عبد الرزاق جُرنة.. المهمشون إلى الواجهة

بفوزه بنوبل للآداب هذا العام، أصبح عبد الرزاق جُرنة خامس أفريقي يفوز بالجائزة منذ اطلاقها عام 1901، بعد النيجيري وول سوينكا عام 1986، والمصري نجيب محفوظ عام 1988، والجنوب أفريقيين نادين غورديمير عام 1991، وجون ماكسويل كوتزي عام 2003.

يتضح من هذا الإحصاء الصغير، أن معظم جوائز نوبل للآداب التي تبلغ قيمتها عشرة مليون كرونة سويدية، أي ما يناهز 1.14 مليون دولار. منحت لكتّاب من دول الغرب، وبحسب موقع البي بي سي عربي، فمنذ فوز الصيني مو يان عام ٢٠١٢، لم يُتوَج سوى كتّاب من أوروبا أو أمريكا الشمالية. من بين الفائزين الـ 117 في فئة الآداب، حيث بلغ عدد الأوروبيين أو الأميركيين الشماليين 95، أي أكثر من 80 في المئة. أما عدد الرجال من هذه اللائحة فبلغ بفوز جرنة 102، في مقابل 16 امرأة فحسب.

لغته الأولى هي السواحيلية، لكنه يكتب بالإنجليزية، وكان يدرّس الأدب الإنجليزي في جامعة “كنت” حتّى تقاعده

في ظل موجات متتالية من اللجوء والهجرة من دول الجنوب العالمي إلى دول الشمال، وسعي حكومات وسياسات دول الشمال إلى اغلاق حدودها في وجه موجات الهجرة حتى ولو من دول النزاع والحروب، وتصاعد التيارات اليمينية التي ترفض المهاجرين واللاجئين وتحمّلهم مسؤولية انهيار منظومات الدعم والاستيلاء على وظائف “أصحاب البلد الأصليين”، يبدو اختيار أدب جُرنة للفوز بنوبل هذا العام اختيارًا سياسيًا، يدفع بأدب المهمّشين وما بعد الاستعمار إلى الواجهة، ويطلب من العالم قراءته والتعرّف على الجانب الآخر من النهر، استيعاب السرديّة الأخرى، من أين يأتي المهاجرون واللاجئون ولم يتركون وطنهم الأم وروابطهم الإنسانية والأسرية والمجتمعية بحثًا عن أماكن أكثر أمانًا واستقرارا ووعدًا بمستقبل انساني؟

رغم أن عبد الرازق جرنة صرّح في مقابلة سابقة أنه لا يحب تصنيف أدبه بإنه أدب ما بعد كولونيالي أو ما بعد استعماري، وأنه يفضل أن يكون أدبًا وكفى، إلا أن اللجنة القائمة على جائزة نوبل للأدب صنّفت كتاباته أنها تنتمي بالفعل إلى ادب ما بعد الاستعمار، وقالت في بيان الجائزة أنه لا يساوم على وضعه كإفريقي لاجيء في بلد أوروبي، ويستخدم رواياته لتعظيم هذا الصوت، صوت المهاجرين وتمزّقهم بين أوطانهم ومآلاتهم، والصراع الدائم مع هوية قيد التشكّل.

رغم عدم اعترافه بالتصنيفات، إلا أن أدبه ينتمي لهذا النوع بامتياز بشهادة آخرين، حيث يركّز على حيوات وقصص الناس وتأثير الاستعمار والعنصرية والاضطهاد والعبودية على معايشهم، ثم بعد ذلك الديكتاتوريات المحلية أو دول ما بعد الاستقلال على مستقبلهم، ومن ثم محاولاتهم للهجرة والوصول إلى شواطئ أكثر أمنًا، لكنها في نفس الوقت منفصلة تمامًا عن العالم الذي يعرفونه، عن مجتمعاتهم وشبكات الدعم من الأهل والأصدقاء والأحباب، العادات والتقاليد المُطمئنة واللغة المألوفة، صغار التجّار وأصحاب الحرف والعساكر المحليين في جيوش الاحتلال وحيواتهم التي تستحق أن تروى رغم عاديّتها، يبدو أيضًا متأثرًا بمدرسة إعادة رواية التاريخ من أسفل، وإعطاء مكان في الأرشيف لهؤلاء اللذين لم يكن لديهم القدرة أو الأفعال العظيمة كي يتم ضمهم إليه.

يبدو رد الفعل الجدّي على اختيار جرنة والمعرفة بأدبه مقتصرًا على دوائر من المتخصصين، سواء من الأكاديميين أو الكتّاب من الشرق الإفريقي

كما أن الكاتبة الأمريكية كريستين روبينيان Kristen Roupenian أقرت في مجلة النيويوركر في مقال تم نشره بعد فوز جرنة بنوبل، أنها تعرفت إلى ادبه متمثلًا في روايته”الفردوس” عندما كانت تدرس مجال الأدب ما بعد الاستعماري، ودرّست فيما بعد روايته “طريق البحر” في دورة خاصة بالنوع الأدبي نفسه.

يبدو رد الفعل الجدّي على اختيار جرنة والمعرفة بأدبه مقتصرًا على دوائر من المتخصصين سواء الأكاديميين أو الكتّاب من الشرق الإفريقي، حيث نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز تقريرًا عن ردود أفعال كتّاب مختلفين على فوز جرنة، قالت فيه الكاتبة الصومالية البريطانية ناديفا محمد Nadifa Mohamed صاحبة رواية “رجال الثروة” المرشحة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر هذا العام، أنها تعتبره معلّمها وقدوتها، وأنها حين بدأت أولى خطواتها في الكتابة الروائية عام ٢٠٠٧ سعت إليه للحصول على رأيه ونصائحه، ونفذّتها بالفعل، وأحبّت أن تكون شخصياتها بنفس سلاسة وتكامل شخصيّات رواياته. وصفت ناديفا أعماله قائلة: إنها ليست أعمالا جامدة أو أكاديمية كما يطرأ إلى الأذهان عن سماع توصيف ما بعد استعماري، يمكنك الشعور بلفحة الهواء الساخن من المحيط الهندي وأنت تقرأ، وفي نفس الوقت ستشعر بنقرات المطر الإنجليزي بين الصفحات.”

في حين أفردت صحيفة الجارديان مقالًا كاملًا للكاتبة الإثيوبية الأمريكية مازا مينجيست Maaza Mengiste التي قالت إن رد فعلها كان متفاجئًا بفوز جرنة بنوبل، وكان وقع المفاجأة كبيرًا حتى على متابعيه من الأكاديميين والكتّاب الأفارقة، لكن مشاعرها بعد المفاجاة تحولت إلى فرحة عارمة، فهو في نظرها كاتب دؤوب، يعمل على قصصه بدأب وإصرار بغض النظر عن كونها تلقى اهتمامًا أم لا، واعتبرت فوزه نصرا لكُل الكتاب اللذين يتساءلون ما إذا كانت قصصهم مهمة عندما لا يتم تسليط الضوء عليها.

لألف ليلة وليلة تأثير على حرفته الأدبية وذائقته، لكن يظل التأثير الإنجليزي في الأسلوب من شكسبير هو الأوضح

كما أفردت مينجيست مساحة لرواية جرنة الثانية والأشهر” الفردوس” التي نشرها عام ١٩٩٤ ورشحت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر، إنها رواية مليئة بالمشاعر وانكسارات القلب كتبعات لاستكشاف تكاليف الاحتلال الألماني بعد الحرب العالمية الأولى.

هذه الرواية يمكن اعتبارها الجزء الأول لروايته الأخيرة “الحيوات الأخرى” التي صدرت عام ٢٠٢٠، والتي تبدأ في عام ١٩٠٧ في قلب انتفاضة ضد المحتل الألماني، وتقدم شخصيات بها العديد من التعقيدات النفسية على مدار أجيال، وخلال الانتقال من الاحتلال الألماني إلى البريطاني، واصفة شقاءهم ونضالهم للحفاظ على عائلاتهم ومجتمعاتهم في بلدة ساحلية صغيرة في تنزانيا.

ومن خلال وصفها وتحليلها لرواياته الأخرى – عددها عشرة روايات – تخلص مينجيست إلى تزايد أهمية انتاج جرنة الأدبي في السنوات الأخيرة، حيث تتزايد الأزمات الإنسانية وتتصل، دافعة بالبشر إلى المخاطرة بحياتهم أملًا في استقرار ومستقبل أفضل في أوروبا، وتقتبس من مقال له نشر في ٢٠٠١ في صحيفة الجارديان قوله: “يتم توأمة الجدل حول اللجوء مع سردية عنصرية تعاني من جنون الاضطهاد، يتم اخفاؤها وتمريرها في تعبيرات فضفاضة ومائعة حول الأراضي الأجنبية والنزاهة الثقافية.”

ولد جرنة في زنزبار عام ١٩٤٨ وله أصول يمنية، واضطر للجوء إلى إنجلترا مبكرًا هربًا من الأحوال المعيشية الصعبة واضطهاد الأقلية المسلمة في تنزانيا في الستينيات، لغته الأولى هي السواحيلية، لكنه يكتب بالإنجليزية وكان يدرّس الأدب الإنجليزي في جامعة كنت حتّى تقاعده. للقرآن الكريم وألف ليلة وليلة تأثير على حرفته الأدبية وذائقته، لكن يظل التأثير الإنجليزي في الأسلوب من شكسبير هو الأوضح.

أعمال جرنة ليست متضمنة في المناهج التعليمية بمدارس تنزانيا حتى الآن، رغم أن تلك المناهج تضم أعمال كتاب سواحليين وأفارقة آخرين

ورغم التزامه الواضح بقضية اللاجئين والمهاجرين من بني وطنه، إلا أنه لا يعتبر معروفًا هناك، حيث صرّح صاحب متجر تي بي إتش التابع لدار نشر مكوكي نا نيوتا في دار السلام، المدينة الرئيسية في تنزانيا وواحد من عدد قليل من متاجر الكتب التي تبيع أعمال جرنة هناك، لموقع بي بي سي عربي بأن عددًا قليلًا فقط من الزبائن يقبلون على هذا النوع من الكتب، أسعارها المرتفعة وكونها باللغة الإنجليزية يجعلانها في غير متناول الكثيرين في سوق صغيرة كتنزانيا، الكتاب فيها يعتبر سلعة كمالية.

كما أن أعمال جرنة ليست متضمنة في المناهج التعليمية بمدارس تنزانيا حتى الآن، رغم أن تلك المناهج تضم أعمال كتاب سواحليين وأفارقة آخرين، حيث يقول جوسا صاحب المتجر أن جرنة: “تمكن من ترك بصمته خارج زنجبار، حيث يعيش خارجها منذ عام 1967…لذا فهو معروف فقط لدائرة صغيرة من القراء المتحمسين الذين يتتبعون الأعمال الأدبية لأهل زنزبار”.

تبدو البداية الأسلم لقراءة جُرنه للجمهور العربي هي رواية “الفردوس” إذن، حيث تصوّر الرواية رحلة البطل الشاب يوسف في ظلام اليأس، وتعرضه لقصة حب محزنة تصطدم فيها عوالم مختلفة وعقائد متباينة، على خلفية وصف عنيف ومفصل لاستعمار شرف إفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، وعلى العكس من نهاية قصة النبي يوسف السعيدة، كما وردت في القرآن الكريم، يضطر يوسف بطل الفردوس إلى التخلّي عن المرأة التي عشقها “أمينة”، لينضم للجيش الألماني الذي كان يحتقره.

البداية الأسلم لقراءة جُرنة للجمهور العربي هي رواية “الفردوس”، حيث تصوّر الرواية رحلة البطل الشاب يوسف في ظلام اليأس، وتعرضه لقصة حب محزنة

تظلل اختيار هذا العام ملامح سياسية واضحة إذن، في عالم متغيّر وكوارث انسانية وطبيعية يوميّة تقريبًا، لم يكن عالم جُرنه عندما طلب اللجوء بنفس التعقيد، وكما صرّح في مقابلة سابقة ٢٠١٦: “لم تكن كلمة “طالب لجوء” تعني ما تعنيه اليوم، مع معاناة ناس كثر للهرب من دول إرهابية. أصبح العالم أكثر عنفًا بكثير مما كان عليه في الستينيات، لذلك هناك ضغط أكبر الآن على البلدان الآمنة، فهي تجتذب المزيد من البشر حتمًا”.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى