. وكان يمكن أن تدعو القارئ إلى التساؤل عن تواصل استخدام العرق في الطب وتشكيلاته الجديدة لاسيما في علم الوراثة. في “لحم الإمبراطورية”، كتبت المؤرخة وعالمة الأنثروبولوجيا آن لورا ستولر تقول “المعرفة الحميمة والقوى العرقية في النظام الاستعماري مستمرة في حاضرنا. فتعميم اختبارات السلفية الجينية في الأعوام الأخيرة وكذلك التغطية الإعلامية المتزايدة للمنشورات العلمية التي تحدد أصول السلالات الجغرافية المختلفة داخل مجموعات بشرية لا تزال تضفي الشرعية على عودة هذا المخيال العرقي في علم الأحياء، الذي لا يني يتسم بمعايير نمطية واضحة”.

مجلة “الجديد”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى