الكتابة في قبضة السوق

طوال قرون استقرت النظرة إلى الكتابة بوصفها مهمة نبيلة. هكذا يرى الكتاب والشعراء والمفكرون أنفسهم، وهكذا يراهم غالبية الناس، حيث لا منفعة ينتظرها المبدع سوى متعته الخاصة ومتعة التواصل الإنساني العميق مع الآخرين، كثيرون كانوا يخجلون من الحديث في التفاصيل المادية مع ناشريهم.

ربما كان الكاتب القديم مالكًا لزمام عمله بالكامل، عندما كان يكتب مخطوطه بيده، ويقوم النُسَّاخ باستنساخ نسخ قليلة منه، ثم جاء اختراع المطبعة المذهل، الذي نشر الكتب بأعداد ضخمة بدلا من مخطوطات قليلة جعلت هذه المهمة النبيلة «الكتابة» تتماس مع صناعة وتسويق الكتاب، وإن ظلت دور النشر تحترم خيارات الكاتب قرونًا من الزمان.

وحتى عقود خلت ظل الكاتب الروائي محظوظًا لأنه فرد، نتيجة عمله تتوقف على جهده وحده، والقول ينطبق على الشاعر وعلى المفكر أيضًا، بخلاف كتاب السيناريو للسينما والتليفزيون الذين يبدعون داخل فريق يمكن لأي ضعف في عنصر فيه أن يؤثر سلبًا على إبداع الكاتب.

وشيئًا فشيئًا بدأ صوت الصناعة والتسويق يعلو على صوت الكاتب مع بدايات عصر التسويق منتصف سبعينيات القرن العشرين، متزامنًا مع تطورات الإعلام الجماهيري. ثم استفحل الأمر مع موجة التواصل الاجتماعي قبل عقدين من الآن.

 انقلب الوضع تمامًا لتصبح صناعة النشر وما يتعلق بها من تسويق في المقدمة قبل الإبداع في الأغلب الأعم، تفرض على الكاتب ما يطلبه السوق، وتزايدت ورش الكتابة التي تفترض أن الإبداع حرفة يمكن تعلمها.

في هذا الملف نطرح السؤال الجدير بالطرح عن مستقبل الإبداع في ظل متطلبات التسويق وضغوط القراء الذين يفرضون خياراتهم من خلال تدويناتهم عما يقرأون والتي تشكل بدورها توجيهًا لصناعة النشر، كما تؤثر في الكثير من شباب الأدباء الذين يطمحون إلى الشهرة. ونعيد السؤال مجددًا: من الذي يقود في هذه الدورة الإنتاجية؟ وأي مستقبل للأصالة؟

الظاهرة عالمية، لأنها أمريكية بالأساس، وكل ما هو أمريكي يصبح عالميًا بالضرورة!

ونحن جزء من العالم، لهذا قمنا بتغطية الظاهرة من وجوهها المختلفة، لنرى أي إكراه يتعرض له الكتاب اليوم، على أن أثر التسويق قد يقع على مستقبل الثقافة كلها، بينما كانت هناك إكراهات الحجب والمنع والتكيل بالمؤلفين لأسباب دينية أو سياسية بلغت ذروتها مع روسيا البلشفية وألمانيا النازية، وليتها صارت صفحة من الماضي وانطوت، لكنها للأسف ظاهرة لم تزل موجودة في الكثير من البلدان الأقل نموًا في الديمقراطية، ليكون الإبداع بين سندان العقاب ومطرقة التسويق!

مقدمة ملف: الكتابة في قبضة السوق | مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى