نور الشريف.. كل حنان العالم

الجان و«الجان بريميير» متعدد الشخصيات، وكل تلك الأبعاد الإنسانية ولغة البساطة مع رجل الشارع..كلها جوانب إنسانية عظيمة مخفية عن جماهير ومشاهدي وعشاق فن النجم المحبوب؛ وستظل من أهم الأسرار التي لا يعلمها الكثير من داخل الوسط الفني وخارجه.

تعددت اللقاءات بيننا. حتى زياراتي الصحفية لإجراء حوارات معه، كانت دائمًا ما تكون في التاسعة. كان من عادته أن يستيقظ مبكرًا ليقرأ كل الصحف. ووجدته ممسكًا بجريدة الأهالي، حزينًا لزيارة مبارك للعاصمة البريطانية لندن في ذكرى العدوان الثلاثي على مصر وبورسعيد.

نور الشريف الذي قابلته بالمصادفة في العام 1989 أمام مبنى الأهرام القديم. كان خارجًا من المبنى وفي يده نسخة من رواية «قلب الليل» لأديب نوبل نجيب محفوظ. كنت في إجازة قصيرة من عملي كمحرر صغير يعمل بالصحافة الفنية والثقافية، أربكتني رؤيته وجها لوجه، غير مصدق. دخل عربته الفولفو نبيذية اللون، وشرع بالتحرك، لكنه توقف بعدما جريت إليه باهتمام. وكان ممسكا بنسخة من رواية “قلب الليل” لكاتبنا العظيم أديب نوبل نجيب محفوظ.

قدمت له نفسي، وحدثته بجرأة عن ضرورة إجرائي حوار معه، فمن الممكن أن يكون هذا الحوار سببا في تعييني بتلك الجريدة الوفدية التي كنت أعمل بها.

رفض نور في البدء، لأنه بصدد مغامرة فنية مع محسن زايد لإنتاج رواية «قلب الليل» المولع بها كثيرا كنص فيه صورة سينمائية عميقة وأبعاد فلسفية متعددة الرؤى. ولكي ينهي اللقاء قال: «مكتبي هناك آهوو في عمارة النهضة على رأس شارع رمسيس».

تجهمت وحزنت فقال لي، أشوفك في مكتبي. _ وأشار ولوح بيده اليسرى بالاتجاه قبل أن يمليني العنوان: رقم 9 عمارة النهضة بشارع رمسيس. حصلت على تليفونه يومها، وباغته بعد ذلك باسبوع بمكتبه، فقال لي: عندي لك مفاجأة طالما أنت مولع وغير حذر هكذا فيما يخص طموحاتك وأحلامك في السينما والأدب قال: مارأيك لو عملت بالمسرح؟ وقابلني بالمخرج منير راضي الذي عرفني بسيد راضى المخرج المسرحي الكبير الراحل الذي وفور سماعه لصوت نور عقب المهاتفة قال له: تؤمرني..نشغله وعملت في أول تجربة كمساعد مخرج في «دلع الهوانم» مع بوسي زوجة الراحل محمد جابر عبدالله الشهير بنور الشريف. في أيام البروفات الأولى، ظل يحضر لعدة أيام لمراقبة العرض والتقاط الصور الفوتوغرافية. وعندما زارنا في يوم الافتتاح جريت إليه وسألته: هل تذكرني يا أستاذ، فقال: نعم يا حسين يا صعيدي وبورسعيدي!

وأضاف بعدما وشوش بوسي في أذنها: بوسي بتحبك أوي، شد حيلك علشان هي مرشحاك تسافر معهم بيروت لتقدموا العرض هناك. واستدار ليلتقط لي خمس صور من زوايا مختلفة وصورا أخرى عقب انتهاء العرض لكافة المشاركين، حتى العمال كان مصرًا على تقديمهم في أول الكادر.

يومها أحسست بجمال الدنيا، وحنان الأقدار التي ساقتنا في هذا الطريق. طلب نور من ضياء أن يوصلني حتى منزلي بالعباسية. وذهبت بعد شهر تقريبًا لأجري معه حواري المؤجل

وتوالت اللقاءات في ترعة المريوطية في منزل البهي الفنان الأوبرالي حسن كامي. وضحك نور وأبدى سعادته بوجودي وكانت معه صحافية مصرة على إجراء حوار معه لمجلة الإذاعة والتليفزيون. كانت تطارده منذ شهور ولضيق الوقت كان يعتذر أيضا. في ذلك اليوم سجل الحوار للصحفية الشابة القادمة من صعيد مصر وخاصة بعد معرفته بالضرورة الملحة لتعيينها مباشرة من خلال حوارها مع النجم الكبير.

ربت على كتفها وأخبرها عني: حسين دا نفسه من زمان يجري حوار معي.. الآن من حقه زيك أسجل معاه. واقترب مني بحنو ليردد: كلكم كده انتهازيين وكله عايز يتعين. ضحكت!

وبالفعل تعينت المحررة بعد حوارها مع نور بشهر فقط بمجلة الإذاعة والتليفزيون. فقلت له: عارف إن حضرتك بتحب فيلم “حدوتة مصرية”، فقال طبعا من أهم أفلام يوسف شاهين، سيرته الذاتية. قلت له:أنا أعشق أغنية منير “حدوتة مصرية” .قال: وكلام عبد الرحيم منصور، قال نور والضحكة تملأ وجهه البشوش وملامحه المرحه. غني له حدوتة مصرية يا حسين..غنيتها فبكى وبكى ضياء الميرغني وتركت بوسي الأرجوحة في حديقة فيلا حسن كامي لتستمع بإنصات وتراقب دموع زوجها الذي نهض واقفا وأشعل سيجارة في ركن منزو مظلم.

سهرنا للفجر وعاد ليحدث الممثل ضياء الميرغني عن ضرورة التنوع في الشخصيات التي يقدمها وإلا سيحرق نفسه ووافقه سيد راضي الرأي.

وعند انصرافنا، كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا ركبت مع ضياء الميرغني وفتح نور سيارته ليفاجأ بسيدة عجوز تجر عربة خضار جهة ترعة المريوطية، كانت عربة نور تسبقنا ومعه زوجته. ترك السيارة وقصد العجوز في ظل غبشة صيفية..وتوقفت كافة السيارات على ممر عبور الترعة.ونزلت أتلصص من خلفه أتابعه.لأراه وهو منحن يربت على كتف السيدة التي تشي ملامحها بتخطي الخامسة والسبعين تقريبا.لا نعرفها ولا هو أيضًا، بعثها القدر في طريقه. ضرب يده في جيبه الخلفي وأخرج حزمة نقود..ثم عاد للسيارة وتناول مبلغا آخر من المال من تابلون الفولفو.وضعه في يدها وضم كفيه على كف السيدة العجوز فبكت وقت أن دفعته بحب وقد طفرت الدموع من عينيها كنهر منسال ليدفع عربتها الكارو بيديه وأنا واقفا مشدوها بجانبه.

يومها أحسست بجمال الدنيا، وحنان الأقدار التي ساقتنا في هذا الطريق. طلب نور من ضياء أن يوصلني حتى منزلي بالعباسية. وذهبت بعد شهر تقريبا لاجري معه حواري المؤجل فقال لي: لولا رفضي لإجراء هذا الحوار من قبل ماكنت قد تركت أنت بلدك، حدثني عن بورسعيد يا عبد الرحيم قلت: حدثني أنت يا أستاذ. قال: هل تعلم أنه وقت القطيعة العربية مع مصر كانت عودتي من بيروت عن طريق ميناء بورسعيد، دخلته ليلا في العام 1978 ونا بحب البلد دي..كل الطرق مقفولة وبعد كامب ديفيد..وصمت نور لدقائق طالت..لكن..مش عارف أقول إيه..ياترى السادات خطأ..ولا أحسن الصرف بتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل.

نور الشريف من فيلم «قلب الليل» ١٩8٩

تعددت اللقاءات بيننا.حتى زياراتي الصحفية لإجراء حوارات معه، كانت دائما ماتكون في التاسعة. كان من عادته أن يستيقظ مبكرا ليقرأ كل الصحف..ووجدته ممسكا بجريدة الأهالي، حزينًا لزيارة مبارك للعاصمة البريطانية لندن في ذكرى العدوان الثلاثي على مصر وبورسعيد. وعلا صوته وزعق في المكتب وسمعت من يقول له..شخص لا أعرفه: يااستاذ دا تقديمك لفيلم الكرنك داا ضد رأيك الذي سمعته من دقائق. فرد نور الشريف: موقف الفنان الحق لا يمين ولا يسار ولا وسط..الفنان رسول للعدل وصاحب رسالة وداعي للحق والخير والجمال وأنا مدرك جيدا طبيعة دور إسماعيل شيخون في “الكرنك”.

تحدث نور ذلك اليوم كثيرا. وكان حزينا لعدم إقبال الجماهير على فيلمه “قلب الليل”. وجاءه تليفون على الأرضي من عاطف الطيب..وذكر له الطيب رحمه الله ماقاله المنتج العظيم والسيناريست مطيع ومحسن زايد: قول لنور دا مش فيلم جماهير. ومن الأول أنا متأكد انه لو صمد اسبوع في دور العرض يبقى عظيم. وهاهو الفيلم يعرض للأسبوع الثاني ضحك نور فباغته بسؤال عن “قلب الليل”، فقال: كان حلم من أحلامي..جعفر الراوي كان واكل دماغي، رواية من أهم الأعمال الفلسفية للأستاذ نجيب.

قرأ عادل السيناريو وأعجبه بشكل ما، مع تغيير تفاصيل ومشاهد وأجزاء كثيرة من الحوار. وقدم الفيلم وعرض لأسابيع طويلة بدور السينما في مصر

أنتج نور بعد ذلك ومع شركة فن للإنتاج السينمائي اللبناني فيلم “ناجي العلي” مشاركة مع اللبناني وليد الحسيني لتقوم الدنيا ولا تقعد ضد نور وما قدمه من إساءات للأنظمة العربية كافة. هاجمته الصحافة وجنَّد له الجيوش إبراهيم سعده رئيس تحرير جريدة أخبار اليوم آنذاك. وعقدنا ومصر كلها بمثقفيها لقاءات تضامنية مع نور وجاءت كل الأقطاب .من أقصى اليمين لأقصى اليسار لتناصره خاصة وأنه كان قد منع بشكل مريب وغير رسمي من ممارسة نشاطاته الفنية بالتليفزيون المصري. كتب إبراهيم سعدة مقالات عديدة لمهاجمته.وانتهت الموقعة بعودته للتليفزيون بعدما امتلأت نقابة الصحافيين بالآلاف من مناصريه.

بعد ذلك بسنوات التقيته في مكتبه العام 2002 ليشكو من جحود أحد الأصدقاء، السيناريست خالد البنا والذي احتضنه نور لسنوات وعينه مديرا لمكتبه بشركة إنتاج ( إن بي ) فاتصل به خالد منذ ساعة ليخطره بتقبل اسفه وانسحابه من شركة الإنتاج السينمائي ـ كان خالد قد انتهى من كتابة السيناريو الأول وكان فيلم “جزيرة الشيطان”، فكان رد نور الشريف: عمري مااقف أمام طموحاتك..(تعال وهات السيناريو.. صوره واحضر نسختين . غير الأصل المكتوب، وقرأ السيناريو وهاتف النجم الكبير عادل إمام وامتدح له السيناريو الجديد، وأخبره بأنه يتمنى أن يقرأه «هو لشاب قابلته عندي منذ سنوات».

قرأ عادل السيناريو وأعجبه بشكل ما مع تغيير تفاصيل ومشاهد وأجزاء كثيرة من الحوار.وقدم الفيلم وعرض لأسابيع طويلة بدور السينما في مصر.وحاول بعدها خالد الإعتذار فلم يلتفت نور لأية اعتذارات غير ستة كلمات خرجت من فيه للسيناريست الجديد: ماتنساش يا خالد ان في نجاحك أنت أو أي موهبة جديدة ستضيف الكثير والجديد للسينما.

وفي الحفل الخاص بالعرض الخاص لفيلم الكيت كات بسينما كريم 2 وأثناء جلوسي في الظلمة بجانب السيناريست وحيد حامد والمخرج داود عبد السيد. سمعت من يشيع أن هناك جفوة أو خصومة بين نور الشريف ومحمود عبد العزيز..كان يوسف شاهين يهرول بعد أن انطفأت الأنوار لأنه هو من كان يؤجر ويدير سينمات كريم 1،2، وأوديون..بدأ الفيلم.سمعت نور يلزم مقعده خلفي مباشرة.وجلس محمود عبد العزيز أمامي وانتهي نصف الفيلم. وفي مشهد موت بائع الفول، سمعت نور يبكي.في الظلام.

انتهي الفيلم على تصفيق حاد ومدوٍ لمدة قاربت الربع ساعة.وتضاء الأنوار ويهرول نور ليحتضن محمود ويبكيان سويا وبات الشريف يردد: ياااه يا محمود عمري ما أحلم أقدم الدور كده، قتلتني عدة مرات بإيماءات عيون الشيخ حسني، يا حبيب عمري يا محمود.. والتفت الجماهير لتحتشد حول النجمين الكبيرين وهما يبكيان سويا وتنفرط الضحكات مختلطة ببكائهما الحار وكلا منهما يربت على كتف الآخر ويقبل رأسه ويردد نور الشريف في النهاية..ضحكت عليا يا محمود وخلتني غرت..كنت بحلم أقدم الدور ده.. من اليوم أنت تسطر تاريخا جديدا لفنك..وعلاقتك بالتمثيل يا شيخ حسني.

نور الشريف ومحمد منير في فيلم «حدوتة مصرية» ١٩8٢

لم أره إلا كبيرًا؛ نور الشريف، محمد جابر عبدالله. ممثل الطبقات المصرية كافة في أفلام عبرت عن آلالام وطموحات كل الشرائح الإجتماعية، رحل عن تسعة وستين عاما وبعض الأشهر بعدما عرفته الأوساط السينمائية والثقافية الفكرية الإبداعية في الوطن العربي بخروجه عن المألوف وتحدي المخاطر ونسف كل محظور سواء في السينما أو المسرح أو حتى الدراما التليفزيونية.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 59

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى