إيتيل عدنان: العالم قصيدة كبرى

إيتيل عدنان التي غادرتنا في الرابع عشر من الشهر الماضي نموذج إنساني وثقافي نادرًا ما يتكرر، ولدت في بيروت ٢٤ فبراير عام ١٩٢٥ لأب سوري مسلم وأم يونانية مسيحية، عاشت في بيروت، وتلقت تعليمها بها، وفي سن الرابعة والعشرين سافرت إلى باريس حيث درست الدكتوراة في جامعة السوربون ومنها إلى الولايات المتحدة لتدرس وتعلم في أكثر من جامعة من جامعاتها،تنقلت في العيش بين أكثر من بلد، وكان للأصل ولسيرة الحياة أثرهما في انفتاحها على الروح الإنسانية التي تبدت في شعرها ولوحاتها، وقد حققت في الفنين اسمًا يحظى بالاحترام في العالم كله، كما كتبت رواية «الست ماري روز» وكتابًا في الرحلة وكتاب رسائل.
الشاعر التونسي خالد النجار التقاها للمرة الأولى في تونس عام ١٩٧٨، واتصلت بينهما أسباب الصداقة إلى رحيلها، هنا ننشر مقتطفات من حوار تعارفه معها ومختارات شعرية لها، من ترجمته.

*  *  *  *

إيتيل عدنان في مرضها الأخير بين سيمون فتال وخالد النجار

إيتيل عدنان جاءت الى تونس لتشارك في “معرض مدينة تونس : رسم على الورق”. كان ذلك عام ١٩٧٨ التقيتها هناك للمرة الأولى، وكانت تبدو مبهورة ومنخطفة بالعالم والاشياء وكأنها طفلة، عبرت للتو حدائق مظلمة وحقيقية. فعرفت ان أمري معها يبتدىء بالشعر. قلت لها:

* ما هي القصيدة؟

ـ القصيدة هي الاشياء التي نتعرّف عليها غصبا عنا اي الاشياء التي نجبر على رؤيتها.

* وماذا تمثّل؟

ـ تمثل الحقيقة التي يرفضها الناس. وهذه الحقيقة هي العالم الذي هو قصيدة كبيرة، لان كل فعل خلق هو فعل شعري. الله خلق قصيدا والشاعر يرى نتفا واجزاء من هذه الحقيقة ـ القصيدة الكبرى. والشعر كذلك متفجرات لان الحقيقة تقلق دائما. لذلك فالشاعر هو اكبر مقلق. الشاعر الحقيقي محبذ ومتعاطف مع الاشياء. ومتفجراته متأتية من حبه. فالشاعر هو حارس الاشياء المفقودة.

هناك رقابة على الفكر، ولا رقابة على الأفلام الرديئة التي تعلم العنف للشعب. يُسكتون الشعراء وينشرون الأفلام الرديئة

* إيتل، أنت ترسمين وتقولين الشعر، هل الكلمة لا تكفيك؟

ـ لا، كل فن كاف، الشاعر غير مجبر على أن يرسم. يستطيع ان يكتفي بالكلمة.. ولكن الرسم بالنسبة لي لقاء مع الطفولة. انه سر وعجائب الطفولة. فالطفل يحب اللون أكثر مما يحب الكلمات. اللون والرسم بالنسبة لي كاستراحة، ولكن لا راحة للكبار. اذن، يصير الرسم كذلك شعرا. وعلى ذكر الشعر مرة أخرى يعتقد الناس أن الشاعر يعيش مع التهويمات في السماء. صحيح ان النجمة جميلة، ولكن الشاعر يحب الارض .. يحب الطين، والشعر يصدر من هذه الاشياء المحيطة بنا. أرسطو قتل الفلسفة، لماذا؟ لانه جيّد كل شيء مثل الآلة الحاسبة. قال هناك الجسم والروح ونسي وحدة الكون.

* هذا يقودنا الى موقع الشاعر في المدينة والتاريخ؟

 ـ بالنسبة لي ما أريده من الشعراء والرسامين والموسيقيين هو أن يعيدوا للعالم وداعته. هناك عنف يومي يعيشه الناس، وهو شيء مفزع، هناك رقابة على الفكر ولا رقابة على الأفلام الرديئة التي تعلم العنف للشعب. يسكتون الشعراء وينشرون الافلام الرديئة. والشباب يعتقدون ان السينما مدرسة للعنف، والذي يواجههم يقولون عنه رجعي. هذا مهم جدا عندي.. أريد ان أقول لك شيئا: إن المثقفين الذين لا يمارسون المحبة هم أشباه مثقفين. لأن المحبة حوار متواصل مع الآخرين. في بيروت قبل الحرب رأيت الناس يصفقون في السينما للاميركي الذي يقتل الهندي الاحمر. وبعد شهرين رأيتهم يتقاتلون. لابد في رأيي من ظهور أخلاقية جديدة.. حس ديني جديد. لا بد في كل الحالات من ترميم صلات الناس ببعضهم.

* وأنت كيف تواجهين العنف؟

ـ بالقصيدة.. كتبت أخيرا قصيدة طويلة أسميتها: “قيامة عربية” فالعرب اذا لم يتحاوروا واذا لم يعيدوا إلى قلوبهم الرحمة والتسامح والتواضع، فسيأكل بعضهم بعضا مثل ما وقع في لبنان. لان الحرب قائمة في الداخل.. في أعماقنا.. وهذه القيم التي ذكرت هي التي ستعدّل الميزان، والشاعر يدق أجراس الخطر.

لا بد في رأيي من ظهور أخلاقية جديدة.. حس ديني جديد. لا بد في كل الحالات من ترميم صلات الناس ببعضهم

* الشاعر، والنّاس، والمدينة: العلاقة السرية والتاريخية؟

 ـ تونس تذكرني بمدن عربية أخرى أناسها يشعرون برغبة في التواصل مع الآخرين.. وتونس مفتوحة من قديم. كانت لها حوارات مع العرب والعالم.. وهذا يظهر في طريقة حياة الناس في بيوتهم.. رأيت بيوتا كثيرة يمزجون في عمارتها القديم بالجديد. هناك أمل كبير في تونس رغم المشاكل المختلفة. وأنا عندما دخلت المدينة أحسست أن العرب هم وحدهم الذين حافظوا على الحس الشعري حتى الآن. وهذا دليل حياة. فالشباب يعيشون الشعر، يقرءون.. يحسون.. كما في القديم. يعرفون تماما ما يقع، كما في سوق قديمة حيث يجتمع كلّ النّاس.. ذهب الجمل وجاءت السّيّارة، ولكن ما أن نجتمع حتى نتكلّم عن الشعر عفويا. إنّه حضور الشّعر الرائع… وهؤلاء الشعراء لا يطبعون شعرهم ولكنهم يستعملون الذاكرة.

مختارات من شعرها
ترجمة: خالد النجار

 

 يتحدثون عن الحرية

هل كانت ذاكرتي منذ زمن طويل

أرضا محروقة؟

الجفاف

في الرّوح

و فوق الأرض.

ـــــــــــــ

 

*

قتلوا رجلًا

بمضرب البيزبول

” آه ” قال البوليس

” يا له من لعب سيّئ ! “

  

*

 

لا أحد يعرف جمال

كاليفورنيا الكامل

بقدر ما أعرفه

إنّها آلهة عارية

من مناجمها

لها رائحة بنزين

بيد أنّها تتذكّر…

كل ما ينساه أي كان.

 

*

 هم يتحدّثون عن الحريّة…

يربون قططا لتغذية

الكلاب

ويقتلون حوت البالين

لتوفير طعام القطط

وهم يبكون الصّين

لأنّه لم يعد ثمة

هنود

في هذه النواجي

 

*

أنا امرأة

أأكون الأرض الأمّ؟

أنا نصف الكون

ألا أصير أبدا كائنا مكتملا؟

أنا الصّمت الذي يحيطني

أنا الحديقة الخاوية

أسرع عبورا من غيمة

أنا نقطة.

 

*

 

عندما نكون على وشك الوقوع في الحب

في ذاك التشتّت

و الانكسار

لا يصير للزمن قياس

بالنسبة للجسد

و الريح تهب

في احتكاك خريفي

ثمة دائما دم

فوق بعض الطرقات

و صداقة الموت

الفاسقة.

 

*

 

ثمّة ضجيج

في قلوبنا

جيئة وذهاب

تنفـّس غير مكتمل

بنياط مشدودة:

ألم ممض في المفاصل

و الثنايا

ـــــــــــــــــــــــــــ

*

صف الجسد

ان استطعت

و ستكتشف ان روحك

لا تمت للحقيقة بصلة

لأنّ المادّة

هي متاعنا الشخصيّ الحميم.

  

*

انظر: النيزك

هو صورة الموت،

إنّه ضوء يمحق (يعدم) نفسه

بعيدا عن منابته.

  

*

 

مماثل (مشابه) للغبش حيث

ينام المحيط الهادي،

عزلته مكونة من اشكال

رماديّة: إنه يبحث عن صوره الاستعارية

في الالكترونيك، وهو لا يعيش

في غير شحوب الرّموز

  

*

 

هي، في النشيد الورديّ

لغرفة، حب

مقفر، وزمن الأشجار

الضّائع…

  

*

 

التلفزيون متعلق

بطرف غابة الوحوش

لا تدخل في الجوهر المقدّس

للحاضر.

 

*

 

الزّمن احترق

لأجل ذلك نرانا

في النعومة العارية للغيوم

نظل مشدودين إلى السفر

الليليّ.

  

*

 

كل ما بقي

طيات البنطلون،

و الجفون المسبلة ،

وقوة العضلات:

إنه ميّت

  

*

ملزمة حديديّة عثر عليها

في أحد السهول

… ثمة حصان يتعثر.

 

*

 

لا تألف

المرارة البائسة (التعيسة).

اذا كنت بلا بلاد

سيظل لك الكون

صديقا..

 

*

 

بدأت أعــدّ

السيّارات،

ثم شرعت أجمع

الأرقام،

فوجدت نفسي

في بيت الموتى .

  

*

 

الضوء آناء سقوطه الحر

يحدث صوت خرير الجدول؛

الذي هو لغة

المادّة.

 

*

 

الحقائق

متاجر كبيرة

حيث نصعد مشيا

أو بالسلالم الكهربائيّة

و لا نعود أبدا.

  

*

 

في العتمة

المتلمسة (المتحسسة)

لحبّ الزّبيب،

هناك

نصف

الشمس

ثم هناك

ظلال الماضي.

 

*

 

أحيانا أتهيّأ

للسفر بلا عودة،

لكن الفجرّ

يرفع الستائر،

وتنزوي

مراهقتي

في ركن من اللامكــان.

  

*

 

تحت سحر

السماوات الباردة

يعيد سجن سان كانتان

إحكام الأقفال:

ثمّة كهرباء تعبر الأدمغـة. السجين رقم 116

يعتقد أن حارسه

تزوّج بيسي سميث.

  

*

 

و الآن، بــدأ هفيف

الخريف،

و لم يعد هناك أسرار

في دهليز بيتي،

أمّا فضاء

الحديقـة

فإنّه لا يقل بياضا عن الورود.

 

*

 

هل علامات التنقيط

هي التي تنتهي في النص

أم الكلمات.

 

*

 

إنّها جزر

متوحّدة :

تدين بشهرتها

لموت الهنود الحمر،

الذي يلفه الخيال.

 

*

 

لقد أضعت أناي

الداخليّة ،

أنا منظر طبيعي ومياه جارية:

بين حرب

و أخرى ثمّة دائما

منطقة ظـلّ.

  

*

 

لقد حبست نفسها .

ثم وجدت بابا

للخلاص: إنّه الانتحار.

مرآتها سمعت

الطلقات.

 

*

 

باريس:

هي الصحاري المسكونة

برامبــو

ليالي رمضــان

التي زارها نرفال

وبودلير

في المدارج الخلفية (مدارج الخدمات)…

 

*

 

هبوط الليل

في منتصف الحلم

يقطع الحيـا ة

إلى أجزاء.

السلطة تعجل الموت.

 

*

 

الجبل يرسم،

غيـومه.

يرتعش الضـوء

فوق شجيرات الأرطماسيا.

و الرّغبة تهجر هذا الجسد.

 

*

 

الموت.

ليست شجرة تلك التي تقف

أمام بابي، بل

فارس العـدم.

و الغناء حاسة أخرى

تضاف إلى حواسّنا.

و الأوبرا لا تبرز

سوى في المرآة.

 

*

 

في بهاء الصباح

الرّمادي،

في معسكر الموت

ببيت ساحور؛

بقليل من النّـدى

و بقبضة من طين

خلقت

الحياة.

  

*

 

حول القطيعة

تتشكل دوائر يسويها (يجازف بها)

الصمت

  

*

 

ثمّة دم

في هذا الضياء

ورائحة ما بعد الموت

في مروج

فلسطين

 

*

 

عندما يكفّ القلب

عن تحديد السّاعات، ينمو

العشب على حوافّ

الندوب

 

*

 

المحبّة: نضارة الزمن

امحاء الجسد

بالجسد،

و تحرر

الرّوح

 

*

 

الأصابع، والقبضات

هي أدوات العنف،

و القلب، مكان بلا

نوافــذ….

 

*

هناك في البعيد حيث كل شئ

أخضر،

و النباتات تنمو لألاّ تقول

شيئا،

و أنا، حطمني (خربني)

إعصار

 

*

 

الكائن أعزب

إنّه ينزل

كالأنهار، ومثل الحدائق

ينطفئ على عتبة

المطلق.

  

*

 

منبهرا بحركة الأمواج

الدّائمة، يتراجع البحر

حتّى خطّ الأفــق

 

*

 

القلب يسوّي معادلاته

بينما الأحداث التاريخية تعرض

في الغرفة المجاورة

 

 *

 

في أيّ اتجاه ترسل النّظر؟

في داخلك،

تجد نفس الأشياء، والعوائق

ذاتها التي تلقاها

أمامك.

 

*

 

إزاء الفراغ الذي يحيط

بالذّاكرة، الكم الأقيانوسي

الذي أنتجته المادّة

يخيفنا

 

 *

 

التأخّر الممنوح

للّرغبّة ينفرط له مجرى

الزّمن. ونحن لن نكسر

أيّة كثافة، بينما يظلّ أكبر راقص

معلقا في جنونه.

 

*

 

هذا الصباح، قتلت ذبابة

لوأنّني كنت دولة

لهدمت مدينة بأسرها

 

*

 

أسنانك اللامعة كانت تنهش

حتى جمال المساء،

والجسد يقتفي بقدر ما يستطيع

 

*

 

إنها دائما الرابعة

بعد الظهر، الساعة التي قبلت فيها

لدى خروجي من المدرسة

ملصقا حائطيا

 

*

 

الأزاهير، قلنا

ذابلة فوق التوابيت

بينما تبدأ

المراعي بالتفتح

 

*

 

النار هي مادّة

جسد الرغبة هذا

و الحب الذي لا يصالح:

هما ينطفئان ليلا

و يضيئان في غيابي

 

*

 

كانت طفولتي تجهل

قوة النساء السرية؛ فهن

شبيهات بامتدادات الجليد

 

*

 

أعرف المشهد الذي

تخافين سكناه، أيتها المرأة التي

سود الموت شعرها…

لقد كان لفمك أسنان

من لؤلؤ وعدم

 

*

 

و في منام مواز

التحقت بجسد، وبحبّ، في مكان

لا يجرؤ فيه الزّمن أبدا

على التجلّي

 

*

 

نهاية الحبّ تسرع بنا

في المطهر أو في الجحيم.

لا مجال للتفكير

بالجنّة.

 

*

 

جئت تودّعني

في هذا المنام الذي وددت

لو أنني لا أفيق منه أبدا

 

*

  

أولائك الذين يحبّون السماء

دون غيومها لا يفعلون شيئا سوى

إسقاط اللّعنة

على براءتهم.

 

*

 

لا موسيقى في عالم

الموت. علينا أن ندرك

أن المزهريّات الكبيرة المرصودة

لما بعد الحياة عليها

أن تظلّ خاوية.

  

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى