كيف أصبحت القدس مدينة إسلامية؟

إيلياء أو القدس أو بيت المقدس هي المدينة الوحيدة في العالم التي يجلها أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث. لكن كون الإسلام آخر هذه الديانات، فقد تم في ظله استيعاب مختلف جوانب القداسة والذكريات والأساطير التي أرستها الديانتان الأقدم، اليهودية والمسيحية، وإعادة صياغتها بما يتناسب وتعاليمه ورؤاه الكونية.

هذه العملية بدأت مع الرسول نفسه خلال رسالته وبلغت ذروتها في الفترة الأيوبية والمملوكية المبكرة بعد استعادة صلاح الدين للمدينة من الصليبيين. وقد ركز التدخل الإسلامي على الحرم الشريف بإقامة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في مركزه في الفترة الأموية قبل إحاطته بزنار من المؤسسات الخيرية والتعليمية الإسلامية بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر ميلادي وامتداد تأثيرها إلى الأحياء السكنية حولها مما أكمل أسلمة المدينة المقدسة. في بداية بعثته، اتخذ الرسول من القدس قبلة لصلاته. وقد استمرت هذه الممارسة ثلاثة عشر عامًا من حوالي ٦١٠ إلى ٦٢٣ م بما في ذلك العامين الأولين بعد هجرته إلى المدينة. ثم نزلت سلسلة من الآيات (البقرة، ١٤٤) أذنت له بتغيير قبلته إلى وجهة يرضاها. فحول الرسول صلاته نحو الكعبة في مكة، مما أسس لإعادة توجيه الإسلام نحو المدينة المقدسة العربية القديمة التي ولد الرسول وترعرع فيها والتي هجر منها مؤخرًا. احتفظ المسجد النبوي بالمدينة المنورة بذكرى هذا التحول ببقاء الصفة الأصلية الشمالية المواجهة للقدس لمدة طويلة بعد بناء الصفة الجنوبية المواجهة لمكة. لهذا لقبت القدس بأولى القبلتين وثالث الحرمين (بعد مكة والمدينة).

دور القدس في اللحظة المفصلية من نشأة الإسلام ما زال يحرك مشاعر المسلمين اليوم

ولكن القدس شرفت بمعجزة أخرى مهمة في حياة الرسول وهي كونها موئل الإسراء ومنطلق المعراج. تمخض عن هذه الرحلة المفصلية تثبيت دعائم الإسلام دينًا، والرسول نبيًا وقائدًا وملهمًا لأمة الإسلام الناشئة، والصلاة أساسًا لعلاقة الفرد المسلم بالخالق ورمزًا لإسلامه له. فكل المصادر الإسلامية تجمع على أن رحلة المعراج انطلقت من مكة إلى القدس حيث ربط الرسول براقه إلى الصخرة المشرفة في قلب الحرم الشريف وأم صلاة عامة تبعه فيها أنبياء الله جميعًا الذين أحياهم الله لهذا الغرض ولتثبيت رسالة الرسول كآخر الأنبياء. ثم عرج الرسول من الصخرة في القدس إلى السماء في رحلته الإعجازية يحفه جبريل وغيره من الملائكة ليتلقى من ربه في سدرة المنتهى تعاليم الدين الجديد الذي سيتوسع بعده ليصبح واحدًا من أهم دينين في العالم. دور القدس في هذه اللحظة المفصلية في نشأة وتثبيت أركان الإسلام مازال يحرك مشاعر المسلمين اليوم ويجعلهم يرنون إلى هذه المدينة الأسيرة بشوق ووجد. لا تظهر القدس كثيرًا في الأخبار الإسلامية بين عهد الرسول والدولة الأموية خلا سيرة فتحها على عهد عمر بن الخطاب وإنشاؤه لمسجد بدائي فيها في الحرم المهجور إلى شرقها المعروف باسم “محراب داوود”.

اكتسبت القدس هويتها الإسلامية وظلت مقدسة لأتباع المسيحية واليهودية، لم يمنعهم المسلمون لإيمانهم بأن الإسلام يستكمل رسالة أسلافه

فالقصص الإسلامية بغالبها تخبرنا أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب استجاب لرسالة بطرك المدينة صفرونيوس بالقدوم بنفسه لتسلم القدس. عندما وصل عمر المدينة سأل عن موقع “محراب داوود” (الذي يظن العديد من المؤرخين المعاصرين أنه هو نفسه معبد سليمان). هذا الموقع الذي أبدى البطرك جهله به على ماتقول المصادر لم يكن غير الحرم الشريف الذي كانت أجيال متعاقبة من المسيحيين البيزنطيين قد هجرته لأسباب تتعلق بحياة ورسالة السيد المسيح.

سار المماليك على خطى الأيوبيين بعدما سيطروا على سوريا إثر دحرهم للمغول، واستمروا بإنشاء المؤسسات الخيرية في القدس

عمر هو من قام بتنظيف الموقع مع أتباعه وأسس في المعبد المهجور، الذي نعرف اليوم أن من أسسه على طرف الحرم لم يكن غير الامبراطور الروماني هادريان حوالي عام ١٣٠ للميلاد عقب انتصاره على اليهود الثائرين على حكمه، أول مسجد للمسلمين في المدينة. هذا المسجد سيصبح بعد جيلين اثنين أساسًا للمسجد الأقصى الأموي الذي سيبنيه على أسس المهابة والفخامة التي نعرفها عن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك حوالي سنة ٧١٠. الامبراطور هادريان هو أيضًا من غير اسم المدينة من أورشليم إلى إيليا كابيتولينا تيمنًا باسم أمه وهو الاسم الذي عرف المسلمون الأوائل المدينة به، إيلياء، قبل إستعادة اسم بيت المقدس أو القدس للدلالة على هذه المدينة المقدسة. ستعود القدس لتطفو إلى سطح الاهتمامات في خلافة عبد الملك بن مروان الذي بنى قبة الصخرة في مركز الحرم عام ٦٩٢. هذه المنشأة الرائعة هي أول آبدة مهمة في الإسلام: مبنى مثمن الأضلاع على طراز روماني الأصل مع قبة متسامقة ومذهبة فوق نتوء طبيعي، الصخرة، قائم في مركز منصة مرصوفة واسعة. يتكون المبنى من مسعيين حول الصخرة، الخارجي دائري والداخلي مثمن. أسطحهما، من الداخل والخارج، مغطاة بالكامل بالفسيفساء المذهبة.

استُبدلت الفسيفساء الخارجية بالقيشاني خلال حكم السلطان العثماني سليمان القانوني عام ١٥٢٤، لكن الداخل ما زال محتفظًا بمعظم فسيفسائه الأصلية، التي تضم زخارف نباتية وهندسية متنوعة مستمدة من التقاليد الكلاسيكية بالإضافة لأشكال مزهريات ومجوهرات ومجموعة غريبة من التيجان الساسانية والبيزنطية. تتناوب على رواق المسعى الداخلي وفوقها شريط طويل من الكتابة الكوفية الفسيفسائية داخلًا وخارجًا يشتمل على مجمل الآيات القرآنية التي تجادل ضد تأليه المسيح وتصر على وحدانية الله. هذه هي أقدم كتابة قرآنية موثقة. وهي تدلنا ليس فقط على اكتمال القرآن كما نعرفه اليوم في هذا التاريخ المبكر ولكن أيضًا على وعي مسلمي ذلك العهد، وأهمهم على مايبدو من المصادر الفقيه رجاء بن حيوة الكندي الذي كان مستشارًا لأربعة خلفاء أمويين، لأهمية نصوص القرآن في توصيل رسائل عقائدية وسياسية وتاريخية لجمهور المسلمين وغير المسلمين من سكان المدينة وزائريها. هذه الوظيفة ستصبح جزءًا مهمًا من وظائف العمارة الإسلامية في القرون اللاحقة حيث سيتطور استخدام النصوص القرآنية على المباني لتأدية وظائف دعائية وسياسية وعقائدية وتتطور الكتابة نفسها إلى أرقى أنواع الفنون في المجال الإبداعى الإسلامي.

أضاف الأيوبيون أكثر من ٢٥ معلمًا مهمًا للقدس خلال نصف قرن

يبدو أن قبة الصخرة كانت منذ البداية جزءًا من خطة أموية لأسلمة القدس وتحويلها إلى مركز خليفي يضم القبة نفسها والمسجد الأقصى الذي أعاد الوليد بن عبد الملك بناءه كجزء من مشروعه لتشييد مساجد الخلافة الكبرى، والحرم الشاسع الذي أقيم عليه كلا المبنيين، بالإضافة إلى الأبنية الإدارية الفخمة الأربعة التي اكتشفت بقاياها بعد حرب ال١٩٦٧ أسفل الحرم على طول حوافه الجنوبية والغربية. هكذا أصبح الحرم الشريف ومحيطه محور الوجود الإسلامي في المدينة المقدسة، على الرغم من أن الخليفة سليمان بن عبد الملك ألغى خطة تحويلها إلى مقر للحكم لأسباب مجهولة حوالي عام ٧١٦، عندما نقل عاصمة جند فلسطين إلى مدينة الرملة الجديدة التي أسسها، على الرغم من أنه بدأ حكمه بتلقي البيعة في القدس.لم تلق القدس عناية كبيرة في الفترتين العباسية والفاطمية. ثم سقطت في أيدي الصليبيين عام ١٠٩٩ وأصبحت عاصمة مملكتهم في فلسطين لقرن كامل حتى استعادها صلاح الدين بعد انتصاره الحاسم في معركة حطين عام ١١٨٧.

المدرسة التنكزية التي استولت عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي عام ١٩٦٩

استرداد المدينة المقدسة كان هدفًا كرس صلاح الدين وسلفه نور الدين جهودهما لتحقيقه. فهما قد وحدا الإمارات المتناحرة في سوريا وضما مصر إلى دولتهما وحشدا الجيوش استعدادًا لمقارعة الصليبيين وأطلقا حملة دعوية ركزت على القدس وقداستها مما أذكى حماسة المسلمين لاستعادتها. فقد أمر نور الدين ببناء منبر خشبي محفور بشكل رائع ومرصع بالصدف والعظام والعاج في حلب عام ١١٦٩ ليتم وضعه في المسجد الأقصى بعد التحرير لكنه توفي قبل ذلك. فما كان من صلاح الدين بعد استعادة المدينة إلا أن أمر بنقل المنبر من حلب إلى القدس ورفعه في المسجد الأقصى الذي استخدم لما يقرب من مائة عام كمقر لفرسان الهيكل، الذين أسموه خطًا هيكل سليمان. هذا المنبر أحرقه متطرف يهودي عام ١٩٦٩.شرع صلاح الدين باستعادة الطابع الإسلامي للقدس فور استرجاعها. وقد بدأ عمله بتطهير الحرم الشريف وإعادة تكريس قبة الصخرة والمسجد الأقصى كدور عبادة إسلامية، حيث كتب عليها نقوشًا قرآنية جديدة تخليدًا للحدث. وقد أعيد استخدام مواد الهياكل الصليبية التي أزيلت من الحرم على نطاق واسع في القبة والمسجد الأقصى وفي الامتداد الشاسع للحرم، الذي حظي بأروقة وبوابات ومحاريب قائمة بذاتها وقباب صغيرة. وهكذا تمت إعادة أسلمة الحرم الشريف في وقت قصير، واستؤنفت الزيارة إليه وازدادت وتيرتها على الرغم من كراهية بعض علماء المسلمين لهذه الممارسات التي نافست أحيانًا الحج إلى مكة.

استرداد المدينة المقدسة كان هدفًا كرس صلاح الدين وسلفه نور الدين جهودهما لتحقيقه

كان صلاح الدين أيضًا ينهج سياسة تسنين المدينة كما فعل بالسلطنة كلها. فهو لم يهزم الصليبيين فحسب ولكنه قضى أيضًا على الخلافة الفاطمية الإسماعيلية في مصر وأعلن الولاء للخلافة العباسية السنية في بغداد. وسعى وخلفاؤه لتعزيز المذهب السني كعقيدة للسلطنة. وقاموا لهذا الغرض ببناء المدارس لتعليم الفقهاء الذين سيخدمون الدولة وأنشأوا الرباطات للطرق الصوفية التي انتشرت بين جميع طبقات المجتمع على جانبي الحرم الغربي والشمالي المطلين على المدينة. كما قام بعض الأمراء والرعاة الأثرياء ببناء قباب خارج المدينة ليدفنوا في ترابها المقدس. أضاف الأيوبيون أكثر من ٢٥ آبدة مهمة للقدس خلال النصف قرن الذي حكموا فيه، على الرغم من انقطاع حكمهم لعشر سنوات (١٢٢٩-١٢٣٩) عندما استحوذ الإمبراطور فريدريك الثاني على المدينة بعد توقيعه معاهدة سلام (أو استسلام) مع سلطان مصر الكامل ابن أخ صلاح الدين.سار المماليك على خطى سابقيهم الأيوبيين بعدما سيطروا على سوريا إثر دحرهم للمغول في موقعة عين جالوت في فلسطين عام ١٢٦٠.

واستمروا بإنشاء المؤسسات الخيرية في القدس إلى الحد الذي أضفى على المدينة مظهرًا إسلاميًا شاملًا بحلول منتصف القرن الرابع عشر. تجلى هذا المظهر حول الحرم الشريف على شكل جدار متين من المدارس والرباطات على طول حوافه الغربية والشمالية، بالإضافة إلى عدد من المباني المتناثرة داخله كقبة قايتباي. وازدحمت الشوارع الممتدة غربًا من الحافة الغربية للحرم أو شماله بالمؤسسات الدينية والأبنية الخدمية مثل الخانات والحمامات والأسواق التي استغلت كأوقاف مدرة للدخل لدعم المؤسسات الدينية. أشهر هذه الأبنية هو سوق القطانين (تجار القطن)، الذي يبدأ من باب القطانين الرائع ذي المقرنصات في منتصف الجهة الغربية للحرم الشريف ويفتح على ممر حجري مقبى به متاجر وخان وحمامين، كلها مبنية من الحجر الأبيض. أنشأ هذا السوق الأمير تنكز الناصري نائب دمشق المملوكي المستنير عام ١٣٣٧، وأوقفه على الحرم الشريف والمدرسة التنكزية التي بناها هناك والتي استولت عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي عام ١٩٦٩.

سوق القطانين يبدأ من باب القطانين الرائع ذي المقرنصات في منتصف الجهة الغربية للحرم الشريف، أنشأه الأمير تنكز الناصري عام ١٣٣٧

أصبحت القدس مدينة إسلامية حقيقية، تعج بالمؤسسات التي ميزت جميع المدن المملوكية في العصور الوسطى ومنحتها هويتها الثقافية والدينية، مثل القاهرة ودمشق وطرابلس وحلب. ظلت القدس طوال ذلك الوقت مدينة مقدسة لأتباع الديانتين الإبراهيميتين الأخريين كما للمسلمين. وتدفق حجاجهم إليها من كل حدب وصوب. لم يمنعهم المسلمون لإيمانهم بأن الإسلام يستكمل رسالة أسلافه. فهذا هو في الواقع المبرر الأساسي لقدسية القدس للمسلمين، رسخته رحلة الرسول في إسرائه من مكة إلى القدس، ومعراجه منها إلى سدرة المنتهى. ولم تزل هذه المعجزة بؤرة تبجيل القدس ليس فقط ضمن الاعتقاد الإسلامي، ولكن أيضًا في الوجدان العربي والوعي الوطني الفلسطيني حيث أضحت صورة القدس، وخاصة قبة الصخرة فيها، رمزًا للهوية الفلسطينية التي مازالت تقاوم ثماني عقود من محاولات المحي والإلغاء.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى