الثقافة الشعبوية تتسيد المشهد العربي

الكاتب والناقد المغربي محمّد معتصم للجسرة:

في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد المغربي المعروف محمّد معتصم عن الدّراسات الثقافيّة، ومستوى وسقف التلقي العربي لهذا النوع من الدّراسات. وأهم العراقيل التي تُواجه هذا الحقل. وفي ذات السياق يتحدث عن القواسم المُشتركة بين النقد الثقافي والدّراسات الثقافية، مؤكدًا في هذا الشأن أنّه من المُمكن الاِستفادة في النقد الأدبي والنقد الثقافي من الدّراسات الثقافية لأنّ الثقافة هي الوجه الثاني لمفهوم الحضارة. معتصم تحدث أيضا عن واقع وحال الدّراسات الثقافية في العالم العربي. وهو يقول بهذا الخصوص “إذا كانت هناك دراسات فهي في الغالب مجرّد ترجمات أو مراجعات مختزلة لترجمات غربية، والدليل أنّ في ثقافتنا، ما يزال مفهوم (المثقف) مُلتبسًا، وكذلك مفهوم (الثقافة)…”.

يستعين النقد الثقافي بالثقافة في دراساته، بينما الدراسات الثقافية تُحلل مفهوم الثقافة كنسق فكري وتقف عند مكوناتها وعلاقاتها

محمّد معتصم كاتب وناقد مغربي معروف في الساحة الأدبية والنقدية العربية، بدراساته ومقالاته وكتبه النقدية. صدرت له العديد من الكُتُب منها على سبيل الذكر: “الشخصية والقول والحكي”، “الرؤية الفجائعية: الأدب العربي في نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة”، “المرأة والسرد”، “الصيغ والمقومات في الخطاب الروائي العربي”، “الرؤية الفجائعية: الرواية العربية في نهاية القرن” وقد نال عنه جائزة المغرب للكتاب دورة 2005 صنف الدراسات الأدبية والفنية، “الذاكرة القصوى: دراسات في الرواية المغربية المعاصرة”. “بناء الحكاية والشخصية في الخطاب الروائي النسائي العربي”. “خطاب الذات في الأدب العربي”.

فهم الأنثروبولوجيا المؤسف!

 

ـ من المعروف أنّ الدّراسات الثقافية تختلف عن التخصصات الأخرى كالأنثروبولوجيا الثقافية مثلًا، لكنّها تحيط بهذا المجال وتُساهم فيه بشكلٍ لافت. ما رأيك؟

نعم، الدراسات الثقافية تيارٌ يختلف عن الأنثروبولوجيا الثقافية، بل هي جزء منه، ضمنه، يعتمد عليها الدارس في إنجاز أبحاثه، بالإضافة إلى اِعتماد الدراسات الثقافية على الفلسفة وعِلم الاِجتماع وعلومٌ شتّى، ويمكن التمييز بينهما بِمَا أقترح الآن، فالدراسات الثقافية “عِلم” يسعى إلى بناء تصور شامل عن الثقافات في تنوع مكوناتها واِختلاف بيئاتها، من أجل الوصول إلى مشرك بينها جوهري، يمَكِّن من تجاوز الاِختلافات التي تنشأ بتأثير من البيئة والمجتمع والعادات وتعاقب وتداخل الثقافات والمُؤثرات الخارجية، بينما الأنثروبولوجيا الثقافية، “مقاربة نقدية” تدرس الثقافات مستقلةً عن ذاتها، ويتضح ذلك عند كلود ليفي ستراوس مثلًا، فالأنثروبولوجيا (يترجمها البعض بِعلم الإناسة) البنيوية، التي تأثرت بمناهج البحث اللسانية، وما حقّقته من ترقي علمي واقترابها الشديد من “العلمية” في ميدان العلوم الإنسانية، لكن الأنثروبولوجيا، للأسف، تقع ضحية فهم إيديولوجي ضيق، أي أنّ الدراسة الأنثروبولوجية تتوجه نحو المجتمعات البدائية أو المجتمعات المختلفة عن الثقافة والحضارة الغربية المتقدمة، وكأنّ الثقافة لا توجد إلاّ في هذه المجتمعات التي تأخرت عن الركب بسبب ما تعرضت له من تهميش واستنزاف إبان الحملات الإمبريالية لثرواتها البشرية الطبيعية، كما أنّ تجنب الدراسة للمجتمعات المتقدمة يتجاهل جانبًا مُهمًا من فهم الثقافة السائدة، وهذا ما تسعى الدراسات الثقافية تجنبه لأجل الوصول إلى الحقيقة العلمية لمفهوم “الثقافة”.

بين النقد الأدبي والنقد الثقافي

 

ـ هل يمكن الحديث عن دراسات ثقافية يتكئ عليها النقد الأدبي والنقد الثقافي؟

الإشكال المُتضمن في هذا السؤال يتعلق بمفهوم النقد الأدبي والنقد الثقافي، وباِختزال شديد، فالنقد الأدبي له تاريخ عريق وموضوعه النص الأدبي بمحدداته ومكوناته اللغوية والأسلوبية والبلاغية، التي تنقل ذلك المحتوى إلى المتلقين دون الإخلال بالقيمة والقيم الفنية والجمالية، وقد يستعين النقد الأدبي بعلوم مُجاورة لفهم المحتوى وتحليله، في مقاربات علمية أو تسعى إلى العلمية؛ “أدبية الأدب”.

الأنثروبولوجيا، ضحية فهم أيديولوجي ضيق، يجعلها تتوجه نحو المجتمعات البدائية أو المجتمعات المختلفة عن الثقافة والحضارة الغربية

النقد الثقافي، طريقة في فهم ودراسة النصوص الأدبية بالاِعتماد على الأنساق الثقافية المتضمنة في النص، أي أنّه في الحقيقة، دراسة “تأويلية”، وفي الوقت ذاته مقاربة تسعى إلى فهم النص اِنطلاقًا من الأنساق المكونة من بنيات فكرية ومواقف شخصية غير مصرح بها علنًا، لكن تفهم من خلال تحليلنا للخطاب الّذي صاغها فيه المؤلف.

والنقد الثقافي، يفسر وجوده، من خلال موقف دعاته من النقد البنيوي ومن فكرة عَلْمنةِ الأدب وعبره باقي العلوم الإنسانية، أي أنّه يأتي للبرهنة على أنّ الذاتية وحضور المؤلف والبنيات العميقة المضمرة من أهم ما يعطي النص الأدبي قيمته الجمالية وحقيقة وجوده واستمراره، في رسم مسارات تحوّل الإنسان ونموه المعرفي والثقافي. لذلك لا يمكن اِعتبار دراسات مشيل فوكو دراسات في النقد الأدبي ولا دراسات جاك دريدا ولا دراسات إدوارد سعيد، ولكنّها دراسات تندرج ضمن النقد الثقافي، سواء باِعتمادها البحث الأركيولوجي لبنيات الفِكر الإنساني والسياسي أو التفكيك الجنيالوجي للألفاظ والكلمات، على اِعتبار أنّ للكلمة تاريخًا، هو تاريخ تحوّل الفكر الإنساني، أو دراسة صراع الثقافات على اِعتبار أنّها بنيات فكرية لثقافات مختلفة وإيديولوجيات، أي ثقافات ناتجة عن صراع الأهواء البشرية حول التملك والاِستحواذ على السلطة.

من المُمكن الاِستفادة في النقد الأدبي والنقد الثقافي من الدراسات الثقافية، لأنّ الثقافة الوجه الثاني لمفهوم الحضارة، المُتعلق بكلّ ما أنتجه العقل البشري، من أدب عالم وشعبي، وفكر وفلسفة ومسرح، وباقي الفنون الجميلة، بينما الوجه الآخر يتعلق بِمَا صنعته يد الإنسان، من تشييد وبناء وعمارة، وهي بدورها لا تخلو من جمال وفن، لكنّه جمال لا يعتمد على اللّغة والتعبير الكتابي والشفهي.

وإذا كانت الدراسات الثقافية تبحث عن مشترك الإنسانية الثقافي، أي بحثها في جوهر الثقافات الإنسانية وفي التقاطعات المعرفية، فإنّ الأدب واحد من الإنتاج الثقافي الإنساني، الّذي يحمل بالضرورة بصمات تطوّر هذا الكائن الحي والحيوي الفاعل، لكن النقد الثقافي يكون في حاجة أكثر إلى الدراسات الثقافية من النقد الأدبي، مثال ذلك، الدراسات النسوية، فالنقد الأدبي يبني صرحه على التحليل اللغوي والبلاغي والأسلوبي، للوقوف أوّلًا وأساسًا على الأبعاد الجمالية لهذا النوع من الكتابات، ومحاولة التعرف على المواقف والثقافات التي يُنتجها سيحتاج إلى “تأويل” المضامين، وكذلك الاِستعمال اللغوي (أي الجانب التداولي) لبناء موقف أو تصوّر فكري، وهنا سيجد الباحث نفسه ينزلق دون وعي منه من النقد الأدبي نحو النقد الثقافي.

النقد الثقافي دراسة “تأويلية” تسعى إلى فهم النص اِنطلاقًا من الأنساق المكونة من بنيات فكرية ومواقف شخصية غير مصرح بها علنًا، لكن تفهم من خلال تحليلنا للخطاب الّذي صاغها فيه المؤلف

مثلًا يلجأ إلى تأويل اِستعمال الكاتبة للاِسم العلم المؤنث معنى والمذكر لفظًا، أي العلم الخالي من علامات التأنيث اللفظية، مثل: مريم، هند، سعاد…، وتلجأ الكاتبة إلى تأنيث المذكر لفظيًا كذلك، مثال: حمزة، عنترة، معاوية، علاء…، وهذه الملاحظة النحوية والإملائية تدعم موقفًا من الكتابة النسوية، وهي في الآن ذاته تأويل يكشف عن بنية تتضمن الصراع بين المذكر والمؤنث، الّذي يُحيل في الخارج؛ المجتمع والثقافة على صراع بين سلطة الرجل ووضعية المرأة. إذن، يقوم النقد الأدبي على التحليل، وحاجته إلى الدراسات الثقافية قليل إن لم نقل نادر، بينما النقد الثقافي القائم على التأويل يحتاج بشدة إلى الدراسات الثقافية ونتائجها.

 

ـ ما هي القواسم المُشتركة بين النقد الثقافي والدّراسات الثقافية؟ وهل النقد الّذي تُمارسه الدراسات الثقافية هو نوعٌ من النقد الثقافي؟

يمكنني إعادة التأكيد هنا على ما ذكرته من علاقة بين الدراسات الثقافية والأنثروبولوجيا الثقافية، وبذلك تكون الدراسات الثقافية عِلمًا يسعى نحو التعرف على البنيات الأساسية والمشتركة لكلّ أنواع الثقافات العالمة وغير العالمة، مع دراسة العلاقات بينها والتقاطعات أيضا. والنقد الثقافي يتجه نحو الفكرة الثقافية، أي دراسة المواقف الفكرية وحصر الأنساق الثقافية، من خلال الوقوف على المسار التاريخي لتحوّل الوعي والمعرفة الإنسانية، من أجل معرفة حقيقة الإنسان وآليات تفكيره في ذاته وفي علاقاته المُركبة ببني جلدته من الثقافات والأوعاء المُختلفة، ولكن عبر دراسة البنيات العميقة أو اللاواعية المُضمرة وغير المُعلنة والمُصرح بها، وهذا الإضمار، لا يتم إلاّ عبر رغبة الإقناع بنصف الحقيقة، كما أشرنا إلى ذلك، في حصر الأنثروبولوجيا مفهوم الثقافة في الشعوب البدائية، وكأنّ الشعوب المُتقدمة، في الدول المُصنِّعة والتكنولوجية، لا تمتلك ثقافة تخص الفئات البسيطة والمُتحكم فيها داخل تلك المجتمعات، فينتشر الوعي “المغلوط” بأنّ المجتمعات المتقدمة، خالية من العيوب والنقائص ولا تنتشر بين أفرادها وفئاتها الثقافات البدائية من شعوذة وخرافة وتفكك وانحلال.

الثقافة هي الوجه الثاني لمفهوم الحضارة المُتعلق بكلّ ما أنتجه العقل البشري، من أدب عالم وشعبي، وفكر وفلسفة ومسرح، وفنون جميلة، وعمارة

إنّ النقد الثقافي جزء من الدراسات الثقافية، لكنهما يحتاجان لبعضهما، بالرغم من أنّ الدراسة الثقافية تنحو باِتجاه “العلمنة”، ويبقى النقد الثقافي دراسة تأويلية للأنساق والمواقف الفكرية والسياسية غير المُعلنة، أي دراسة تأويلية للاوعي النص، دون إغفال حداثة “النقد الثقافي” الّذي ما يزال في طور البحث عن ذاته وإثبات هويته وخصوصيته المنهجية والعلمية، ودون إغفال أسباب نشوئه، والمُتمثلة في الثورة على علمنة العلوم الإنسانية في سباق محموم للتشبه باللسانيات السوسورية والأنثروبولوجيا الستراوسية، وإلى حدٍ ما سيميائيات غريماس وكوتيس، وأعني بالتحديد الدراسات البنيوية، فالنقد الثقافي لا ينصب على دراسة الفكر والنصوص الفلسفية أو أنساق الفلسفات الكُبرى، من أجل تفكيكها كما فعل نيتشه مع الميتافيزيقا، أو فوكو مع التاريخ والمعرفة، أو دريدا مع اللّغة لفظًا وبناءً، أو ما فعل لاكان مع الأحلام أو اللاوعي اللغوي. وهذه كلها في رأيي روافد كُبرى وقوية لبناء صرح “النقد الثقافي”.

في المشهد الأدبي

 

ـ هل يمكن القول إنّ الدّراسات الثقافية تُمارس -حقًا- التحليل النقدي الكافي للمشهد الثقافي كما يجب؟

يبدو لي أنّ الخلاف الّذي ينبغي توضيحه هنا كذلك ومن خلال السؤال، يقوم على التمييز الدقيق بين ما يُراد بلفظ “دراسة” ولفظ “نقد”، فالدراسة لا علاقة لها بالتأثير في الشيء أو الآخر كما هي الحال في النقد، بل تكتفي بتحليل الظاهرة أو الظواهر المُتشابهة والمُتقاربة، لأجل الوقوف على الحقيقة الجوهرية التي يمكن وصفها بالعلمية، وهذا يقودنا نحو التعبير التالي: الدراسات الثقافية تُمارس التحليل، اِنطلاقًا من ملاحظة الظاهرة ووضع الفرضيات المُمكنة، ثمّ الوصول إلى نتائج مُمكنة أيضًا، تُوافق أو تُناقض الفرضيات، لأنّها تطمح إلى تأسيس “عِلم الثقافة”، كما نتحدث عن السياسة وعِلم السياسة، وعن التاريخ وعِلم التاريخ، والأدب وعلم الأدب، والحديث عن نقد الثقافة، تنبري له علومٌ أخرى يمكن أن يكون النقد الثقافي واحدًا منها، ودراسة السياسات الثقافية، وتعدّد طرائقها بتعدّد نظرة الدارس لمفهوم الثقافة والحاجات المطلوبة والمتوخاه من تلك الدراسة.

تحتاج الدراسات الثقافية الخروج من الرفوف الباردة للإدارات إلى الميدان، داخل المجتمع لاختبارها وتطويرها وخلق قناة للتلقي السليم لها

يستعين النقد الثقافي بالثقافة في دراساته، وبينما الدراسات الثقافية تُحلل مفهوم الثقافة كنسق فكري وتقف عند مكوناتها وعلاقاتها، والمشهد الثقافي مجرّد حالة صغرى معزولة ومتحوّلة تدرسها الدراسات الثقافية كمُتغير في سياق عام. ولا يمكن دراسة المشهد الثقافي إلاّ في سياق خاص يُراعي التحوّلات والمُؤثرات والفاعلين الثقافيين (مفكرين وسياسيين ومتدخلين خواص)، وفي حال تحكم الخواص (التجار وأرباب المال) في المشهد الثقافي تكون الدراسات الثقافية في الغالب الأعم، قد جنحت عن خطها العلمي لتتحوّل إلى مبرر أو إلى اِختزال مفهوم الثقافة في كلّ ما ينتج المال، وهو الحاصل اليوم، حيثُ تسيدت فنون شعبية على فنون ثقافية، وبات المشهد الثقافي مُختزلًا في ما عُرِف بــ”الثقافة الشعبوية” التي تجلب الفرجة والمال، على حساب الثقافة الملتزمة التي تربط الفن والجمال بالمعرفة والتوجيه والتربية.

إرثنا ومنجزنا

 

ـ الرهان داخل الدّراسات الثقافية، يفتح أيضًا الكثير من الأسئلة الهامة والمُربكة في هذا الحقل. كيف تقرأ إشكالات الإرث النظري للدّراسات الثقافية؟

الدراسات الثقافية، حديثة بدورها على الساحة العالمية، ويُؤَرَخُ لها بستينيات القرن الماضي في الثقافة الأنجلوساكسونية، وبذلك يكون من السابق لأوانه الحديث عندنا عن إرث نظري وحتّى تطبيقي مُنجز للدراسات الثقافية، إذا كانت هناك دراسات فهي في الغالب مجرّد ترجمات أو مراجعات مختزلة لترجمات غربية، والدليل أنّ في ثقافتنا، ما يزال مفهوم “المثقف” مُلتبسًا، وكذلك مفهوم “الثقافة”، وفي حال الحديث عن “السياسات الثقافية” في مراكز القرار، نصطدم بالتعميم ومحاولات تعويم المحتوى، بين ما هو مادي وغير مادي، ومحاولة خلق منطقة بيضاء بين السياسات المحلية والتوصيات الدولية، فتبقى الدراسات الثقافية الرسمية خاصةً، حبيسة الرفوف والملفات داخل المكاتب والإدارات، بينما في الواقع يتم تغييب الثقافة وذلك لتجنب الحديث عن التعدّد الثقافي خوفًا من طَرق قضية التعدّد العرقي وإبراز فكرة الأقليات الثقافية واللغوية والعرقية.

لذلك يمكن في الغرب الحديث عن دراسات ثقافية وعن إرث نظري ثقافي، بينما عندنا ما نزال في حاجة إلى الاِتفاق حول مفهوم الثقافة، وإثبات وإقناع (الفاعلين الاِقتصاديين والسياسيين) بأهمية الثقافة، وبأنّها الوجه الآخر الّذي لا محيد عنه في إبراز الموقع الحضاري لكلّ بلد.

 سياساتنا الثقافية والتحولات

 

ـ ما هو واقع وحال الدّراسات الثقافية في العالم العربي، وهل أصبحنا على مستوى الجامعات العربية -مثلًا- نعي أهمية هذا الحقل؟

لو نظرنا كما سلف القول إلى اِنخراط الجامعة العربية ووزارات الثقافة في البلدان العربية في المنتديات الدولية والتزاماتها “ثقافيًا”، وانخراط الجامعة العربية في المشاريع الكُبرى والمُتطوّرة، ومنها السياسات الثقافية الحالية، التي فرضتها الثورة التكنولوجية الرابعة، وما حدث بداية وإبان الجائحة، كوفيد19، لبدا لنا العالم العربي مُتقدمًا ثقافيًا، والوثائق والتوصيات واللقاءات والندوات موجودة على شبكة الانترنيت لمن يرغب في البحث في الميدان، بل يتحدثون عن المنصات الثقافية والبوابات الرقمية والتبادل الثقافي، وتعاون وزارات الثقافة العربية على التعريف بالموروث الثقافي العربي قديمه وحديثه.

تسيدت فنون شعبية على فنون ثقافية، وبات المشهد الثقافي مُختزلًا فيما عُرِف بــ”الثقافة الشعبوية” التي تجلب الفرجة والمال

ولكن على مستوى الواقع والمُمارسة ما تزال العقليات المُسيرة تقليدية، في كثير من البلدان العربية، ما تزال تُدار الثقافة بعقليات غير مستوعبة للتحوّلات الكُبرى في الثقافة العالمية، وقد كشفت الجائحة الحالية، كثيرًا من العيوب والنقائص الناجمة عن عدم مواكبة التحوّلات الدولية وخاصةً التحوّلات التكنولوجية في ميدان الثقافة والنشر وسياساتهما.

 بين القراءة والمشاهدة

 

ـ في السياق ذاته، ما هو مستوى أو سقف التلقي العربي لحقل الدّراسات الثقافية؟

مستوى التلقي تدل عليه النتائج، ما يُنتجه المثقف العربي من جهة، وما ينتجه المسؤول الثقافي، وهنا الواقع لا يكذب، فالأزمة واضحة في اِتحادات ورابطات الكُتّاب وجمعيات المجتمع المدني عامة والثقافية والتربوية خاصة، وبيوتات الشِّعر، ثمّ المكتبات والأندية والمسارح ودور الشباب… كلّ ذلك في تراجع، وبعضها يلفظ أنفاسه، والبعض الآخر لا وجود فعليًا له، لأنّ المُتلقي/القارئ في تناقص، والمُتلقي/المُشاهد في تزايد عبر المنصات والبوابات الإلكترونية الشعبية والاِجتماعية، مثل فيسبوك ويوتوب، ومشاهد ومقاطع تيك توك، وغيرها كثيرة. لكنّه تلق عشوائي غير منهجي ولا موجَّه، وبالتالي لا يمكن اِعتماده لبناء قاعدة ثقافية وطنية أو حتّى قومية، لتأسيس ثقافة يتلقاها الجميع ويُساهم في بلورة مضمونها الجميع. تحتاج الدراسات الثقافية الخروج من الرفوف الباردة للإدارات إلى الميدان، داخل المجتمع لاِختبارها وتطويرها وخلق قناة للتلقي السليم لها.

 

ـ ما هي أهم العراقيل التي تُواجه حقل الدّراسات الثقافية؟

البيروقراطية، والأحكام المُسبقة على الثقافة والمُثقف، ثمّ التفاوت بين فئات المجتمع في الوعي والفكر ومستوى العيش. أمّا الدراسات الثقافية التي تبقى محصورة داخل أسوار الجامعات والإدارات والجمعيات، فلا أثر لها في الحياة الثقافية العامة.

جمالية النقد الثقافي

 

ـ هل وظيفة النقد الثقافي هي استنطاق النصوص المقموعة والمُهمشة مثلًا؟

نعم، إنّ لفظ اِستنطاق هو ما قلتُ عنه سلفًا “التأويل”، ولكن للنقد الثقافي، أبعادٌ أخرى فكرية وفنية وجمالية، فلا ينبغي له أن ينسى أنّه يتعامل مع نصوص كُتبت باللّغة، واستعملت اللّغة في التعبير عن تلك المقاصد والمواقف والمضمرات التي غلفها أصحابها بوعي أو بدون وعي، بقصد أو بدون قصد، بخطابات هي موضوعه وميدان دراسته وتأويله.

 

ـ هل النص الإبداعي العربي ما يزال بعيدًا عن التناول النقدي من منظور النقد الثقافي؟ أم أنّ النقد الثقافي لم يتشكل ولم يتأسس بِمَا يكفي في مخيال الناقد العربي؟ وهل لم يحن بعد الوقت للحديث عن نقد ثقافي في العالم العربي؟

هناك محاولات جادة في النقد الثقافي العربي، وقد تبنى الناقد عبد الله الغدامي هذا المشروع وقَدَمَ فيه عدداَ من الدراسات والكُتب، ولكن عمومًا، في العالم ما يزال النقد الثقافي في بداياته، مع العِلم أنّ ملامح “فلسفة” النقد الثقافي واضحة، ويمكننا في العالم العربي أن نجتهد في بناء نقد ثقافي عربي للنصوص العربية، التراثية والحديثة، واعتماد اِجتهادات المفكرين والدارسين العرب، وحتّى مَنْ كتبَ بغير اللّغة العربية، ولهم اِجتهاداتهم النوعية وأخص بهم إدوارد سعيد، وعبد الكبير الخطيبي، تمثيلًا لا حصرًا.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى