لماذا لا يهتم الأمريكيون بجائزة نوبل؟

٢٥ مليار دولار عائدات النشر الأمريكية سنويًا

في اليوم التالي لإعلان فوز عبد الرازق قرنة بجائزة نوبل، ذهبت إلى أحد أهم مكتبات المدنية في لاس فيجاس حيث أعيش، وهى مكتبة مستقلة معروفة باختياراتها للكتب التي تعرضها، عكس سلاسل المكتبات في أمريكا التي تنتشر في كل مكان كفروع مطعم ماكدونالدز، وتركز في معروضاتها على الكتب الرائجة والأكثر مبيعًا.

سألت البائع عن أى كتب لعبد الرازق، ضرب أزرار الكمبيوتر، وقال “طلبنا بعض اصداراته بالفعل وستصل خلال يومين”. سألته هل طلب آخرون كتبه، قال ”لا، لكن فكرنا في طلب نسختين من بعض كتبه، لأنه فاز بنوبل”. متصنعًا الدهشة لكن متوقعًا الجواب سألته: “الرجل فاز بنوبل، فتطلب نسختين فقط من كتبه؟“. هذا يكفيه، أنت تعرف أن نوبل جائزة أوروبية إلى حد ما، هو في النهاية لم يفز بالناشنوال بيج أورد مثلا (جائزة الكتاب الأمريكي القومى) كما أن ناشره في انجلترا”.

هذا الحوار العابر يلخص الفرق بين سوق الكتاب في أمريكا، وبقية العالم. فبينما كانت أخبار عبد الرازق قرنة ونوبل الآداب حديث الصحافة العربية والأوروبية، كان حديث الوسط الثقافي الأمريكي يتركز على موضوعين، الأول مقال تافه على امتداد صفحتين نشرته النيويورك تايمز عن معركة على الفيسبوك بين كاتبتين، والموضوع الثاني البيان الذي أصدرته وزارة العدل الأمريكي تعلن فيه اعتراضها على صفقة استحواذ دار نشر بانجوين راندوم هاوس على دار نشر سيمون وشيستور، والتى تبلغ قيمتها المعلنة 2.75 مليار دولار.

تسيطر على سوق النشر في أمريكا خمس دور كبرى، هي التي تحدد الأعلى مبيعًا ولديها الغطاء المالي لتدفع للكتاب المتميزين

حسب بيان وزارة العدل الأمريكية تمثل هذه الصفقة استحواذا واحتكارا من شأنه أن يؤثر بالسلب على صناعة الكتاب الأمريكي. 

تسيطر على سوق النشر في أمريكا خمس دور كبري، هي التي تحدد الأعلى مبيعًا ولديها الغطاء المالي لتدفع للكتاب المتميزين، وإذا برزت أى دار نشر صغيرة ومميزة تسارع واحدة من الخمسة الكبار لشرائها. سنويًا يتراوح إجمالى عائدات النشر في أمريكا من 22 إلى 25 مليار دولار سنويًا، هو قيمة ما يتم بيعه من كتب صادرة عن دور النشر الأمريكية في العام الواحد.

إذا استحوذت راندوم هاوس على سيمون وسيشتور، فستتحكم راندوم هاوس بأكثر من 50% من إجمالي سوق الكتاب الأمريكي، حسب بيان وزارة العدل الذي أشار أن هذه الصفقة ستضر أولًا الكتاب، حيث ستقل المقدمات والأجور التي تقدمها لهم دور النشر، كما سيؤثر على تنوع الكتاب المعروضة حيث سيعكس نصفها على الأقل ذوق واختيارات دار نشر واحدة.

جين كومينز.. رواية عن المهاجرين لكاتبة بيضاء رغم وجود الكتاب المهاجرين!

ليس معروفًا تبعات تلك المعركة وهل ستنجح راندوم هاوس في شراء سيمون وشيستور. لكن وسط حديث المليارات، ما قيمة جائزة لا تتجاوز قيمتها المليون دولار، وغالبا تمنح لكتاب ليسوا ممثلين في سوق النشر الأمريكي.

 يعتبر الأمريكيون أن حصول كاتب أمريكي على نوبل تكريم دولى للفائز، لكن ليس للأمر أى ثقل قومى كما في دولنا العربية، لا يذهب الكاتب بعد فوزه بنوبل لالتقاط صورة مع رئيس الجمهورية مثلًا، ولا يطلقون اسمه على مدرسة أو شارع، وليس عاملًا مؤثرًا في صناعة نشر وتوزيع الكاتب عكس ما يتخيل البعض.

لكي نفهم حجم السوق الأمريكي وصناعة الكتاب سيكون من المفيد أن نعرف أن سوق النشر الفرنسي مثلا والذي يخدم متحدثي الفرنسية في العالم، يحقق عائدات لا تتجاوز الملياري دولار، أما انجلترا فحجم عائدات سوق الكتاب سنويا لا تتجاوز الخمسة مليارات.

بالتالي فسوق النشر الأمريكي وحده يعادل اقتصاديا سوق النشر في قارة كاملة متعددة اللغات مثل أوروبا، ومع هذا الاقتصاد الضخم والذي يتضاعف سنويا بمعدل مليار ونصف واثنين مليار دولار، يمتلك عالم الأدب والكتابة في أمريكا منظومته الخاصة.

في كل بلدان العالم، يكتب الكاتب كتابه ثم يرسله لدور النشر، ثم ينتظر خطاب الرفض أو القبول. لا تجري الأمور هكذا في أمريكا، فالكتابة الأدبية حرفة ومهنة، قد تدر الملايين على صاحبها. أصبح من الطبيعي في السنوات الأخيرة في أمريكا أن يتقاضي كتاب متوسطون أو في بداية حياتهم أرقاما تصل إلى 300 ألف دولار على كتب لم تكتب بعد، ناهيك عن الأسماء الراسخة في السوق التي تحصل على مليون وثلاثة في الكتاب الواحد، لذا فطموح الكاتب في أمريكا لا ينظر إلي جائزة نوبل باعتبارها قمة التقدير، حيث إن بيع كتاب واحد لرندوم هاوس بمليون دولار أفضل كثيرًا، وأحيانًا يتحول بعض الكتاب إلى ماكينة لإنتاج الكتب كل عام، لأنهم يتورطون في التزامات مع دور النشر التي أصبح بعضها، يقوم بدفع المقدم وتوقيع عقد مع كاتب بشرط أن يسلمهم ثلاثة كتب مثلا خلال خمسة أعوام.

يبدأ الكاتب هنا مسيرته بالالتحاق بإحدى الجامعات لدراسة الكتابة الإبداعية، حيث يختار بين تخصصات تشمل الشعر، الكتابات الخيالية وغير الخيالية

ليس الكاتب في أمريكا سائحا في غربته، يعيش في الهامش ويموت فيه، وليس لديه مثل كتاب أوروبا حكومة اشتراكية توفر له التأمين الصحى، والتعليم المجانى، وتدعمه بمنح التفرغ وبرامج دعم الثقافة، بل ليس في أمريكا وزارة ثقافة أصلًا.

يبدأ الكاتب هنا مسيرته بالالتحاق بإحدى الجامعات لدراسة الكتابة الإبداعية حيث يختار بين تخصصات تشمل كتابة الشعر، الكتابات الخيالية وغير الخيالية. تكلف دراسة الماجستير للكتابة الإبداعية ما لا يقل عن عشرة آلاف دولار، أما إذا كانت الدراسة في واحدة من الجامعات ذات الاسم الرنان قد تصل إلى خمسين ألف دولار أضف لها ثلاث سنوات من الدراسة، ليس كل الكتاب الشباب لديهم هذا المال، ومثل كل الطلبة الجامعيين في أمريكا ينتهى الأمر بالكاتب مستعيرا هذا المال من أحد البنوك في قرض بفائدة سنوية متزايدة، معظم الكتاب الذين قابلتهم يقضون بقية حياتهم في تسديد هذا القرض وفوائده.

لكن وجود مثل هذه البرامج يخلق أيضًا سوق عمل للكتاب، فبعد التخرج يتحول طلبة الأمس إلى أساتذة للطلبة الجدد، والمهن الأكثر انتشارًا للكتاب هنا، أن يعملوا كمدرسين ومدربين في ورش وبرامج الكتابة.

بعد التخرج يبدأ الكاتب في البحث عن وكيل أدبي، وهى ليست عملية بحث بل عملية جذب. الوكلاء الأدبيين هنا هم حراس البوابات، يمكن لوكيل أدبي أن يحولك إلى مليونير أو يدفعك إلى هجران الكتابة والعمل في مجال كتابة الاعلانات على موقع أمازون، بدون ماجستير في الكتابة الإبداعية من الصعب أن ينظر وكيل أدبي إلى عملك.

 بعدما يؤمنك الوكيل الأدبي المناسب، يبدأ في تسويقك. لنلاحظ حتى الآن أنك ككاتب لم تكتب كتابك بعد وهذا أفضل كثيرًا، فما تحتاجه هو فكرة الكتاب وربما فصلا منه، ليبدأ الوكيل في الطواف على دور النشر وتسويقك بالشكل المناسب، حتى يحوز مخطط مشروعك ثقة ناشر ما، فيقدم لك عرضًا مناسبا، يدفع الناشر هنا مقدما، تحصل علي المال وتجلس للتفرغ لإنجاز الكتاب.

بهذه الطريقة تعمل ماكينة النشر الأمريكي الهادرة، وتفرض شروطها على الجميع، وهى لا تعمل فقط بقوانين الربح والخسارة بل ضمن إطار منظومة التفوق العرقي الأمريكي. العام الماضى مثلا كانت فضيحة رواية “الوسخ الأمريكي American dirt” كاشفة لمنظومة النشر في أمريكا، فالرواية التي كتبتها امرأة أمريكية بيضاء هي جنين كومينز Jeanine Cummins تدور حول عذابات المهاجرين وعبور الحدود من المسكيك إلى أمريكا، حصلت جنين على مقدم يتخطى المليون دولار وكتبت الرواية في عشرة شهور. 

حفلت الرواية بالصور النمطية عن المهاجرين وعن الشخصية الاسبانية، حيث الرجال تجار عصابات والنساء ساخنات مستعدات للجنس والإثارة، ثارت اعتراضات أدبية على الرواية في البداية، وتضخم الأمر حين صرحت جنين أنها لم ترغب في كتابة الرواية وليست فكرتها، بل كانت دار النشر هي من سعت إليها وعرضت عليها هذا المبلغ لتكتب الرواية. طبعًا لا تدفع دور النشر في أمريكا هذه الأرقام لكاتب أسود أو لا تينى أو مهاجر، بالتالي تحول النقاش وقتها حول فساد الصناعة الذي يدفع دار نشر لدفع الملايين لكاتبة أمريكية بيضاء لتكتب رواية عن المهاجرين، رغم وجود مئات الكتاب المهاجرين بعضهم مر بتجربة عبور الحدود والحياة بلا أوراق.

ما قيمة نوبل في سوق يحصل فيها الكاتب على مليون وثلاثة ملايين في الكتاب الواحد!

في هذا السياق فالكتب المترجمة تشكل هامشًا ضعيفًا في سوق الكتاب الأمريكي، ولنا أن نتخيل أن سوق الكتاب الذي حقق أرباحا العام الماضى تصل إلى 25 مليار دولار، لم يشهد سوى نشر حوالى 600 كتاب مترجم، أغلبها صدرت عن دور نشر جامعية، مثل معظم ترجمات الأدب العربي على سبيل المثال التي تصدر عن دور نشر جامعية ويكون مصيرها المخازن ومحلات الكتب المستعملة، لأن دور النشر الجامعية ليس لديها القدرة على منافسة وحوش سوق النشر الكبيرة، وتنشر لا بهدف الربح، بل بهدف إثراء المعرفة الأكاديمية بالتالي يظل الأدب العربي حبيس أقسام دراسات الشرق الأوسط والأدب المقارن، ويظل القارئ الأمريكي أسير منظومة النشر الأمريكية التي لا تهتم كثيرًا بنوبل أو بغير الأمريكيين البيض.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى