باقة من بستان “جاذبية سري”

في العاشر من نوفمبر رحل نحو قرن من الفن التشكيلي المصري والعربي؛ جاذبية سري المولودة في أكتوبر ١٩٥٢. في هذا المقال يقدم الفنان والكاتب أحمد عز العرب سيرتها الحياتية والفنية فانتهى إلى تقديم سيرة مجتمع ثقافي حلم بالنهضة.

كانوا صحبة على مقهى الفيشاوي، لطفي الخولي وخطيبته وحامد عبدالله وتحية حليم وعادل ثابت، بعد جولة من القلعة إلى الحسين اعتاد الخولي أن يدعو أصدقاءه إليها، كأنما يدعوهم إلى بيته أو متحفه الخاص يحدثهم عما فيه ويروى عن كل حجر حكاية، هنا هو(شيخ الحارة) العارف بكل شبر فيها وكل واحد منها، يصحب ضيوفه بين الأسبلة والمساجد وورش الحرفيين ووكالات التجار وجموع الجائلين.

مناقشة في المقهى كانت أول خطوة في علاقة زوجية مع عادل ثابت دامت إلى آخر العمر

كان ذلك زمن الصحوة الاجتماعية وعادل ثابت باحث علمي يأمل أن يدرك أهل بلده أهمية المنهج العلمي في التفكير وضرورة الأخذ به في كل مناحى الحياة بما فيها الإبداع الأدبي والفني، وافقه صديقه المحامي الفنان لطفي الخولي ودعاه للنقاش مع بعض أصدقائه التشكيليين، الفنان حامد عبدالله وتلميذته زوجته تحية حليم، ثم انضمت الفنانة جاذبية سري إلى جلسة المقهى قادمة من حي الحلمية الجديدة.

بورتريه شخصي

كانت جاذبية قد تخرجت من المعهد العالي للمعلمات وحصلت على دبلوم التربية الفنية وشاركت في المعرض الأول لجماعة (صوت الفنان) التي أسسها المثال جمال السجيني والفنان الناقد صدقى الجباخنجي مع 75 فنانا من الشباب المجددين الداعيين إلى التحرر من القيود الاكاديمية في الفن منهم سيد عبدالرسول وكمال يوسف وموريس فريد، يجمعهم البحث عن اساليب تعبير جديدة تعبر عن الروح المصرية، كما يجمعهم الايمان بالدور الاجتماعي للفنان ومشاركته الايجابية في القضايا العامة.

إلا أن الجماعة لم تتحمل طويلا نفقات استمرار صدور المجلة التي تحمل اسمها (صوت الفنان). فأنضمت جاذبية سري وبعض زملائها إلى جماعة أكبر، مواقفها أكثر وضوحا، جماعة (الفن المصرى الحديث) التي كانت تضم حامد عويس، نبيه عثمان، جمال السجيني، وليم اسحق، عز الدين حمودة، يوسف سيده، زينب عبد الحميد، صلاح يسري وآخرين، اتفقوا جميعا على أهمية التعبير الواقعى عن اوضاع المجتمع منحازين إلى الطبقات الشعبية الفقيرة لأنها تشكل قوة العمل والانتاج في البلد ومصدر ثقافته الوطنية رغم أحوالها المادية المتدنية.

 هذا الانحياز الاجتماعى ليس من اجل قيم العدالة فقط بل هو– في تقديرهم – خطوة ضرورية لتحرير المجتمع ذاته والارتقاء بعموم أحواله، على أن هذا الموقف الاجتماعي الموحد بينهم، لايمنع اختلاف اساليب العمل الفني وتعدد صيغ التعبير والاجتهاد الشخصي بينهم، فمنهم من اجتهد في ابتكار اساليب من التراث الفني الوطني سعيا إلى طابع محلى مميز، ومنهم من أخذ بأحدث المدارس الفنية بوصفها تقنيات حديثة تنتمى للحضارة الانسانية كلها.

لم تكن قد تجاوزت الرابعة من عمرها، عندما عرفت مرارة اليتم، وانتقلت مع أمها للإقامة مع جدتها

نعود إلى صحبة المقهى، كان عادل ثابت مشغولا برصد التطور العلمي في الفيزياء والاختراعات الحديثة وتأثيرها على الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإبداع الأدبي والفني، ففكر في اصدار مجلة تتابع الانجازات العلمية والفنية الحديثة تكون ساحة التقاء وتفاعل بين الباحثين والمبدعين، تحمس الخولي لمشروع عادل ثابت لكن جاذبية سري تحفظت خشية ان تتشتت الجهود بين المجموعات الفنية والمجلات المختلفة، فاقترح لطفي الخولي أن يواصل عادل وجاذبية النقاش فيما بينهما مرة أخرى في لقاء جماعى تال.

 اقتربا أكثر من بعضهما، جاذبية وعادل بتعدد المقابلات وأصبح لقاء مقهى (الفيشاوي) أول خطوة في علاقة زوجية دامت إلى آخر العمر.

 (2)

ما أن عرفت دفء حضن الأب حتى فقدته، فاضت روح الدكتور حسن سري ولم تكن طفلته تجاوزت الرابعة من عمرها، مبكرا عرفت مرارة اليتم بعدما انتقلت وأمها للاقامة مع جدتها، بشارع (نور الظلام) بالحى العريق الحلمية الجديدة، بين القلعة والسيدة زينب، تتذكر جاذبية تلك الأيام وتقول:

عادل ثابت

 كانت جدتى لأمى دقة قديمة، واعتمدنا ماديا على جدى لأبى وقد كان دكتاتورا، فشعرت بفجيعة فقدان أبى، إلا أن أعمامى حاولوا جاهدين ملأ هذا الفراغ، فقد أطلعنى عمى مصطفى في وقت مبكر على كتاب وصف مصر وكان يشرح لى جوانب تميز الفنان الحرفي المصري ودقته» أما عمها سامي فقد كان صديقا للفنان أحمد صبرى الذى تولى توجيهها إلى دراسة الرسم على نحو اكاديمى. لم تكن كلية الفنون الجميلة تقبل الفتيات للدراسة فيها قبل عام 1954، لذلك التحقت بالمعهد العالى للمعلمات قسم التربية الفنية وتخرجت عام 1948 ثم حصلت على دبلوم التربية الفنية وتطلعت إلى استكمال دراساتها العليا بفرنسا.

لم يكن ذلك الأمر جديدا ولا غريبا على المجتمع المصري في ذلك الحين، فمنذ أول بعثة تعليمية أوفدها الوالى محمد علي إلى باريس رفقة الشيخ رفاعة الطهطاوى لم تنقطع البعثات الدراسية إلى أوروبا لأوائل (البكالوريا) والشهادات العليا، بهذا النظام تمكنت مجموعة من الفتيات المتفوقات استكمال دراستهن بالخارج، فقبل عام واحد من ميلاد جاذبية سري) 1925) كانت درية شفيق أول تلميذة مصرية تسافر إلى فرنسا لتدرس بجامعة السوربون، بعدها كانت هيلانة سيداروس وكوكب حفني ناصف تدرسا الطب في انجلترا وتصبحا أول طبيبتين في مصر، وتواصل سفر المبعوثات المصريات للدراسة في أوروبا، في كافة المجالات والفنون الجميلة كان الشباب أسبق بالسفر بجهودهم الذاتية إلى أن تأسست الاكاديمية المصرية في روما باقتراح من الفنان راغب عياد، ثم المعهد الثقافى المصرى في مدريد بقرار من طه حسين وزير المعارف يومها، فانتظم توافد البعثات المصرية، وأتيح لجاذبية سري في هذا السياق ان تواصل دراساتها العليا وتتابع التيارات الثقافية والفنية فحصلت على دراسات عليا مع مارسيل جرومير في باريس 1951، وفى روما 1952 وجامعة لندن (1954- 1955) بفضل هذة الأسفار أتيح للفنانة فرصة الاطلاع على مقتنيات المتاحف العالمية ومتابعة الانتاج الفني الحديث والاحتكاك المباشر مع التيارات الثقافية والفنية.

تقول جاذبية: كانت جدتي لأمي دقة قديمة، واعتمدنا ماديًا على جدي لأبي وقد كان دكتاتورًا، فشعرت بفجيعة فقدان أبي

وانعكس ذلك على وعيها الجمالي ورؤيتها الفكرية، كما تجلى في عملها ومواقفها، ظل التجديد والتطوير سمة مميزة لمجمل الانتاج الفني لها، وظلت تنظر لما تفرزه الاتجاهات الفنية العالمية الحديثة من موقع الندية لا التابع المقلد الذى يكرر مايردده الآخرون كأنه ظل لغيره أوصدى لأصواتهم، كما أنها لم تقاطع ما تطرحه التيارات الثقافية والفنية الحديثة بحجة أنها وافدة من مجتمعات اجنبية.

رفضت جاذبية المقاطعة كما رفضت التقليد وقدرت أن التفاعل الثقافي من موقع الندية القائم على الأخذ والعطاء المتبادل هوالموقف الأكثر ايجابية الذى تشكلت به الحضارة الانسانية عبر حلقات متصلة بمساهمة مختلف الشعوب والجماعات البشرية، تراكمت وتطورت انجازاتهم مكونة تراث الانسانية، كانت جاذبية تشعر بالثقة والزهو مما أنجزته الحضارة المصرية على صعيد الفكر والفن، لم يكن لديها أى شعور بالنقص يجرها إلى الانبهار والوقوع في شرك التبعية الثقافية، على العكس تابعت عن قرب حالة الشغف الأوربى بالثقافة المصرية منذ بدأ حجر رشيد يبوح بأسراره، كما كان التفاؤل يعزز ثقتها بنفسها وبمستقبل البلاد في ظل حالة النهضة الاجتماعية والسياسية التي عاصرتها.

لم يكن تفاؤل جاذبية سري شعورا وجدانيا فقط ولا تعلقا بالأمانى ولكنه كان موقفا واعيا قائما على معرفة بتفاصيل الواقع الاجتماعى في الاربعينيات والخمسينيات، ودراية دقيقة بخريطة التيارات الثقافية السياسية المحيطة بها، كانت أصداء الثورة الوطنية 1919 لم تزل تضع (الاستقلال والدستور) الهدف الاسمى لغالبية المصريين ممثلين في حزب الوفد وعلى يساره جماعات الاشتراكيين والشيوعيين إلى جانب الاتجاهات الليبرالية يمثلها أحمد لطفي السيد وأنصار الحزب الوطنى الأول يمثلهم فتحى رضوان بعد غياب الزعيمين مصطفى كامل ومحمد فريد. كان القاسم المشترك الأعظم بين كل هذة التيارات هوالالتزام بتحرير الوطن والمواطن وبناء دولة مدنية عصرية، وسط هذا المناخ تشكل وعي الفنانة جاذبية سري وكانت قريبة من أطرافه تشعر بالثقة والتفاؤل، ثم زاد يقينها بمستقبل أفضل للبلاد بعد قيام ثورة يوليو1952 وانتهاء الاحتلال البريطانى.

(3)

كانت شابة حديثة التخرج عندما شاركت لأول مرة في معرض صالون القاهرة 1950 مع مجموعة من شباب الفنانين، وكان آخر معرض خاص باعمالها عام 2016 وبين التاريخين واصلت جاذبية إنتاجها الفني، غزيرا ومتنوعا كأنه نهر متدفق يصعب الإحاطة به في حيز محدود، لذا سنمضى على ضفافه نتوقف عند بعض محطاته ذات الدلالة، تعبر عن الرؤية الجمالية للفنانة وأساليبها المختلفة في التعبير.

بيوت السويس
مرحلة الواقعية الاجتماعية والتعبيرية

كان شاغلها في هذة المرحلة تناول القضايا الاجتماعية والوطنية كموضوع رئيسى للوحاتها، واعتمدت في عملها على بصيرتها الحساسة في التقاط الجمال الخفي في الحياة اليومية الذى يحجبه الأعتياد والتكرار، كما في لوحة (أم رتيبة) واحدة من ملايين البسطاء في مطبخ فقير تعد وجبة طعام من الفراخ، مشهد مألوف في الحياة اليومية، لكن الرسامة تزيل عنه غشاوة الاعتياد وتقدمه بصورة تثير الدهشة حين تبرز جماليات البلاط والجدران ونقوش الجلباب دون أن تستخدم من الالوان إلا الأسود والأحمر، كأنها تعيد اكتشاف جمال المكان البسيط وتشحن المشهد بطاقة انفعالية تثير التعاطف مع (أم رتيبة).

(أم صابر) نموذج آخر، أرادت من خلاله الفنانة أن تخلد قصة استشهاد أم مصرية شاركت وزوجها مع أبطال المقاومة المسلحة لجيش الاحتلال البريطانى في منطقة القناة فكان بيتهما بقرية كفرعبده بالسويس ملجأ الفدائيين إلى أن أعدم زوجها ابراهيم الازهرى في يناير 1951 فواصلت (أم صابر) القيام بنفس الدور إلى أن اغتالها عسكر الانجليز.

انحازت جماعة الفن المصري الحديث للفقراء من أجل قيم العدالة وتحرير المجتمع ذاته

فى نفس السياق السياسى الوطنى سجلت جاذبية جريمة فتح كوبرى عباس لمنع مظاهرات طلبة جامعة القاهرة عام 1946 من الوصول إلى قلب العاصمة.

كما دفعها حماسها للتفاعل مع الأحداث إلى انتاج رسوم باالحبر الأسود فقط يسهل طباعتها وتداولها كأنها منشور سياسى مصور، من أمثلتها الاحتفال بذكرى تكوين لجنة العمال والطلبة، والدعوة لمقاومة دودة القطن واستقبال وفد الصداقة السوفيتية بمصر يناير 1958 .

(أم عنتر) لوحة يتضمن عنوانها إشارة ساخرة إلى عادة شائعة في الاوساط الشعبية لتفضيل الاولاد الذكور على البنات، في المقدمة نرى صبيا مدللا على حجر أمه وفى الخلفية تظهر أخته أكبر وأنضج منه ومن المؤكد أنها سند لأمها تحمل نصيبا كبيرا من أعباء البيت لكنها لاتلقى بعض ما يناله (عنتر)

 وفى سياق الاشارة إلى العادات الاجتماعية السلبية تأتى لوحة (الزوجتان اوالزوجة الثانية) الزوج يحنو ويربت على زوجته الجديدة التي ترضع وليدها بينما أم البنات منكسرة في الخلفية لا أحد يكترث بها سوى ابنتها الصبية تربت عليها.

المرحلة التعبيرية

واصلت الفنانة التزامها الاجتماعى مع مزيد من الاجتهاد الفني للتعبير عن ذاتها، فقدمت مجموعة من الأعمال من الحياة الشعبية متجاوزة الصيغة الواقعية إلى التعبير الرمزى عن مشاغلها ومشاعرها الشخصية.

هزيمة ٦٧

من هذة الاعمال مجموعة اللوحات التي صورت فيها بعض الالعاب الشعبية مثل (المراجيح) تجاوزت الشكل التقليدى ورسمت مجموعة من الاطفال في قوارب متناثرة كانها ترصدهم من أعلى وهم يسبحون في خلفية من الألوان الناصعة المبهجة ليتغلب تعبيرها عن الفرح على التزامها بقواعد المنظور . وعلى نفس الصيغة نرى لوحة (طيارة ورق) التي يقتنيها متحف المتروبوليتان وفيها يتغلب التعبير عن التوق إلى الانطلاق والتحرر على قواعد النسب والمنظور، نرى الطفلة كأنها قفزت تسبح خلف طائرتها بعيدا عن البيت والارض.

الاتجاه نحو التجريد

رفضت مقاطعة الجديد كما رفضت التقليد، وقدرت أن التفاعل الثقافي من موقع الندية القائم على الأخذ والعطاء

تعرضت جاذبية لزلزال فكرى ووجدانى مع هزيمة يونيو 67 ككل ابناء جيلها الذين شعروا بالسقوط من ذرى الأحلام إلى قاع النكسة، فعجزت عن الوصول إلى تفسير منطقى يبرر الانهيار السريع، ازدحم عقلها باسئلة بلا اجابات وفاضت مشاعر الغضب والاحباط عليها فلم تجد ما تقوله لنفسها ولا للاخرين ولم يعد امامها الا الخطوط والمساحات تفرغ فيها شحناتها العاطفية .رسمت وجهها في مساحة جانبية صغيرة تطل بحزن على كتلة معتمة تحيط بالهرم وكان ذلك تعبيرها في عام النكسة ورسمت بيوت السويس خالية مهجورة مفككة تنطق بحال اهلها الغائبين. واستمرت على تحررها من الصيغ التشكيلية، تلجأ إلى التلخيص والتعبير الرمزى عن حيرة الانسان المصرى حتى عام 1970 فصورت شخص تكبله الحيرة عاجزا عن التعامل مع كيان مقابل كانه وحش او شجرة الاسئلة الهائلة الفروع.

طيارة ورق

تبدل الحال بعد انتصار العبور 1973 فتغير المزاج النفسى للفنانة لكنها استمرت محافظة على تلخيص الخطوط والاشكال والايجاز في التكوين الفني معتمدةعلى توافق الخطوط والمساحات والتعبير بالايحاء مثل تورية الشعراء، ربما لم يعد لديها نفس اليقين والثقة التي ميزت بدايتها الفنية، فعادت إلى موتيف البيت الذى استخدمته من قبل وحملته اشارات رمزية عديدة، استعانت به من جديد ترسم كتل متراصة متماسكة من البيوت على خلفية الاصفر الصحراوى يمتد امامها الأفق ويتسع ،فقد كانت تشعر ان علينا بعد انتصار اكتوبر أن نخرج إلى افاق أرحب نجدد حياتنا وافكارنا ونتحرر من قعودنا إلى عالم أرحب حتى لو كان ذلك بالهجرة إلى الصحراء.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى