فصل من جحيم الكتب.. إحراق العصر الفضي

ترجمة وتقديم: د. أنور إبراهيم

التسـويق إكـراه أدبي حديـث يتعـرض لـه الكتـاب، لكـن الأذى الأكـبر يأتي دائمـًا مـن السـلطات، وقـد كان القـرن العشـرون الذي شـهد موجـة مـن الأنظمــة الأيديولوجيــة الشــيوعية والنازيــة والفاشــية قــرنًا لمحــارق الكتــب، اســُتعيدت فيــه ذكــريات العصــور الوســطى ضــد الكتــب ومؤلفيهــا.

 

في نهاية مايو عام 1993 عقد في موسكو مؤتمر دولي تحت اسم «کی، جی، بي: أمس واليوم وغدا» وفي هذا المؤتمر طرح المؤرخ الأدبي والشاعر والمترجم قسطنطين أزادوفسكى قضية تدمير الكتب في الاتحاد السوفيتي، وقد نشرت « الصحيفة الأدبية» الصادرة في الثالث من نوفمبر ۱۹۹۳ جانبا من البحث الذي ألقاه أزادوفسكي في مقال لها تحت عنوان: «كيف جرى إحراق العصر الفضي».

ألكسندر سولجنستين

 والمقصود بالعصر الفضي هم مجموعة الكتاب والشعراء – مثل: خوداسيفيتش، زامياتين، باسترناك، زوشينكو، تسفيتايفا ميريجكوفسكي، زيناييدا جيبيوس، أخماتوفا، وغيرهم – الذين برزوا في مطلع القرن العشرين وخاصة في العشرينيات والثلاثينيات وحتى قبيل الحرب العالمية الثانية. من أقرب سبب لتسميتهم بـ «العصر الفضي» هو التفريق بينهم وبين أدباء العصر الذهبي من أمثال تولستوي ودوستويفسكي وتورجنيف، كانوا ينتمون إلى مدارس أدبية مختلفة، وكثير منهم استقبلوا الثورة البلشفية ١٩١٧ باعتبارها الحدث الذي يحقق أحلامهم بالمساواة، لكنهم تعرضوا للملاحقة والاضطهاد من قبل نظام ستالين وهاجر منهم من هاجر، وقتل بعضهم أو مات في معسكرات العمل والسجون، وقد سموا بهذا الاسم تمييزا لهم عن كتاب روسيا من الكلاسيكيين.

ينبغي الاعتراف بأن الابتكار الحقيقي للبلاشفة تمثل في التعسف الشديد الواسع، بعيدًا عن الأخلاق والقانون

استشهد أزادوفسكي هناا بقضيته الشخصية، إذ لفقت له وزوجته قضية ملفقة ۱۹۸۰ على يد «الجهات المسئولة» في ليننجراد. ويلقي الضوء على الظروف الخفية التي أحاطت بالقضية حتى جاءت لجنة إبراء ذمة ضحايا الاضطهاد السياسي لتضع النقاط على الحروف:

لا تقتصر خاصية الأسلوب البلشفى على مجرد امتلاكه وسائل قمع الخصوم السياسيين (القسوة الشديدة، الإرهاب الجماعي وغيره)، بل ينبغي الاعتراف بأن الابتكار الحقيقي للبلاشفة تمثل في التعسف الشديد الواسع – بعيدا عن الأخلاق والقانون في تفسيرهم لكلمة «السياسة» واستبدالها على نحو مصطنع وغير قانوني بمفهوم الأيديولوجيا، وهو الأمر الذي اكتسب شرعيته بعد ثورة أكتوبر مباشرة، والذي على أساسه جري في عام ۱۹۲۲ طرد مجموعة من أبرز الكتاب والفلاسفة من الاتحاد السوفيتى بناء على التصنيف الأيديولوچی، على الرغم من أن أحدا من المطرودين لم .يكن يعمل جديا بالسياسة أو يشكل أي خطورة على الدولة.

آنا أخماتوفا

لقد اتضح أن الاختلاف في الفكر أصبح من الأنشطة الإجرامية وأصبحت الثقافة ودراستها داخل دائرة من الرقابة الصارمة. أما هؤلاء المتحمسين لبرجسون أو شبنجلر، لبيرديايف أومير يجكوفسكي فقد تم تصنيفهم ببساطة ليصبحوا ضمن «المناهضين للاتحاد السوفيتى» وهو ما انطبق تماما على كتاب «العصر الفضي».

وعلى مدى ربع قرن تقريبا منذ الثلاثينيات وحتى ذوبان الثلوج في فترة خروشوف ظل إبداع هؤلاء الكتاب والشعراء موضوعا مغلقا، فلم تلق دراسة الرمزيين – بما فيهم بلوك (صاحب الأشعار «الثورية» وديوان «الاثني عشر») أو بريوسوف، الذي انضم للحزب – أي قدر من التشجيع، أما الكتاب والفنانون الذين هاجروا فلم يكن من الممكن مجرد التفكير فيهم، بل إن تناول إبداع شعراء من أمثال جوميلوف وكليويف اللذين أطلق عليهم الرصاص، أو في يسينين وتسفيتايفا اللذين أنهيا حياتيهما شنقا، أو ممن لقو حتفهم في معسكرات الاعتقال من أمثال ماندلشتام فكان ينظر إليه باعتباره عملا من أعمال التخريب». ناهيك عن أن الأمور لم تكن تسير على ما يرام مع کتاب وشعراء آخرين مثل ماياکوفسکی وجورکی وألكسي تولستوي وكوبرين العائد من المهجر، وإلى عهد غير بعيد كان الحديث عن مرض كوبرين المزمن وعن الماضي «الانحطاطی» لألكسي تولستوي وعن الظروف الغامضة التي أحاطت بمصرع كل من مكسيم جورکی وماياكوفسکی – من الأمور المحرمة.

لم تستطع الدكتاتورية البلشفية أن تتمثل تلك القيم التي جاء بها إليها العصر الفضي، فقد كان عصرًا غريبًا بأخلاقه وأجوائه عن أيديولوجيا الصراع الطبقي

تغير الحال في منتصف الخمسينيات، فقد أعادت لنا فترة ذوبان الجليد أعمال يسينين وبونين وماندلشتام وتسفيتايفا وغيرهم، وعلى الرغم من ذلك استمر تضييق الخناق ملازما لهذه الأسماء وللطبعات التي كانت ترد لأعمالهم من الخارج، وظلت مصادرة الكتب الروسية في طبعاتها الأجنبية عملا روتينيا (خوداسيفيتش، نابوكوف، جوميلوف، ماندلشتام، أخماتوفا) وكانت هذه الأعمال تمنع من الدخول بمجرد اكتشافها عند عملية تفتيش القادمين من الخارج، لن أتحدث هنا عما تعرضت له أعمال برديايف وشيستوف، وإيلين وأسكولدون وفرانك.

فلاديمير ماياكوفسكي

إن الأمر على هذا النحو ليس فيه ما يثير الدهشة، فثقافة العصر الفضي بالتحديد كانت وستبقى هي الفضاء الروحي الذي عاش ونما فيه مثقفونا. والذين نهلوا من هذا النبع الحي لم تكن لديهم الرغبة في أن ينهلوا من حفرة راكدة آسنة، ولما كان النظام يدرك بالطبع هذه الخطورة فقد سعى بكل الوسائل الحماية المواطنين السوفيت من التأثر «المميت» بالعصر الفضي.

لم تستطع الدكتاتورية البلشفية (والتي كانت تسمي نفسها لسبب ما بديكتاتورية البروليتاريا) وما كان لها أن ترث وأن تتمثل تلك القيم التي جاء بها إليها العصر الفضي، فقد كان عصرا غريبا بأخلاقه وأجوائه عن الأيديولوجيا المنتصرة – أيديولوجيا الصراع الطبقي. ما كان للبلاد الغارقة في أعماق العبودية الجسدية والروحية أن تدرك الحرية التي كان جيل مثقفي ما قبل الثورة يستنشقونها.

وهكذا نجد أن الصور الفوتوغرافية والخطابات الشخصية أشياء يمكن أن تذهب بالمرء إلى معسكر كوليما في سيبيريا

وها قد حدث تدمير للثقافة الوطنية على نحو تدريجي موجه. أرسل كتاب العصر الفضى إلى حيث أرسل مفكرون وعلماء آخرون مخالفون في الفكر وأجبروا على الوقوف ووجوههم إلى الحائط أو دفعوا إلى الركوع أو سيقوا إلى معسكرات العمل أو طردوا إلى المهجر.

مكسيم جوركي

وإبان ذلك جرى القضاء ليس فقط على البشر وإنما على آثارهم: كتبهم ورسومهم ووثائقهم وصورهم. نعم، لم يقتصر الأمر على مجرد مصادرة العديد من المواد ذات القيمة التاريخية العظيمة، وإنما جرى نفيها معنويا وإعدامها ماديا. كيف تم ذلك؟

في حوزتی مواد خاصة بالقضية التي لفقت في عام 1980 ضدی وضد زوجتى، أحدها محضر تفتيش سجل فيه عدد من الصور الفوتوغرافية والكتب التي صادرها رجال الكى جی بی. لمن هذه الصور؟ صورة من شهادة ميلاد جوميلوف، صور باسترناك عليها إهداء من تسفيتايفا، صورة لجثة يسينين مع بعض الأشخاص، صورة لكليويف عند قبر يسينين، صورة ليسينين في قبره، صورة تسفيتايفا مع زوجها إيفرون، صورة سفيريانين، صورة لجثة ماياكوفسکی (المجموع ۲۲ صورة).

هذه القائمة من الصور كانت مثار الدهشة حتى لهؤلاء الذين كانوا يؤدون دور المحامين.

 ولكن قد يتساءل البعض: ولماذا من بين آلاف الصور (كان لدي عند إجراء التفتيش – مجموعة رائعة من الصور الفوتوغرافية لأساطين الثقافة الروسية للعصر الفضي) جرى مصادرة وإدراج هذه الصور في المحضر، وهي صور تسفيتايفا أو باسترناك ومنها صور نشرت أكثر من مرة في الاتحاد السوفيتي، أو صورة إيجور سفيريانين؟

ثقافة العصر الفضي بالتحديد كانت وستبقى هي الفضاء الروحي الذي عاش ونما فيه مثقفونا

إنني أفسر ذلك أساسا لاجتهاد رجال الشرطة السرية عندنا الذين لقنوا مصادرة كل ما له علاقة بموت الأدباء، جثة بلوك النحيل بعد تعذيبه، يسينين وقد التف حول عنقه الحبل، ماياكوفسكي وقد لوثت قميصه بقعة كبيرة من الدم، يالها من مادة يملكها غلاة المناهضين للاتحاد السوفيتي أو عملاء المخابرات الغربية (هذه الحيثيات التي أصدروا على أساسها حكمهم في المحكمة الكبری).

فلاديمير نابوكوف

يظهر هذا الاتجاه أكثر وضوحا إذا ألقينا نظرة على قائمة الكتب التي صودرت مني، فوفقا لمستندات القضية فقد تعرضت هذه الكتب للفحص والمراجعة.

ولعلي أجد من الضروري أن أقدم لكم الوثيقة الخاصة بالنتيجة النهائية لهذه المراجعة التي قامت بها اللجنة التي شكلها قسم المطبوعات السياسية بليننجراد:

«إدارة كاتم أسرار الدولة التابعة لقسم المطبوعات السياسية بليننجراد»

12-12-1980

1- صور فوتوغرافية للوحات ذات مضامين سياسية ضارة يظهر فيها الزعيم الفاشي المنشق المناهض للاتحاد السوفيتي ألكسندر سولجنيتسين ومعه شخصيات أخرى “Capolavaro de arte”.

2- ألبوم يحوي رسوما وتخطيطات ذات مضامين إباحية، محظور إدخاله وتداوله في الاتحاد السوفيتى.

۳- صور تسفيتايفا إصدار دار نشر أرديس» الأمريكية المناهضة للاتحاد السوفيتى، عام ۱۹۸۰، يحوي صورا للأدباء جوميلوف – الذي أعدم لاشتراكه في تمرد الحرس الأبيض في کرونشتادت – وخوداسيفيتش الذي هاجر من الاتحاد السوفيتي ومارس في الخارج نشاطا معاديا ضده. مقدمة الألبوم كارل بروفر مليئة بالافتراءات المختلفة حول الشاعرة مارينا تسيفيتايفا وأسباب موتها بعد عودتها إلى الاتحاد السوفيتي.

لقد اتضح أن الاختلاف في الفكر أصبح من الأنشطة الإجرامية، وأصبحت الثقافة ودراستها داخل دائرة من الرقابة الصارمة

ألبوم يحتوي على تعليقات حقودة بقلم الكتاب المناهضين للاتحاد السوفيتي: نابوكوف وماندلشتام محظور طبعه وتداوله في الاتحاد السوفيتي.

4- ديوان إيجور بورخين «الكلمة بيتى»، . إصدار دار نشر «تريتايا فولنا» (الموجة الثالثة المناهضة للاتحاد السوفيتى، فرنسا، ۱۹۷۸.

يحتوي الديوان على أشعار دينية دعائية وعلى مقدمة تهاجم لجنة الأمن القومي د کی. چی. بی.). الديوان صدر بالخارج ومحظور طبعه وتداوله بالبلاد.

5- رواية ميخائيل زوشنيكو «قبل غروب الشمس» إصدار دار «الاتحاد الأدبي

الدولى» المناهضة للاتحاد السوفيتي الولايات المتحدة – ألمانيا الغربية)، 1967.

الرواية جرى نشرها في طبعة مختصرة عام 1948 في مجلة «أكتوبر» السوفيتية. لم تصدر كاملة في الاتحاد السوفيتي، محظور طبعها وتداولها . إضافة إلى ذلك فإن هذا الكتاب يضم إعلانا عن أعمال الكتاب المعادين للاتحاد السوفيتى: ر. هارون، ی. برودسکی، ن. برديايف، ج. ستروفي وغيرهم.

6- نشرة “Sammlung Zuchterhand” الإعلانية باللغة الألمانية تدعو لمؤلفات كل من جورج لوكاتش وألكسندر وسولجنتسين المعاديين للاتحاد السوفيتي. محظور دخولها وتداولها في الاتحاد السوفيتي.

7- نشرة ’’Sammlung Zuchterhand”

صادرة في ألمانيا الغربية تدعو لمؤلفات ماو. محظور دخولها وتداولها في الاتحاد السوفيتي.

8- کتاب بوريس بيلنياك «العنبر الملحى»، فصول من الرواية، طبعة الولايات المتحدة الأمريكية. دون تاريخ، نشرت بعض فصول هذه الرواية في الاتحاد السوفيتي في مجلة «موسكو» عام 1964، العدد الخامس.

جورج لوكاتش

على الغلاف ملاحظات لصحيفة «نيويورك تايمز» حول جوانب من حياة وإبداع بيلنياك معروضة على نحو مغرض. الكتاب محظور دخوله وتداوله في الاتحاد السوفيتي.

9- كتاب يفجينى زامياتين «نحن» باللغة الألمانية، طبعة ألمانيا الغربية ۱۹۷۰. رواية «نحن» افتراء على الدولة السوفيتية، لم تصدر في الاتحاد السوفيتي. محظور دخولها وتداولها في البلاد.

ب. أ. ماركوف

رئيس الإدارة

بعد اطلاعي على هذه الوثيقة للمرة الأولى (في سجن «کريستا» بعد إغلاق ملف القضية صعقت للجهل الفاضح الذي ملأها . فقد أدهشني على سبيل المثال أن يدرج كل من عالم الجمال نابوكوف والماركسي لوكاتش ضمن «المعادين للاتحاد السوفيتي»، وأن تكون فصول من رواية بيلنياك «محظورة من الدخول والتداول في الاتحاد السوفيتي» وأن يكون جوميلوف قد اشترك في انقلاب کرونشتادت (ماتزال الدوائر الرسمية حتى الآن تؤكد اشتراكه في مؤامرة تاجانسيفكي)، وغير ذلك من الخلط.

جرى القضاء ليس فقط على البشر وإنما على آثارهم: كتبهم، ورسومهم، ووثائقهم، وصورهم

أما «الافتراءات الكاذبة» ضد الكي، چي. بي. في أشعار بورخين فلم يكن الأمر سوى قيام رجال البوليس السري في لننجراد بملاحقة الشاعر والقيام بتفتيش مسكنه ودفعه لمغادرة البلاد. وأما بخصوص الرسوم والتخطيطات ذات المضمون الإباحي في الألبوم الإيطالي الذي يحمل اسم «روائع الفن» فإن الإدانة هنا إنما تنصب تحديدا على الرسامين ذائعي الصيت: جورجوني، بيلليني، ريناتو جوتوزو. وأما «صورة اللوحة المجهولة» التي ظهر فيها الزعيم الفاشي سولجنتسين وعدد من الشخصيات المشبوهة فليس من الصعب أن نحزر أن الحديث هنا يدور حول اللوحة المشهورة (ولا أدري كيف غابت شهرتها عن خبراء المطبوعات السياسية التي رسمها فنان الشعب في الاتحاد السوفيتى إ. س. جلازونوف والمعروفة باسم «مسرحية القرن العشرين» وقد تم عرضها في قاعة مانيج في قلب موسكو (بالمناسبة رسم الفنان في هذه اللوحة إلى جانب «الزعيم الفاشی» ستالين وخروشوف بل ولينين نفسه!).

لسبب ما أراد البعض أن يقدمني للمحكمة بناء على المادة السبعين (الدعاية ضد الاتحاد السوفيتي)، ونتيجة للتحريات التي قام بها المحقق كامينكو من وزارة الداخلية الروسية صدر في الثاني عشر من فبراير ۱۹۸۱ قرار ينص على أنه بناء على التفتيش الذي تم في شقة أزادوفسکی تم اكتشاف ومصادرة «طبعات أجنبية متنوعة الكتب معادية للاتحاد السوفيتى تحتوى على افتراءات مختلفة ضد الدولة السوفيتية محظورة من الدخول والتداول في الاتحاد السوفيتي»، بالإضافة إلى ذلك فقد لوحظ أنه «في سياق التحريات لم يثبت وجود أدلة على قيام أزادوفسکی بتداول هذه المطبوعات مع آخرين وأن الحصول على والاحتفاظ بمثل هذه المطبوعات لا يعد جريمة في حد ذاته، وبناء على ذلك فإن «معاملة المدعو أزادوفسكي بالمادة 70 من قانون جمهورية روسيا الاتحادية يعد باطلا».

أجبر البلاشفةُ المخالفين في الفكر على الوقوف ووجوههم إلى الحائط، أو الركوع، وساقوهم إلى معسكرات العمل أو طردوهم إلى المهجر

وعلى هذا تكون القضية قد قبلت «شكلًا» ورفضت «موضوعًا».

ولكن ماذا لو أن المحققين وجدوا بعض الحقائق؟… أي ماذا لو اتضح لهم – لا قدر الله – أنني قد عرضت على بعض معارفی ألبوم تسفيتايفا أو صورة لوحة جلازونوف، أو أنني أقرضت أحدهم كتابا لبيلنياك أو زوشينكو؟ كان سيتعين على عندئذ أن أتحمل المسئولية وفقا للقوانين السوفيتية على الجريمة الخطرة التي ارتكبتها في حق البلاد وهي تداول مطبوعات تحتوي على افتراءات تشهر وتنتقص من الدولة السوفيتية والنظام الاجتماعي أو تدعو لقلب نظام السلطة السوفيتية!

وهكذا نجد أن صور بلوك وكليويف وألبوم تسفيتايفا وروايات كل من بيلنياك وزوشينكو وخطابات جيبيوس وخوداسيفتش أشياء يمكن أن تذهب بالمرء إلى معسكر كوليما في سيبيريا، وهناك لن تشفع له خطابات أعظم علمائنا (سواء إلى النائب العام سولوفيوف أو المحقق كامينكو) والتى يؤكدون فيها أن الرجل منكب منذ زمن بعيد على دراسة العصر الفضي، وسيكون من الطبيعي أن تذهب هذه الالتماسات أدراج الرياح، بل لعل أناسا في الكي، جي. بي. سيزعمون أنهم أفضل من يعرف هذا العصر الفضى وأنهم الأجدر بدراسته.

مر الزمن وعاد الرجل إلى حديثه بعد سجنه. ولكن ماذا كان مصير الصور والكتب؟ لقد طرحت هذا السؤال مرات عديدة (كتابة بالطبع) بدءا من عام ۱۹۸۳، ولولا أنني وقعت بمحض الصدفة على أوراق غير مسموح لمثلى بالاطلاع عليها لما اتضح لى مصير هذه المواد . ومن بين تلك الأوراق الوثيقة التالية:

أدهشني على سبيل المثال أن يدرج كل من عالم الجمال نابوكوف، والماركسي لوكاتش، ضمن «المعادين للاتحاد السوفيتي»

«محضر»

بناء على قرار قسم المطبوعات السياسية بليننجراد رقم 196 المؤرخ 22/12/1980 قامت لجنة مكونة من أ. فالودين – نائب رئيس القسم، ي. بيزفيرخوف – نائب رئيس القسم، أ. كوزنيتسوف – مفوض القسم بالتخلص من المواد التالية والمحظور إدخالها وتداولها في الاتحاد السوفيتي وهي مواد لا تمثل قيمة علمية أو تاريخية (راجع القائمة المرفقة من عشرة عناوين).

يتم إعدام المواد العشر المسجلة في المحضر- وكل منها من نسخة واحدة – حرقا.

أعضاء اللجنة

أ. فالودين

ي. بيزفيرخوف

أ. كوزنيتسوف»

ها هي إذن الأيديولوجيا التي أصبحت سياسة سياسة الكراهية وبربرية العصور الوسطى، ولكن هل صحيح أن العصور الوسطى كانت بربرية؟! ألم تحترق الكتب في قرننا العشرين في ميادين وشوارع ألمانيا؟ ألم يضرم الفاشيون النار في مؤلفات هنريك هينى وتوماس مان؟ وبماذا نفضلهم إذا أحرقنا ثقافتنا بأيدينا؟

لعل البعض سوف يعارضني بقوله: لقد حدث هذا في الماضي البغيض. أود أن أصدق؛ ولكن واأسفاه. إن الوضع الحالي الذي أعرفه يدفعني دفعا للشك في ألا يحدث هذا مرة أخرى.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى