حيرة الكتب بين «نجوم» القراء وسُلطة «الأدمن»!

“جودريدز” وجروبات “القراءة” تعيد صياغة واقع الأدب

بات من الصعب اختزال مشهد القراءة اليوم بوصفه علاقة ثنائية تربط بين كاتب وقارئه، أو قارئ وكاتبه، حتى وإن كان هذا المشهد هو الأقرب لروح القراءة وجوهرها، و”رومانسيتها”، باعتبارها رحلة معرفية ووجدانية ذاتية في المقام الأول.

إلا أن قاموس القراءة اليوم بات أكثر تكدسًا وضجيجًا، حيث يُزاحم “الحشد” فردية القراءة، وصار الكاتب اليوم، يدرك تمامًا أن وصول كتابه لأرفف المكتبات ما عاد هو الهاجس الوحيد الذي يشغله للتأكد من وصول كتابه ليد القارئ، وسط زحام لافت لمنصات وبوابات تتحكم في مسارات ذلك الوصول. 

“مزارع يقرأ بجوار المدفأة” للفنان فان جوخ – ١88١

فهناك جماعات القراءة على منصة الفيسبوك، وخياراتها وسلطة «الأدمن/ مسِّر الجماعة»، وترشيحاته التي لا تخلو من انحياز وتوجيه لباقي أعضاء الجماعة، إيجابية كانت أم سلبية، وعلى موقع القراءة «جود ريدز» هناك دومًا ذلك الإيحاء للقارئ الذي يضع تقييمه لكتاب قرأه بأن “نجومه” باتت وطيدة الصلة بمستقبل بيع الكتاب الذي سيقوم بتقييمه، ومن ثم مستقبل كاتبه الذي بات مصيره مُعلقًا في سماء “جودريدز” ونجومها، و”ثرثرة” منصات القراءة على مواقع التواصل الاجتماعي.

فكيف يعيد “جودريدز” وجروبات “القراءة” صياغة واقع القراءة اليوم وملامحه، وكيف يتفاعل الكاتب مع تلك المفردات التي باتت لصيقة بسوق القراءة والكتاب؟

في هذا الواقع القائم، نجد الكاتب حريصًا على التقاط صور لنفسه مع أعماله، وتخصيص وقت خلال يومه للرد على القراء على مواقع الترشيحات والقراءة على منصة فسبوك، التي تعلن بعضها صلتها بدور نشر في النور، والبعض الآخر يمكن استنتاجه.

هنا نطرح نقاشًا حول ملامح هذا الفضاء الراهن.

أحمد عبد اللطيف – كاتب ومترجم مصري:

جودريدز أرض الجميع
أحمد عبد اللطيف

ربما تغيرت صورة الكاتب مع التكنولوجيا الجديدة، فبعد أن كان يفضّل البقاء في الظل فيما تسعى الوسائل لتسليط الضوء عليه، أصبح هو من يسعى إلى هذه الأضواء، ليس باعتباره كاتبًا، وإنما كمروّج لسلعة. ثمة انتصار للكاتب التجاري والأدب التجاري على الكاتب الفلسفي والأدب الرفيع نتج عن وسائل التواصل الاجتماعي، وثمة سعي دؤوب للربح والنجومية على حساب الجودة والانشغال بما هو في الأصل هدف الكتابة والدافع لها. لم يعد الكاتب التجاري مرتبطًا بمنتجه التجاري، وإنما بأدائه كمندوب مبيعات حتى لو كانت نصوصه جديرة بالتقدير، وصار الأدب التجاري هو الممثل لذوق الجماهير مع تضييق مساحة الأدب الجاد أو توصيفه بأدب النخبة لصرف النظر عن كاتبه ومحتواه. أظن أن “موت الناقد”، بمصطلح ماكدونالد، لم يكن السبب الوحيد، وإنما وبالأساس “موت المثقف” بمصطلح فرنانديث مايو، والمثقف هنا بمعنى القارئ المثقف كما هو الكاتب المثقف. ثمة سعي حثيث لتسطيح كل شيء واعتبار السطحية هي البساطة والسهل الممتنع، وثمة ميل عارم من قبل القارئ كمتلقي لفرض شروطه على الكاتب وخلق إطار لغوي/أخلاقي/ كلاسيكي يتحرك فيه الكاتب. بطريقة ما، يحب القارئ قراءة ما قرأه من قبل، مثل تائه في مدينة يبحث عن علامات يعرفها ليطمئن، فيما يكمن معنى الإبداع نفسه في الاختلاف وفي الخلق الجديد وليس السير في طرق معبّدة. 

من جودريدز إلى جروبات القراءة على فيسبوك، انتقلت سلطة الناقد القديمة إلى القارئ، وهنا لم تعد سلطة محدودة ولا مبنية على نظرية جمالية وفهم لتاريخ الأدب ولا متابعة لحركة الأدب في العالم، وإنما لذوق شخصي محدود وانطباعات، على أهميتها، ينقصها التربية الجمالية. لم تعد هناك أي مسافة بين القارئ العام وقارئ الأدب والقارئ المبتدئ، وبطريقة ما تكوّن ذوق عام يميل للروايات السهلة والكتب الخفيفة لأنها تناسب سن المراهقة والقارئ العابر. وإذا كان جودريدز أرضًا للجميع وملكًا للا أحد، فجروبات القراءة على فيسبوك ملك لأحد وبالتالي أرض للمختارين والأتباع، وهم ليسوا قراءً أنقياء يجتمعون في نادي قراءة ليعبّروا عن ذوقهم، وإنما يتبعون توجيهات الأدمن، والأدمن هنا “يعمل” كأدمن عملًا يتقاضى عليه أجرًا من دار نشر، ويعمل على ترويج كتبها وبالأخص كُتّاب بأعينهم. وهي وسيلة لا يمكن لأحد أن ينتقصها، لأنها إحدى وسائل الدعاية لكاتب وكتاب، لكن في نفس الوقت لا يمكن بناء عليها قياس أهمية كاتب أو مقروئيته الحقيقية أو تأثيره في الكتابة الروائية، ولا تمنح هذه الجروبات، لأنها مدفوعة الأجر، ما يمكن البناء عليه لقراءة المشهد الأدبي في بلد ما.

ربما يؤدي هذا النوع من الدعاية إلى دفع عملية القراءة وزيادة المبيعات، لكن: أي نوع من القراءة؟ وهل كل قراءة مفيدة للعقل البشري؟ ثم: هل الإقبال على كتابة وبيع الكتب الضعيفة أدبيًا، الخالية من المغامرة الأدبية والتجربة الإنسانية، يؤدي إلى نهضة الأدب؟ كل ذلك يجعلنا نعيد السؤال القديم مرة أخرى: ما الأدب؟ ما الفرق بين عمل لدوستويفسكي وعمل لأنيس منصور؟

سمر نور (روائية مصرية):

زحام واستنزاف

أتصور أن الأمر يرتبط بطبيعة الكاتب وعلاقته بالعالم، هناك كتاب إجتماعيون بطبيعتهم إن جاز التعبير، ويستمدون احساسهم بذواتهم من تفاعل الآخرين معهم، بصرف النظر عن طبيعة هذا التفاعل، ومدى جديته، وربما يكون هذا سمة العصر كما يقولون، حيث ارتبطت أجيال كاملة بعالم السوشيال ميديا، بكل جوانبه السلبية والإيجابية، لكن هناك كتاب لا يميلون بطبيعتهم للتماهي مع الواقع الإفتراضي، بعضهم آثر الابتعاد تماما والآخر، وأنا منهم، يستعينون بصفحاتهم الشخصية فقط، لكنهم لا يملكون القدرة على التفاعل بشكل كبير مع زحام جروبات القراءة. وهناك عامل آخر أهم، وهو تنافس دور النشر، والتي أصبحت علاقتها واضحة بمجموعات القراءة على الفيس بوك وبالكثير من ”البلوجرز” المتخصصين في هذا المجال، مما يؤثر، بجانب علاقات الكتاب الشخصية، وقدرتهم على التواصل، على انتشار بعض الكتب وإهمال أعمال أخرى، فلننظر حين يفوز كاتب ما بجائزة على سبيل المثال، كيف يتم الاهتمام بكاتب بينما يهمل كاتب آخر فائز بنفس الجائزة على هذا النوع من التجمعات، وفقا لدار النشر الصادر عنها كتابه.

سمر نور

 أعتقد أن عالم التقييمات والترشيحات وما إلى ذلك مركب جدا، كما أن هناك الكثير مما نعرفه عن كواليس إدارة معظم هذه الجروبات وعلاقتها برأس المال في عالم النشر. أتذكر أن أحد القائمين على دور النشر من قبل سألني لماذا لا أتفاعل مع هذه الجروبات حتى تهتم بأعمالي؟! بالنسبة لي، أشعر بالسعادة عندما يرسل لي قارئ لا أعرفه رسالة على بريدي أو تعليق على جروب قراءة، أو تقييم ينم عن قراءته للعمل وتكوين وجهة نظر بخصوصه، فنحن بشر، ولا أنكر أنني أعود إلى صفحتي على جود ريدز من وقت لآخر وأسعد بأي تقييم أو ريفيو، رغم معرفتي أن هناك عشوائية وأحيانًا مجاملة أو عداوة تتدخل في الأمر، كما أنني أستخدم صفحتي الشخصية على الفيس بوك أحيانا لتقديم أعمالي لأصدقائي والمهتمين، وأضع صورا مع كتبي أو صور حفلات توقيع وتكريمات، لكني في كثير من الأحيان أشعر باستنزاف من الانغماس في كل ذلك، وأتمسك بوجهة نظر تنقذني من هذا الزحام، فمن جهة ليس من واجب الكاتب التعامل مع هذا كله باعتباره معيارا أوحد. الحاصل على نوبل هذا العام لم يكن هناك تفاعل كبير على صفحته على موقع جود ريدز قبل إعلان فوزه بنوبل! ومن جهة أخرى فالترويج ليس مهمة الكاتب بل مهمة جهات أخرى، وليس على الكاتب أن يتحول إلى مندوب علاقات عامة، مجبر على التفاعل في كل الأوقات، كي يقرأ الناس ما يكتبه.

إسلام وهبان – مؤسس ومدير جروب مكتبة وهبان للقراءة و(نادي القراء المحترفين سابقًا):

تخليق نجومية مزيفة

أعتقد أن التطور التكنولوجي ومنصات التواصل الاجتماعي قد أثرت بشكل كبير في المشهد الثقافي وعلاقته أطراف العملية القرائية ( الكاتب – الناشر – القارئ )، بداية من تأسيس موقع “جودريدز” في 2007، والذي أعطى مساحة أكبر للتواصل بين القارئ وكاتبه، وقدرة على تعبير القراء عن آرائهم فيما يقرأون، بل وخلق حالة تنافسية بين القراء فيما عرف بتحديات القراءة، الأمر الذي أفرز ما نطلق عليه “القارئ النجم”، والذي يتمتع بمعدل قراءة جيد، وينشر مراجعات وتقييمات للكتب بشكل مستمر. 

إسلام وهبان

ومع انتشار اليوتيوب ومنصات التواصل الاجتماعي أصبح مصطلح “القارئ النجم” أكثر تأثيرا على المشهد القرائي، خاصة بعد انتشار قنوات “البوكتيوب”، والتي تخصصت في مراجعة وتقييم الكتب، وأصبح لكثير من أصحاب هذه القنوات قدرة كبيرة على توجيه متابعيهم، أو التاثير على قراراتهم الشرائية، الأمر الذي دفع كثير من دور النشر لمحاولة ترويج أعمالها من خلال هذه القنوات. لكن لا يمكن أن ننكر أن البوكتيوبرز لهم دور هام ومؤثر في التشجيع على القراءة. 

أما عن جروبات القراءة فالأمر مختلف، فعلى الرغم من أن أغلب هذه الجروبات انطلقت بالأساس بهدف تسويقي، إلا أن بعضها استطاع تغيير خريطة المشهد القرائي، وأصبح هناك تفاعل أكبر وتواصل أكبر بين القارئ والكاتب، أو بين القارئ والناشر، بل أصبح هناك قنوات اتصال بين الناشرين والكتاب الجدد، لما تقدمه هذه الجروبات من أنشطة ثقافية وفعاليات أكثر حيوية وتنوع، مثل المناقشات الأونلاين والمسابقات وتحديات الكتابة، وتبادل الخبرات القرائية المختلفة بين شرائح متباينة من الكتاب، ولم يعد أدمن الجروب هو النجم، بقدر ما أصبح القارئ الجيد أو صاحب الرؤية هو النجم الحقيقي. 

لكن لا زالت هناك ممارسات غير سوية تمارس عبر بعض هذه الجروبات، مثل محاولة تخليق نجومية مزيفة لكاتب بعينه، أو محاولة تصدير صورة كاذبة عن رواج عمل ما، من خلال نشر عدد كبير من الريفيوهات عليه عبر ذلك الجروب أو ذاك، بل وأصبحت كثير من جروبات القراءة هدفا للناشرين ومنصات بيع الكتب للترويج من خلالها، بل وأصبح هناك ظواهر غريبة باستحواذ بعض الأسماء في جروبات القراءة على أغلب هدايا دور النشر، دون تأثير حقيقي منهم على الحالة القرائية، لكن أعتقد أن كثير من القراء أصبح لديهم من الذكاء ما يمكنهم من التمييز بين ما هو حقيقي وما هو زائف. 

لم تؤثر جروبات القراءة ومنصات التواصل الاجتماعي على علاقة القارئ بالكاتب أو علاقته بالناشر فحسب، بل على كثير من المفاهيم والمصطلحات التي ظهرت بشكل كبير مؤخرًا، فأصبح مصطلح “ريفيو” هو الأكثر انتشارًا بدلا من تقييم او مراجعة، وذلك بفعل اهتمام شريحة كبيرة بريفيوهات موقع جودريدز لسنوات، كذلك انتشر مصطلح مثل “بلوك القراءة” تأثًرا بلغة السوشيال ميديا، بل وأصبحت هناك أسئلة معتادة على اغلب الصفحات دون أهمية حقيقية لها فقط للهث وراء الترافيك، مثل “ماذا تقرأ الآن؟” وغيرها من المنشورات التي قد لا تفيد حتى صاحبها.

حجي جابر – روائي إرتريّ:

القارئ النجم

يبدو جليًا أننا إزاء ظاهرة آخذة في التشكّل يومًا تلو آخر وهي “القارىء النجم” ساحتها موقع جودريدز لتقييم الكتب إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.

القراءة فعل فردي في العادة، بدءًا من ذاتية الذائقة التي تختار الكتاب مرورًا “بطقوس” القراءة، وانتهاء بالانطباع الذي ينتهي إليه الشخص تجاه النص. وخروج هذا الفعل من حميمية الفرد إلى صخب المجموعات إنما جاء حسب ظني تحفيزًا على القراءة وإشاعة لها وهو ما تحقق وأثمر بالفعل، غير أنه في المقابل طرح بعض الآثار السالبة لذلك التحوّل، ومنها رغبة بعض القراء في التأثير وتشكيل مجموعات تفسيرية تقود وتشكّل الذائقة بل وتتعدى ذلك إلى احتكار إصدار الأحكام وتعميمها وتسخيف ماعداها أو تهميشها وتجاهلها في أحسن الأحوال.

حجي جابر

ولعل دخول بعض دور النشر على الخط فاقم من هذا الوضع عبر محاولة استرضاء هؤلاء القراء بمنحهم الكتب هدايا واستخدامهم كمنصات دعائية للإخبار بكل جديد يصدر عن الدار.

لا بأس أن ينال الواحد شهرة ونجومية عبر فعل القراءة رغم غرابة ذلك، لكن المؤذي فعلا أنّ هذا التمادي في البحث عن التأثير يضر بفعل القراءة ويعيدنا خطوات إلى الوراء، وعوض أن تحقق القراءة تلك الحرية المنشودة لكل شخص، تعيد إدخاله في قطيع من نوع خاص. ويزداد الأمر سوءًا إذا وقع الكاتب أيضًا تحت تأثير القارىء النجم وبات فعلا يهجس به أثناء الكتابة ويخضع لمعاييره ويسعى لإرضائه. متناسيًا أنّ الصوت العالي والجماهيرية التي يحظى بها القارىء النجم لا تجعله يختزل عموم القراء، فمعظمهم ولله الحمد، لا يزال وفيًا لفعل القراءة الفردي، يملك قراره وذائقته وحكمه بمعزل عن سلوك الجماعة التفسيرية.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى