صالون ومتعة.. دراما الحكايات الاعتراضية

ذكريات مع توفيق الحكيم 2

بالرغم من أن الحكيم قد بدأ المشاركة في الحياة الثقافية قبل سفره إلى أوروبا وكتب مسرحيات مناوئة للاستعمار الانجليزي في مصر مثل (الضيف الثقيل) 1919، إلا أنه بعدما عاد من أوروبا – متأخرا قليلا عن محمد حسين هيكل وطه حسين – وجد أن أبرز أعلام جيله، كهيكل وطه حسين قد اصبحا من أقطاب الأحرار الدستوريين، بينما كان عباس محمود العقاد قد أصبح نجم حزب الوفد وكاتبه الجبار، وهو اللقب الذي أضفاه عليه زعيمه المؤسس سعد زغلول، فقرر اللجوء إلى صومعة المفكر ودور الفنان المتحرر من قيود الالتزام السياسي. وأن يلعب لعبة المفكر الحائر، والمثقف الحائر، وهي الحيرة التي كانت تعبيرا عن أهمية استقلال المثقف/ الفنان عن السلطة السياسية. بالرغم من أنه لم يتخل عن استخدام أدبه للدفاع عن قضايا شعبه الأساسية، بدءا من قضية الاحتلال الانجليزي لمصر، وحتى قضية فلسطين في (ميلاد بطل) 1948، وصولا إلى مسرحية (مجلس العدل) 1970 التي عرَّضَ فيها بموقف الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الجائر من حق الشعب الفلسطيني.

كما انشغل في كثير من نصوصه المسرحية بمشكلة الحكم التي تناولها في (نهر الجنون) 1935، ثم في (براكسا ومشكلة الحكم) 1939 وصولا إلى (السلطان الحائر) 1960 و(شمس النهار) 1964. ففي كل هذه المسرحيات تشغله قضية شرعية السلطة السياسية، والفردية منها خاصة، أي أشكال الاستبداد المختلفة، وسلطة انفراد شخص بالحكم دون مناخ حر مفتوح من حوله يحدّ من تلك السلطة، ويقومها بالنقد والجدل العقلي، وعلاقة هذا كله بقضية الحرية بأوسع معانيها السياسية والاجتماعية. لذلك لم يكن غريبا أن يعبر توفيق الحكيم – في لقائي الأول وحواري الجاد معه حول قضايا الفن والواقع – عما فاجأني من آراء تتناول وإن بشكل مراوغ الأثر المدمر لغياب الحرية على ازدهار المسرح، مع أن المسرح كان يعيش أحد أزهى عصوره، بوفود الجيل التالي له من كتابه من يوسف إدريس ونعمان عاشور إلى ألفريد فرج ومحمود دياب، وحتى مسرح رشاد رشدي المتحلل من أي التزام.

حَكّاء لا يُبارَى في طرافة حكاياته وتشويقها، وحسه التهكمي الساخر في روايتها، وطريقته المسرحية في تجسيدها

وإن لم يفاجئني طلبه بعدم نشر أي من تلك الآراء في التحقيق، وهو ما فسرته وقتها بأنه واقع تحت سطوة هذا العنف الرمزي الذي يكبله بقيود من حرير الامتيازات والمكانة التي أضفاها عليه الحاكم المطلق وقتها. وإن كان يبدو لي الآن بعد مرور هذا الزمن، وبعد سنوات من المعرفة الأوثق به، أنه رد الحكيم المراوغ الذي يقول فيه إن المشاركة في استطلاع بمناسبة عيد الثورة، فيه تكريس لحكمها الذي له عليه الكثير من الانتقادات والتحفظات. وأنه كما ذكر فيما سمح لي بنشره مما دار بيننا مشغول بكثير من تلك القضايا التي تشغلنا – وقد اكد وقتها تلك التي تشغل الجيل الجديد الذي أمثله، والذي لم يعرف مدى ما عاشه مثقف الأجيال التي ظهرت قبل جيلنا من حريات وحراك مؤثر في تطوير الواقع، وتلجيم أي سلطة غير شرعية. وسمح لي بأن أنشر فقط «أن كثيرا منها يلح عليه منذ فترة غير قصيرة. وأن ما يتوصل إليه بالنسبة لهذه التساؤلات من إجابات لا يطرحه في الأحاديث الأدبية أو المقدمات النظرية، بقدر ما يحاول أن يمارسه في كتاباته الفنية».

وهو هنا على حق. لأنه طرح في أعماله الإبداعية خاصة، والتي كتبها بعد الثورة، جل هذه القضايا الشائكة، وإن كان ذلك بطريقته المراوغة ضمن أطروحة الممارسة التي أشرت إليها عند بورديو، بما فيها من تضافر العنف الرمزي ورأس المال الرمزي معا. فلم يكن الحكيم – وقد بلغ الخامسة والخمسين حينما قامت الثورة، ونجح حتى ذلك الوقت في تجنب الاستقطابات السياسية – على استعداد للانخراط في مواجهة مباشرة معها، وهو يعرف ما تؤدي إليه مثل تلك المواجهة.[i] بل إنه وجد نفسه بإزاء نظام جديد، لا يسبغ عليه هالة من التقدير فحسب، وإنما ينفذ الكثير من الإصلاحات التي نادى بها، وهو أمر مربك إلى حد ما. لكنه لم يكفّ عن نقد هذا النظام بطريقته سواء في (الصفقة) 1956، أو (أشواك السلام) 1957، أو (السلطان الحائر) 1960، أو في (الطعام لكل فم) 1963، وصولا إلى (شمس النهار) 1965، أو (الورطة) 1966، و(مصير صرصار) 1966 و(بنك القلق) 1967.

عند التحاقه بـ(الأهرام) كان كل ما طُلب من الحكيم هو الوجود اليومي في مكتبه وحسب، وتحويله إلى مكان لحوار الأجيال

بعد هذا اللقاء الأول، لم أذهب إلى مبنى (الأهرام) القديم لأي سبب من الأسباب إلا ومررت على توفيق الحكيم كي أسلم عليه، و«أدردش» معه، وما أحلى الدردشة معه فهو حكاء من طراز فريد. يمتزج عنده الحكي بما هو أقرب إلى التمثيل، وتجسيد المشهد أو الموقف بالحركات والإيماءات. لكن علاقتي به سرعان ما توثقت بعد ذلك بسنوات قليلة، وخاصة بعدما انتقل الأهرام إلى مبناه الجديد – وهو المبنى الذي أفتتح عام 1969 – الذي أصبح له فيه صالون أدبي يومي مفتوح. وفي عام 1971، وبعد جريمة سهير القلماوي في إزاحة الراحل الكبير يحيى حقي بطريقة خسيسة من مجلة (المجلة) التي كنت أعمل فيها معه، وإغلاق كل المجلات الأدبية بعدها ببركات انفراد السادات بالسلطة: (الرسالة، والثقافة، والقصة، والشعر، والفنون الشعبية، وعالم الفكر، وعالم الكتب، والمسرح، والسينما)، أن طلبتني أستاذتي الراحلة الكبيرة لطيفة الزيات للعمل معها في تحرير الملحق الأدبي لمجلة (الطليعة) الشهرية، الذي اقترحته هي على رئيس تحريرها لطفي الخولي كي يسد الفراغ الذي أحدثته تلك الهجمة الظلامية،[ii] التي أغلقت المجلات. ولأن (الطليعة) كانت تصدر عن مؤسسة (الأهرام). فقد حماها ذلك لفترة من مخططات الإسلاميين بزعامة محمد عثمان اسماعيل لاستئصال الثقافة والعصف بالمثقفين.

كان الحكيم مولعًا بأن يشغل الناس بأخباره، مرة ببخله، وأخرى بعدائه للمرأة، وثالثة بحماره

وما أن بدأت العمل بهذا الملحق – الذي لعب دورا مهما في إبراز جيل الستينيات الجديد وقتها وتسليط الضوء على أعماله – حتى أخذت أتردد بشكل شبه يومي على مبنى (الأهرام) الجديد. ولأنه لم يكن لي أي مكتب به، وكانت صالة مجلة (الطليعة) بالدور الخامس مزدحمة بالمكاتب والعاملين،[iii] فإنني كنت لا أمكث في هذه الصالة غير دقائق قليلة لإنجاز ما جئت من أجله من استلام نصوص، أو تسليم أخرى للدفع بها للمطبعة، ثم أذهب إلى مكتب توفيق الحكيم المفتوح ذاك بالدور السادس. والذي كانت مساحته لا تقل، وربما تزيد، عن صالة مجلة (الطليعة) التي كان بها أكثر من عشر مكاتب. وكانت غرفة الحكيم بلا شك أرحب من مكتب كبار الكتاب المجاور له والذي كانت به أربع مكاتب خشبية فاخرة في غرفة لا تزيد مساحتها على ثلث مساحة غرفة توفيق الحكيم، وقد وضع بينها كرسي أو أثنين على الأكثر للضيوف. وهي الغرفة التي كانت بها مكاتب لكل من نجيب محفوظ – والذي كان يحضر بانتظام الموظف الأريب إلى مكتبه عقب إحالته للمعاش آخر 1971 – وحسين فوزي، وعائشة عبدالرحمن، وزكي نجيب محمود، ويوسف جوهر ثم جرى إضافة مكتب آخر بنفس الغرفة لمحمود درويش – مما جعلها أكثر ضيقا – بعدما وفد إلى القاهرة في تلك العملية الشهيرة التي خرج بها من دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. وأذكر أنني على كثرة ما ترددت على الدور السادس بـ(الأهرام) في ذلك الوقت، لم ألتق فيه إلا مرة واحدة بعائشة عبدالرحمن، ومرات محدودة بحسين فوزي، أما زكي نجيب محمود فلم أصادفه يوما في مكتبه، وإن قيل أنه يجيء لمكتبه في المساء.

صالون البساطة والتلقائية المفعمة بالدلالات:

نعود لغرفة الحكيم، فقد كان بها مكتب كبير من خشب الماهوجني الفاخر يجلس الحكيم دائما وراءه، وكأنما يعتصم به، وأمامه أكثر من مقعد مريح «فوتيه» وأكثر من أريكة، مما تخلق الإحساس بأنك في صالون أدبي حقيقي. وكان يتردد عليه الكثيرون من الكتاب والصحفيين. ويدير منه بالطبع عملية نشر أخباره في الصحف المختلفة. فقد كان الحكيم مولعا بأن يشغل الناس بأخباره، مرة ببخله، وأخرى بعدائه للمرأة، وثالثة بحماره … وهكذا. فما أن يرده خطاب من أي بلد أوروبي، يعلن عن اعتزام أي مترجم لترجمة مسرحية له، أو عن رغبة أي مسرح في عرض واحدة من أعماله، حتى يكون أول ما يفعله أن هو أن يطلب كمال الملاخ حتى يصعد إليه، كي يعرض عليه الخطاب، ويحوله الملاخ على الفور – كما هو متوقع منه – إلى خبر في صفحته الأخيرة من (الأهرام) والتي كانت تتنافس على شد اهتمام القراء مع الصفحة الأولى. وكان يلتقي فيه بأيّ زائر أو باحث يريد الحديث معه حول أعماله وهكذا.

محمد حسنين هيكل

وتحضرني هنا قصة لابد من ذكرها بمناسبة الباحثين. ففي عام 1972 تلقيت صباحا مكالمة تليفونية من طالب انجليزي ذكر لي أن اسمه: بول ستاركي[iv] وأنه يعد رسالته للدكتوراه عن الحكيم، وأن مشرفه – الدكتور محمد مصطفى بدوي أستاذ الأدب الحديث بجامعة أكسفورد – أعطاه رقم تليفوني، وقال له إذا ما واجه مشكلة أن يتصل بي كي أساعده في حلها. فسألته وما هي المشكلة. قال أنه جاء إلى القاهرة منذ أربعة أشهر في رحلة بحثية لجمع مؤلفات توفيق الحكيم وكل ما يستطيع أن يجده عنه في مصر، وقد فعل ذلك إلى حد ما، ولكن أحد أهم أهدافه من الزيارة، وهو مقابلة الحكيم وطرح عدد من الأسئلة عليه، لم يتحقق، فقد كتب له حتى الآن أربع رسائل يطلب فيها موعدا، ولكنه لم يتلق أي رد، ولم يبق له في زيارته إلا أقل من شهرين، فهل يمكنني مساعدته في رؤية الحكيم. فقلت له بالطبع! قابلني ظهر اليوم وسآخذك إليه، فلم يصدق أذنيه، واستعاد الأمر فكررته عليه. وحددت له موعدا ومكانا قريبا جدا من مبنى (الأهرام). وكنت وقتها أتردد على (الأهرام) بشكل شبه يومي كما ذكرت. ولقيته في الموعد المحدد، وأنا في طريقي للأهرام، وصحبته معي إلى مكتب الحكيم وقدمته له. وما أن سأله هل تلقيت ما بعثت لك به من رسائل متتابعة أطلب فيها لقائك؟ حتى رد عليه الحكيم بنعم! فسأل: ولماذا لم ترد عليّ؟ فرد عليه الحكيم ردا لم انسه حتى اليوم: لو كنت جادا في لقائي فستجد طريقة غير طريقة الرسائل تلك، وها أنت قد فعلت! وغرقنا جميعا في الضحك.

طرح في أعماله الإبداعية خاصة، والتي كتبها بعد الثورة، جل هذه القضايا الشائكة، وإن كان ذلك بطريقته المراوغة

فقد كان الحكيم يتمتع بحس فكاهي مدهش وحضور بديهة لا يباريه فيها إلا نجيب محفوظ. وكان حسب التعبير المصري الجميل «دمه خفيف»، ولكن دون أن تخلو تعليقاته الساخرة من دلالات عميقة في أغلب الأحيان. وكأني به كان يقول له: لقد تركتك كي «تتمرمط شوية» وتعرف مصر وتخبر مسالكها المغايرة لمسالك أوروبا ومنطقها. وسمح له بعدها أن يتردد عليه «براحته»، أي عدد من المرات حتى يكمل ما يحتاجه منه. وكان يسمح له إن أراد أن يبقى حينما يهلّ عليه الزوار، وتتحول غرفته إلى صالون ثقافي مفتوح، علّه يتشبع ببعض المناخ الثقافي المصري. كان الحكيم لا يكرس ساعات بقائه في المكتب إلى إنجاز ما هو مطلوب منه للعمل، ثم يحول الزمن الباقي لتصريف أعماله الثقافية العامة – كما كان الحال مثلا مع نجيب محفوظ أيام إدارته لمؤسسة السينما – ولكنه كان يحوله إلى صالون مفتوح لحوار الأجيال من ناحية، وللنقاش في الشأن الثقافي العام وما يدور فيه. فنحن نعرف الآن – وبعد أن كشف هيكل في مذكراته عن طبيعة العقد الذي قدمه بشارة تكلا للحكيم[v] عند التحاقه بـ(الأهرام) – أن ما طُلب منه من عمل هو الوجود اليومي في مكتبه وحسب، وتحويله إلى مكان لحوار الأجيال. وقد فعل الحكيم ذلك باقتدار وعذوبة. فقد كان من أبناء زمن تقدير العمل وأخذه بجدية، حينما كان العمل – الحكومي منه وغير الحكومي – يوفر حياة كريمة، وقبل أن يهلّ علينا الزمن الرديء، زمن «الفهلوة» وعدم احترام العمل. وقد ألتزم بما طُلب منه، وحوّل غرفته إلى ساحة لحوار الأجيال، وصالونا مفتوحا للجميع.

وكانت زيارته متعة حقيقية، لأن توفيق الحكيم، فضلا عن «خفة دمه» التي يجمع عليها كل من عرفه، حَكّاء لا يُبارى في طرافة حكاياته وتشويقها، وحسه التهكمي الساخر في روايتها، وطريقته المسرحية في تجسيدها وكأنها تدور أمامك من جديد على مسرح جلسته. وكان أكثر ما يميز هذه الحكايات على تنوع موضوعاتها، هو استرساله فيما أود تسميته بالحكايات الاعتراضية، على غرار الجملة الاعتراضية التي يمتد بعدها السياق الذي بدأ قبلها. فبينما يكون الحديث دائرا في موضوع ما يشرع الحكيم في فتح حكاية اعتراضية، قد تستمر لدقائق معدودة، أو قد تطول لما يقرب من ربع الساعة. وما أن ينتهي من تلك الحكاية الاعتراضية حتى يعود إلى النقطة التي ترك فيها السرد قبل بدايتها. بجملته الشهيرة نرجع بقى للسبب الذي ذكرت من أجله تلك الحكاية. وكان يدهشني أنه لا ينسى أبدا أن يعود إلى الموضوع الأصلي الذي تتفرع منه تلك الحكايات، أو بالأحرى الذي قام بترصيعه بما لديه من زاد وفير من الخبرات والذكريات. ولكنه وهو يفعل ذلك – مهما كان تشويق الحكاية الاعتراضية وأهميتها – فإنه لا ينسى بحس الكاتب المسرحي الحقيقي، أن لكل ما يظهر على المسرح دورا وتعِلّة. ولذلك يكون رجوعه لما تفرعت عنه تلك الحكاية الاعتراضية في الحديث، تأكيدا لدورها فيما كان يدور من نقاش، حتى ولو بدا للبعض أنها مستقلة بذاتها، ويريدون الاسترسال في استطراداتها الممتعة عوضا عن المتن الأصلي الذي انبثقت منه، ولكنه كان واعيا بضرورة كبح هذا الاستطراد للعودة إلى الحكاية الأصلية.

وحينما أفكر الآن في تلك الخاصية التي سميتها بالحكايات الاعتراضية التي أدهشتني في تلك السنوات البعيدة في الستينيات وأوائل السبعينيات، مع أنني أذكر جيدا استمتاعي الشديد بها في ذلك الوقت، لما كانت تفتحه عادة من آفاق، فإني أشعر الآن بأنها لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن طريقة الحكيم المراوغة في تمرير الكثير مما كان لا يستطيع التعبير عنه بشكل مباشر. خاصة وأنني أذكر بوضوح أنه كان كثيرا ما يعود إلى أيام باريس، وما أحلى أيام باريس: سواء في ألقها الأول في سنوات البعثة والتكوين، أو في مرحلتها الثانية حينما ذهب إليها مندوبا لمصر في مؤسسة «اليونسكو». وكأنه كان يقيم أيام باريس تلك، مرآة نرى فيها ما يدور حوله الحديث من زاوية مغايرة. كثيرا ما كانت مغايرتها تفوت على الكثيرين من الحاضرين، وهم يستمتعون مثلي بما يكشفه لهم مما لا يعرفونه عن باريس. لكن ما لاحظته وبقي في ذهني من تلك الإحالات المستمرة إلى أيام باريس، أن الحكيم كان شديد الولع بالعودة إلى أيام الطلب في باريس عشرينيات القرن الماضي، وما فيها من حرية واستكشاف لعوالمها الفنية الساحرة. بينما كان لديه شيء من التحفظ على تجربته الثانية في باريس حينما ذهب إليها مندوبا لمصر في اليونسكو في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.

—————————————

[i] فقد رأي الكثيرين من أبناء الجيل اللاحق له من لويس عوض ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وحتى يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي يرمون في السجون بعد أقل من عامين من اندلاعها.

[ii] كانت هيئة تحرير هذا الملحق والتي رأستها أستاذتي الجليلة، لطيفة الزيات – وهي واحدة من القلائل الذين تعلمت منهم الكثير أثناء دراستي العليا للمسرح في معهد الفنون المسرحية – تتكون من سمير فريد وغالي شكري وأنا، ثم رحل غالي شكري إلى بيروت، وبقينا نحن الثلاثة، حتى وفد محمود درويش إلى القاهرة، فانضم إلى تلك الهيئة، وإن لم يلتحق بالعمل فيها بشكل حقيقي، وآثر البقاء في غرفة كبار الكتاب التي ذكرتها.

[iii] كانت غرفة مليئة بحق بالمكاتب المعدنية الصغيرة لكل من ميشيل كامل، وأبوسيف يوسف، ورفعت السعيد، وحسين شعلان، وخيري عزيز، وأمينة شفيق، وعبدالقادر ياسين، وغالي شكري، وغيرهم مما لا تسعفني الذاكرة بأسمائهم.

[iv] أكمل هذا الطالب فيما بعد رسالته للدكتوراه عن الحكيم وصدرت في كتاب باللغة الانجليزية هو Paul Starkey: From the Ivory Tower: A Critical Study of Tawfiq Al-Hakim (London, Ithaca Press, 1987), pp. 260.

[v] يحكي هيكل أنه حينما عرض على توفيق الحكيم العمل بالأهرام لم يصدق الحكيم شروط العقد: وسأل «يعني حا آخد ماهية كبيرة علشان أقعد بس في (الأهرام) قلت له: فعلا: يعود ليسألني: وانت تستفيد إيه من الشغلانه دي؟ قلت له: كل ما أريده منك هو البقاء في (الأهرام) والحضور إليه والجلوس فيه. تلتقي مع شباب جديد من الممكن أن يستمعوا إليك وانت تتكلم، ويستفيدوا منك ويتناقشوا معك، وذلك بالدرجة التي تريدها أنت. … كل المطلوب منك أن تكون متواجدا فقط. … تجلس مع حسين فوزي مثلا أو مع نجيب محفوظ أو يوسف إدريس الهدف من وراء هذا هو وجود أجيال وحوار أجيال، ووجود حركة في الواقع الثقافي وتواصل وحوار بين الأجيال المختلفة في مصر.» راجع: (محمد حسنين هيكل يتذكر: عبدالناصر والمثقفون والثقافة)، ص 322.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى