هل لدينا ما نمنحه للعالم اليوم؟

عنا، عن هويتنا الثقافية، وما نستطيعه

إذا كانت الهوية الثقافية هي الملامح أو السمات الفارقة لثقافة ما عن غيرها من الثقافات، بما يجعلها تتميز عن سواها من معارف متجاورة ومتداخلة ومتشعبة.. فإن السؤال المطروح الآن: ماذا تمتلك الثقافة العربية من ملامح تحدد أبعاد هويتها بما يجعلها قادرة على امتلاك مكانة متميزة بين الحضارات والشعوب التي تعتز بهويتها؟.

والإجابة المتعجلة المنساقة وراء التداول اليومي وثقافة القشور، ستجيب بانتفاء وجود هذه العناصر، أما الإجابة الواعية المحتكمة إلى الدراية بعمق وجوهر هذه الثقافة، والتي لا تخضع للأحكام الجاهزة وفكر ما بعد الاستعمار وحروب الأجيال الرابع والخامس والسادس وفلسفات التفكيك والسيولة، فإنها ستستطيع الوقوف على عديد من العناصر الفاعلة التي تشكل هوية الثقافة العربية وما تزال ممتلكة لقدرتها على المواصلة والإنتاج الآن.

غير أن الاحتراز الأول الذي يجب وضعه في الاعتبار، هو أن الهوية العربية – كغيرها من الهويات- ليست أحادية وليست خالصة أو نقية تماما، وإنما هي ممتدة الحدود ومتشابكة مع روافد تاريخية أصيلة وحاضرة ينتمي بعضها إلى الثقافة العربية، وأخرى واردة انتقلت بفعل التأثير والتأثر مع الحضارات والثقافات غير العربية، قديما وحديثا (حضارات اليونان والهند والصين والفرس والترك والغرب)، وبالتالي فإن الهوية العربية سيندرج تحتها العديد من السمات المتشابهة فيما بينها، أو المتشابهة مع هويات أخرى، كما ستندرج تحت الهوية الرئيسة هويات فرعية، وداخل كل منها هويات فرعية عن الفرعية، وهكذا.

الهوية العربية ليست أحادية وليست خالصة أو نقية تمامًا، وإنما هي متشابكة مع روافد عربية تاريخية وحاضرة، وأخرى واردة

فمثلا الهوية الثقافية العربية ـ على مستوى الدين- تندرج تحتها هويات إسلامية ومسيحية، وكلتاهما تندرج تحته هويات شعوب (إفريقية وآسيوية)، وداخل كل شعب تأتي هويات تنتمي إلي الأقاليم المكانية والجغرافية (بيئات ساحلية، وصحراوية، وحضرية، وريفية)، والسلسلة لاتنتهي.

وبالتالي فإن أي معالجة لهذا الموضوع تنطلق من البحث عن الهوية الخالصة أو النقية، فإنها محكوم عليها بالفشل من البداية، فالهوية لم تكن يوما نقية نقاء مطلقا في أية ثقافة أو لدى أي شعب، وإنما على الدوام هناك ملامح عامة وقواسم مشتركة يمكن الوقوف عليها في أي إقليم (منطقة جغرافية، دولة، وطن) وتحت هذه القواسم تأتي خصوصيات فرعية لايمكن إغفالها أو تجاهل أمرها، لأنها غالبا ما تكون هي المنمنمات التي شكلت هذا الكل الأكبر وإن بدا ظاهرا أنها لا علاقة واضحة تكشف عن دورها.

ماذا نملك في واقعنا العربي؟

هل يتبقى لنا شيء – نحن العرب- نملكه الآن لنساهم به في مجتمع المعرفة وننتجه في أشكال معاصرة تستطيع أن تتمثل أبعاده ومحدداته وضوابطه؟

ألم يتجاوزنا الزمان بما أوجده من لغة تداول معاصرة، وتقنيات وأدوات إنتاج لا وجود لنا في عالمها، أو لا وجود لها في ثقافتنا؟

الحقيقة أننا نمتلك، ونملك الكثير مما يستطيع أن يصنع هوية حاضرة، ويجعلنا نحقق مستويات من التطور، ونسهم في الخطاب الإعلامي الجديد، غير أننا نحتاج أولا لرصد أبعاد ما نملك، وتوجيه مساراته ثانيا، والبحث عن الصيغ والجهود الداعمة التكاملية لإنتاجه وتبنيه من قبل الشعوب ثالثا.

هل يتبقى لنا شيء -نحن العرب- لنساهم به في مجتمع المعرفة وننتجه في أشكال معاصرة تستطيع أن تتمثل أبعاده ومحدداته وضوابطه؟

أولا- رصد أبعاد ما نملك:

يحفل التراث العربي بشقيه المادي وغير المادي بما يمكن العمل عليه لإعادة إنتاجه في حاضرنا، ومما سيحتاجه العالم، وبخاصة لو توجهنا إلى رصد كل ما يتضمن أبعاد الهوية الثقافية، أي تلك العناصر التي لا تتكرر في ثقافات أخرى (العناصر السبع السابقة)، ثم انتقلنا بها للاشتغال عليها من منظور:

  • الصناعات الثقافية:

والتي عرفتها اليونسكو على أنها: “الصناعات التي تنتج أعمالا فنية وأعمالا مبتكرة، سواء أكانت ملموسة أم غير ملموسة، ولها القابلية لتحصيل مردود مادي من خلال استغلال المخزون المعرفي والقيم الثقافية، سواء في المجالات التقليدية أو الحديثة”.

أي أن هذه الصناعات لابد أن تشتمل على مضمون ومعنى اجتماعي وثقافي وأن تكون لها جذور تراثية.. وتوضيحا لذلك يمكن التطبيق على منتجاتنا العربية العديدة، المادي وغير المادي (الشفاهي وغير الشفاهي)..

فإلى الشفاهي المسموع يمكن أن تنتمي: الأغنيات الشعبية العربية المرتبطة بطقوس الاحتفال، والعمل الجماعي، والولادة والموت، والأناشيد الدينية، وترانيم الحزن والفقد، وفنون القول الشعبية، والسير والمغازي والأمثال الشعبية….إلخ من عناصر يطول حصرها، ويهتم بها العالم، وترعاها المنظمات الدولية (وعلى رأسها اليونسكو).

وإلى البصري (المشاهد المرئي)، يمكن أن تنتمي عروض الأراجوز، وفن العازي، ورقصات الدبكة، ودق الطبول، والدفوف، وكذلك كل أشكال الميديا المرئية (مسرح، سنيما، تليفزيون، عروض متجولة) الناتجة عن هذه الصناعات، مثل سلاسل الأفلام الخاصة بألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والسير الشعبية … إلخ.

وإلى المادي الملموس يمكن أن تنتمي كل أشكال العمارة وأدوات الحياة التي يستعملها العربي بدءا من استيقاظه في الصباح، ومرورا بملابسه وأدوات عمله، وانتهاء بفراشه ونومه، حيث تأتي هذه الأدوات مرتبطة بالبيئة واحتياجاتها، وشيئا فشيئا أصبحت لها فنونها، وتحولت إلى صنائع وحرف يدوية لها أسرار صناعتها وجماليات إنتاجها التي تحتاج إلى توثيق وإنتاج بمفهوم “إنتاج المحتوى” المعاصر، أي إنتاجها كتابيا ومرئيا وصوتيا…. بكل أشكال الإنتاج المتاحة حتى الآن.

التراث العربي حاضر في أشكال الإنتاج المعاصرة للعلوم، في أطروحات ابن سينا، وأبي إسحاق البيروني، وأبي حيان التوحيدي، والخوارزمي، وعلاء الدين ابن النفيس، وغيرهم

هذه العناصر وغيرها تمثل مدخلا مهما من مداخل الإسهام في صناعة الإعلام المعتمد على إنتاج المعرفة بالمحددات والضوابط المتعارف عليها الآن فيما يسمى “صناعة المحتوى”.

ثم يأتي بعد ذلك بحث أساليب دعم البحث العلمي والأفكار الابتكارية، والتوجيه نحو استثمار هذه المعرفة لتداولها عالميا عبر خطاب إعلامي يحتاج ويستوعب كل ما هو جديد في عالم المعرفة والمعلومات، إضافة إلى أنه يحقق الربحية والمكانة من جهة أخرى، وتجارب الدول في ذلك عديدة (ماليزيا وفنلندا وسنغافورة التي استطاعت عن طريق إنتاج المعرفة أن تغير من مكانتها عالميا) بخلاف الصين التي احتلت مكانة في اقتصاد الخمس دول الكبرى في أقل من نصف قرن لأنها أدركت دور وأهمية البحث العلمي والمعرفة، وكل ما سبق يتضح عند وضعه في مقارنة مع آلاف الأبحاث والدراسات العربية حبيسة الأدراج التي لم يتم استثمارها محليا أو دوليا حتى الآن، وتراجع الاهتمام بالعلم والعلماء بشكل عام.

تتبقى قضية أخرى لها أهميتها في هذا السياق، وهي لغة الإنتاج التي سيتم الاعتماد عليها، وهي قضية لها بعدان أيضا، أحدهما يتعلق بلغة الإنتاج الثقافي المقروءة والمتداولة (اللغة بوصفها تواصلا)، وثانيهما سيتعلق بتكويد اللغة والانتقال بها إلى اللغويات الحاسوبية (على نحو ما سيرد).

  • منجز العلوم التجريبية:

يتصور البعض أن العلوم التجريبية ترتبط بنتاج المعاصرة فقط، وأنه قد أهيل التراب على كل ما هو موروث، وبخاصة إذا تم القياس على تطور علوم الفيزياء، والفلك، والرياضيات، والكيمياء، والطب، وغيرها.

غير أن البحث العلمي يكشف ويؤكد على أن التراث حاضر في أشكال الإنتاج المعاصرة لهذه العلوم، وبخاصة التراث العربي، إذ ما تزال حاضرة حتى اليوم نظريات وأطروحات: ابن سينا، وأبي إسحاق البيروني، وأبي حيان التوحيدي، والخوارزمي، وعلاء الدين ابن النفيس، وغيرهم ممن وضعوا الأسس النظرية للعلوم التطبيقية، ومما نتفرد به حتى يومنا هذا (علم الموسيقى مثلا، والمقامات العربية، ومقاييس الألحان والأوتار…. إلخ)، وهو مما تتفرد به الثقافة العربية من جهة، ويتم تدريسه في معاهد الموسيقى العالمية من جهة ثانية.

أي باحث يمكنه أن يحصل على وثائق وبيانات ومعلومات من المكتبات العالمية في حين تواجهه الكثير من العقبات في بلدان الوطن العربي بسبب عدم وجود القوانين الضابطة في المكتبات الوطنية

وليس علم الموسيقى وحده هو الذي يمكن الاشتغال عليه، وإنما هناك الكثير من منجزات العلوم العربية التي ما تزال صالحة للتداول اليوم.

  • المخطوطات والكتب:

والتي لم تزل حتى الآن يحكمها فكر التخزين والمحافظة عليها، بوصفها كنوزا، وليس بوصفها أدوات إنتاج، ولم تزل قوانين إتاحتها في الوطن العربي بحاجة لتنظيم، ليتمكن الدارسون من استخراج ما فيها من كنوز معرفية، ولابد من الاعتراف بأن أي باحث يمكنه أن يحصل على وثائق وبيانات ومعلومات من المكتبات العالمية في حين تواجهه الكثير من العقبات في بلدان الوطن العربي بسبب عدم وجود القوانين الضابطة في المكتبات الوطنية. وهي كثير، حيث يمتلك الوطن العربي عددا من المكتبات العريقة التي قامت بدور فاعل عبر الثقافة العربية ومنتجها، إضافة إلى المكتبات الضخمة الحديثة، ولعل أهمها:

  • مكتبة الإسكندرية، بمصر، والتي أنشأها الإسكندر الأكبر قبل حوالي 2300 سنة، ثم أعيد افتتاحها عام 2002.
  • المكتبة الوطنية الجزائرية، والتي أنشئت 1835.
  • دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، والتي أنشئت منذ عام 1859 في عهد الخديو سعيد، وافتتحت عام 1860 في عهد الخديو إسماعيل، وتحوي ما يزيد عن 59 ألف مخطوط.
  • مكتبة الأزهر الشريف، والتي تم تأسيسها عام 1897، وتضم مكتبة مخطوطات ضخمة تتجاوز 34 ألف مخطوط، تمت فهرستها في السنوات العشر الأخيرة.
  • دار الكتب الوطنية في تونس، والتي افتتحت 1910 باسم المكتبة الفرنسية.
  • المكتبة الوطنية للمملكة المغربية “الخزانة العامة”، والتي أنشئت 1920.
  • مكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية، العراق، والتي أنشئت عام 1382هـ.
  • دار الكتب والوثائق الوطنية العراقية، تأسست عام 1920.

وغيرها كثير من المكتبات الوطنية التي تحوي مخطوطات تتجاوز عشرات الآلاف، كثير منها لم يتم تحقيقه ودراسته حتى الآن، وهو أمر يقدره العالم، وتدرك قيمته المجتمعات العالمية على نحو يفوق الوصف.

  • المنجز الفلسفي والفكري:

إذ من المعروف أن التراث الفكري لا يبلى ولا ينتهي، لأنه يتعلق بدراسة الإنسان ليس في لحظة زمنية بعينها، ولكن في علاقته بالحياة والكون من حوله، ولم يحدث عبر التاريخ أن أهيل التراب على فلسفة منذ التراث الفكري اليوناني وحتى اليوم، فلم تزل مثلا فلسفة سقراط وأفلاطون وإقليدس وفيثاغورث حاضرة، وكذلك الأمر لم تزل فلسفة الفارابي وابن رشد وابن سينا حاضرة، ولها مكانتها في الفكر الإنساني، والتواجد العالمي.

الهوية لم تكن يومًا نقية نقاء مطلقًا في أية ثقافة أو لدى أي شعب، وإنما على الدوام هناك ملامح عامة وقواسم مشتركة

والثقافة العربية تمتلك الكثير في هذا السياق مما يمكن إنتاجه ليس بصيغة طباعته في كتب ورقية أو تحويله إلى صيغ إلكترونية فقط، وإنما بتطبيق علم المحتوى عليه، واستثمار إنتاجه بكل الأشكال، بما فيها من سينما وفنون وآداب، وغيرها.

  • الآداب:

من سير شعبية، وتراث شفاهي، مثل ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، وغيرها، والتي لا إنتاج لها يمكن ذكره بمفاهيم المعاصرة، مثل الإنتاج السينمائي مثلا، والإنتاج التكنولوجي والميديا متعددة الصيغ، إضافة إلى الآداب المعاصرة التي أثيرت مدونتها عبر استمرار الكتابة والتأليف العربي على النحو الذي تكشف عنه إحصاءات الإنتاج في هذا المجال.

كل ذلك وغيره كثير يحتاج منا اليوم لرصد وتحديد وتصنيف، وإنتاج معرفي، وإعادة إنتاجها بمنطق ومفهوم المعالجات الآلية الذكية المعاصرة، أي الانتقال بها من طور المعلومات إلى طور المعرفة، وتطبيق مفهوم البيانات الضخمة عليها* تمهيدا لفهرستها وتحليلها وإنتاج المعرفة القابلة للتداول منها، وبصيغ متعددة، يدعمها الدخول في إطار “مكتبة المستقبل” على النحو المتعارف عليه عالميا في هذا الصدد.

ـــــــــــــــــ

إشارة:

* البيانات هي مجموعة الحروف والأرقام والكلمات والرموز والصور التي ترتبط بموضوع واحد، والتي تخضع للمعالجة والتحليل فتنتج عنها المعلومة/ المعلومات، ولذلك يتم تعريف البيانات على أنها: الصورة الخام، أو المواد الأساسية الأولية، قبل أن يتم تحويلها إلى معلومات بعد مجموعة من عمليات الفهرسة والترتيب والتنظيم (إلى فئات أو مجموعات متجانسة) والتحليل… للمزيد حول هذا الأمر، يمكن العودة إلى كتابنا: مكتبة المستقبل والشبكات الاجتماعية، وبناء المعرفة في الوطن العربي.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى