الريادة التنويرية لفرنسيس مراش

في بؤرة التنوير في القرن التاسع عشر، أي في حلب: هي ذي المكتبة المراشية التي سارت بذكرها الأنباء. لكن فرنسيس مراش يقول ليس فيها غير “مطولات مما يفيد في نظم الشعر وحسب، ومختصرات في النحو والصرف وما يلحقها”.

إنها مكتبة فتح الله مراش، والد فرنسيس. وهذه شقيقته مريانا (1849 – 1919) التي علمها أبوها وأخوها، كما تعلمت في مدرسة الراهبات الحلبية وفي المدرسة الإنجيلية البيروتية، وكانت تتقن الغناء والعزف على البيانو والقانون. ومريانا هي الشاعرة صاحبة الديوان الأول لامرأة في العصر الحديث (بنت فكر)، وهي الكاتبة في جريدتي (الجنان) و(لسان الحال) البيروتيتين، وصاحبة (كتاب تاريخ سوريا الحديث). وقد زارت مريانا فرنسا وقرأت لفرانسوا رابليه وألفريد دي موسيه وسواهما، وشاهدت الصالونات الأدبية، واسست في حلب الصالون الأدبي الأول.

وهذا عبد الله مراش (1839 – 1899) شقيق فرنسيس الأصغر الذي حرر مع أديب إسحاق جريدة مصر، وأصدر جريدة (كوكب الشرق) في باريس، وكان يقول بـ (حقوق بني آدم)، وهي بلغة زمننا: حقوق الإنسان.

تلك هي أسرة فرنسيس مراش (1836 – 1873) صاحب الروايتين الرائدتين (غابة الحق – 1860) و(درّ الصَّدَف في غرائب الصُّدف – 1872) والاسم المبرز في حلقة مدينة حلب من حركة التنوير العربية في القرن التاسع عشر.

مريانا مراش

إنه –بعبارة جابر عصفور– واحد من العقول الاستثنائية التي حلمت بالنهضة، وسعت إلى تأسيس الحضور المحدث للمجتمع المدني. وقد درس الطب وزار فرنسا وأصابه العمى. وكان الخطاب التنويري الفرنسي مرجعًا له وللخطاب التنويري الحلبي بعامة، كما يرى محمد جمال باروت، معددًا من المصطلحات المفتاحية لهذا الخطاب: التمدن والحرية والمحبة والمساواة والحق الطبيعي والتنوير.

من الأفكار التي نبضت بها مؤلفات هذا الشاب أن العر ب (جنس)، أي أمة يجب أن تتحول إلى هيئة اجتماعية، وذلك للتخلص من الملل والطوائف والقبائل. وفي روايته الأولى (غابة الحق) أكد على أن مجتمع مملكة التوحش والعبودية تحكمه الطائفية والمللية والأقوامية والقبلية، فهل هذا مجتمعه قبل أكثر من قرن ونصف، أم هو مجتمعنا في القرن الحادي والعشرين؟ ويمضي فرنسيس مراش إلى أن الرابطة الوطنية هي الأساس الأول للتمدن، ولمجتمع مملكة التمدن والحرية. وهذا المدنيّ الأقليّ يخاف من (الثورات)، وبتعبير عصره: انتفاضة “العاميات الفلاحية والقوميات الحضرية”، إذ يرى أنها نتاج التكوين الفسيفسائي ما قبل التمدن، كما يرى أن الإفرنج (الغرب) يستغلون هذه الثورات ليتوسعوا، وهؤلاء الأجانب هم الخطر الأكبر.

يَعتبر مراش العرب جنسًا، أي أمة يجب أن تتحول إلى هيئة اجتماعية، وذلك للتخلص من الملل والطوائف والقبائل

تمور رواية (غابة الحق) شأن كتب فرنسيس مراش الأخرى – وبينها ما هو سردي أيضًا – بالأفكار. ففي هذه الرواية يتولى الدفاع عن الـ 99% من المجتمع، أي عن الفقراء، ويرى أن السياسة والسيادة والشرائع نتاج الغلبة، أي تغلب الناس بعضهم على بعض، مما أنتج التملك والملكية، فهل صاحب هذا القول ماركسي، وهو من ولد بعد ماركس ومات قبله؟

يتحدث فرانسيس مراش عن مفهوم الصالح العام الذي يتصادى مع مفهوم جان جاك روسو للخير العام. ويحدد مراش أركان الصالح العام بالتعليم وقوننة التجارة وصون الملكية والأرواح والكرامة، وبالصناعة والزراعة. كما يدعو إلى حق الاقتراع العام، وإلى حق الجميع في قاعات السياسة والندوة البرلمانية. وإذا كان قد رفع شعار (كل الأنام سواء) فقد شخّص في عالمه أن السياسي قادم من أصل كريم وموسر، وأن الأغنياء هم القوة الوصلة، ومن يوصلهم هم آلة الوصل: الفقراء.

عبدالله مراش

كتب فرنسيس مراش سبعًا وعشرين صفحة تحت عنوان (رحلة باريس). وتبدو السردية فيها سماء تتبارى فيها الشهب: العالم سوق، أولوية المال، الزمان حارس العالم، وحارس السوق هو ذلك العفريت الجهنمي المدعو: الزمان، أنانية بعض الناس ونرجسيتهم، الغرب شمس يدور حولها فلك العالم البشري. وقد كتب مراش قبيل موته في قصيدة (العرب والإفرنج) من ديوان (مرآة الحسناء – 1873) أن، الغرب لص. ويذهب إلى أن مدنية الغرب ليست غير نتاج الحضارة العربية، وبخاصة الأندلسية منها. وهذه المدنية هي نتاج تقدم العقل. لكن هذا لم يمنع مراش من أن ينعت الغرب بأنه قوم من الأوباش، وأنه طاغوت كاذب لا صديق له، وفضائله تتلخص بالحروب، وبدفع الناس إليها.

من أفكار مراش التي لا تزال معاصرة أن لا تناقض بين العلم والإيمان، ولا بين العقل والروح. وهو يؤكد على البداية الطبيعية للكون، وعلى موضوعية المادة وقوانينها الحتمية، وعلى خلودها. كما يميز بين حتمية – عبودية القانون الطبيعي، وبين نظام الهيئة الاجتماعية، أي القانون الاجتماعي الذي يتصف بالحرية والمساواة، ويقوم على العقد الاجتماعي.

تتألق السيرية في سردية رحلة مراش الباريسية (1867)، فهو يصف ما بين حلب و(قرية) اسكندرونة السورية التي صارت في تركيا منذ 1939، وإذا باسكندرونة “مبصقة للبحر أو مداس للدهر”، وهي جامعة كل نتائج الذل والدناءة، نظير أحط القرى. وكل عار اسكندرونة على تجار المدن المجاورة الذين شجعتهم الدولة على أن يجعلوها ميناءً.

بعد ثلاث ساعات من الإبحار من اسكندرونة، يكتب مراش: “عانقنا باع اللاذقية. ولما كان الولوج في مرساها مساءً، فلم يمكنني الهبوط إليها لأشفي شوقًا قديمًا إلى سكانها الشهيرين بالدعة وكرم الأخلاق ورقة المعشر”.

تَمور روايته «غابة الحق» بالدفاع عن الفقراء، فهل صاحب هذا القول ماركسي، وهو من ولد بعد ماركس ومات قبله؟

من اللاذقية يتابع (الرحالة) إلى القرية الهاربة من العالم على قدم الخراب والهبوط: يافا. ومن يافا إلى المدينة القائمة على ساق التجدد “وقد أوشكت أن تنضم إلى صف مدن أوروبا، ولذلك دعوتها تاج المشرق وعنوان المغرب”. أما القاهرة قلم يعثر فيها على ما يستحق الذكر سوى خزانة التحف المصرية وجامع القلعة، بينما الأسواق “ليس أقبح منها في شدة ضيقها وأوخامها”. ومن الطريف اللغوي في رحلة مراش الباريسية أن القطار هو نسر البخار، وباشق البخار، وطائر النار، والمركبة الطائرة على أجنحة البخار. أما الآخر/ فرنسا فلها قول آخر:

ليون: غابة الجمال والكمال، وقد جمعت فن المقومات المدنية والأدوات التمدنية، وهي “محط عرش ملوك الإفرنسيس أجيالًا متعاقبة”. وباريس هي مصب أنهار العجائب، وموقع أنوار التمدن والآداب، ومركز مجد العالم وأعجوبته، قد أصبحت عروسة لجميع مدن المسكونة، وشمسًا يدور حولها فلك العالم البشري. إنها مدينة لا حد لمدنياتها ولا قرار لعظماتها.

جان جاك روسو

في سنة 1870 جاء فرنسيس مراش بكتابه (مشهد الأحوال). وبلا مقدمة، وبلغة سجعية، ابتدأ بالكون، فرسمه وجودًا لا حد له ولا مدى، وبدءًا ليس له ابتداء. وخوّض مراش بظهور العوالم الكروية من شموس وكواكب، وبالحرارة والضوء، وبالملاحم الكونية، ونور الاحتراق الخلاق. وتلا حال الجماد، فحال النبات، فحال الحيوان، فحال الإنسان الذي تفتق إلى حال الرجل، فحال المرأة، فحال الطفولية، فحال الشبوبية، فحال الشيخوخة، فحال العيلة (الأسرة) فحال الهيئة الاجتماعية، فحال البلاد، فحال الشرق. وفيما يخص الهيئة الاجتماعية كان مراش قد تحدث عن عقد الهيئة الاجتماعية كعقد سياسي بين السلطان والشعب. ويختلف هذا العقد عن العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو، حيث العقد ليس اتفاقًا بين رئيس ومرؤوس، بل اتفاق الهيئة السياسية مع كل عضو فيها، أي اتفاق مبرم بين أفراد الهيئة الاجتماعية.

من حال الشرق إلى حال العالم تقدم مراش في (مشهد الأحوال)، وتابع إلى حال الجهل، فحال التمدن، فحال المال. وهنا أدار حوارية بين الغني والفقير، ثم الحرب، فحال السلم، فحال الحب، فحال البغض، فحال الجمال، فحال الحيوة (الحياة) الذي ينقسم إلى العمل والملل والأمل والصحبة، وأخيرًا: الحال الثلاثون: حال الموت. ويختم مراش كتابه هذا بـ (في الحقيقة) حيث يبلغ التفريع والتصنيف أقصاه، فإذا الحقيقة طبيعية، وأدبية. وفي الطبيعة تأتي الحقيقة الطبيعية الأصلية، والفرعية، والفاعلية، والانفعالية، واللازمة، والمتعدية، والذاتية، والنسبية، والآلية، والعضوية، والجوهرية، والعرضية. ومن هذا كله في الحقيقة الطبيعية ينتقل إلى الحقيقة الأدبية الوجودية التي هي تصورات العقل، وتتفرع إلى العدمية، والأصلية، والفرعية، والحقيقة، والمجازية.

لفرنسيس مراش أيضًا كتاب (شهادة الطبيعة في وجود الله والشريعة). ويبدو بجلاء الأثر الإسلامي في الكتاب والأثر اللغوي التراثي. ومما في الكتاب أن التعمق في الأبحاث الطبيعية وحده أفضى بكثيرين إلى إنكار الوجود الإلهي. ويوقف مراش الفصل الثاني على الدلالة على وجود الله من الأجرام الفلكية، ثم، فصلًا تلو فصل: الدلالة على وجود الله من (شرايع الطبيعة، ثم الدلالة على وجود الله من عالم النبات، فمن عالم الحيوان. والحيوان هو الإنسان هنا. والكاتب هنا هو الطبيب الذي يتحدث عن القلب والدماغ والأعصاب والرئتين والأذن والأضلاع. وقد عَنْون الفصل السادس بـ ((في أنه لا بد من وجود نفس خالدة للروح)).

أديب إسحاق

وعَنْون الفصل السابع بـ: ((في أن الديانة صفة غريزية للإنسان، ويلي: في أن الوحي هو أمر لازم من الله للإنسان)). وقد أخطأ مراش في الفصل السابع حين ذهب إلى أن أمريكا كانت خالية خلوًا تامًا عن كل روح تمدّن.

لم يكن مراش فقط روائيًا أو مفكرًا أو طبيبًا، بل كتب الشعر أيضًا، فجاء ما كتب موسومًا بما كان يسم الشعر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومما كتب أثناء وجوده في باريس، يكويه الحنين إلى حلب الشهباء وإلى نهرها:

يا منقذًا أيوب من بلوائه

بالصبر فانقذني من البلواء

وكذاك أرجوه يمنّ عليّ أن

أطفي بماء (قويق) حر ظمائي

وأعاف نهر السين فهو لذي الظما

ملح أجاج معطش الأحشاء

فأنا إلى حلب أميل صبابة

أبدًا وإن أك في سما الدنياء

وقد كتب الشعر في المديح، وفي معارضة الموشح الشهير (جادك الغيث إذا الغيث هما)، وكتب ما أشبه قصة شعرية عن المرأة الفرنسية التي بادرت الشرقي الخجول في غابة بولونيا:

وبدتْ تغازاني وقالت: كل ما * يُبنى على أسّ الهوى نعم البنا

فتخذت مركبة وسرنا سرعةً * نسعى إلى حرشٍ ببولونيا اكتنى

غابٌ بها الغزلان ترتع والمها * ترعى فلا وحش ولا غيلٌ هنا

وكذا من السين المياهُ جرين لا * من ذوب ثلج في الجبال تمكّنا

ومن ألق حضور الآخر/ المرأة الفرنسة في شعلر مراش قوله:

 

لكل نهدٍ كالعاج والمرمر المنحو * ت مستكمل الخلق نافرْ

وقوام كأنه صدم الأسرار * يوحي بعشقه للسرايرْ

وعيون سود على البيض تسطو * بانكسار يسبي الأسود الكواسر

ووجوه يسفرن عن كل حسْن * فبروحي تلك الوجوه السوافر

وفي هذه القصيدة نفسها تتجلى إشكالية وعي الذات ووعي الآخر، وبعبارة ذلك العصر: وعي الشرق ووعي الغرب:

 

ليت شعري متى أرى في بلادي * كوكب العلم والمعارف سائرْ

فرجال لا يعلمون سوى صوف * وقطن وسمسم وحراير

ونساء يبحثن لكن على ثو * بٍ وقرطٍ وخاتم وأساور

وإذا الجهل عمّ بين قوم * أصبح العلم عندهم كمساخر

على أن، مراش لا يهدأ على حال، فقصيدته بالمقابل ترمي الغرب شررًا وحجرا وهو يناديه: يا بني حمالة الحطب، ويناديه: يا أمة اللجب:

حتى م تزرون يا إفرنج بالعرب/ مهلًا فلا خير بابن قد زرى بأب

إن كان بالعلم جئتم تفخرون فمن/ معالم العرب كل العلم والأدب

تذكروا ما غنمتم يوم ندوتكم/ في أرض أندلس من تلكم الكتب

فلا صديق لكم غير النضار ولا/ خلّ سوى الفضة البيضاء واليشب

ولا وفاء ولا عهد ولا ذمم/ ولا حنوّ ولا عون لمنتكب

تبارك الله إن الشرق همّ إلى/ رأس المدار وهمَّ الغرب للذئب

ومن غزلياته أيضًا:

وجه سعدى البادي على النهدين/ قمر ينجلي على كوكبين

وقال:

ماستْ فأبقت حسرةً في العود/ وسرتْ فأزرى عرفُها بالعود

وقال:

خطرت كغصن بانٍ غادةٌ/ تبدي هلالًا من خلال إزار

ومن قصائده الغزلية: لسان العشق – غلبة الغرام – علامة الشوق … وقد كان للشعر نصيب كبير من كتاب (مشهد الأحوال).

وفي هذا الشعر ما جاء قناة لتصريف فكرة بعينها كما في قوله:

 

ما الحيواة وما هذي الجسوم وما/ هذا القيام وما الدنيا وما الحقب

طبيعة تحت لمح الوهم تظهر في/ شكل الوجود ظهورًا كله عجب

وللوجود قوى تدعو عناصره/ إلى اجتماع به الأجسام تُكتسب

وما العناصر من حيث الكيان سوى/ روح الفراغ وهذا مذهبي الذهب

من أفكار مراش التي لا تزال معاصرة ألّا تناقض بين العلم والإيمان، ولا بين العقل والروح

لم يكن فرنسيس مراش شاعرًا مهمًا شأن أقرانه في القرن التاسع عشر، حيث كان المفكر يرسل القول في الشعر أيضًا على سنن معاصريه. لكن فرنسيس مراش كان رائدًا تنويريًا بامتياز في كتاباته السردية والفكرية، وكل ذلك في عمر قصير وشباب ما كاد أن يبرق حتى انطفأ البرق جسدًا، لكن بريق كتابته لا ينطفئ.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى