خط النّار.. أصل الحكاية الأوكرانية

ما يجري في كييف، هذه الأيام، ليس حدثاً عابراً، بل تعود أصوله إلى شتاء 2014، يومها كنت في «الميدان»، في قلب العاصمة الأوكرانية، ودوّنت يوميّاتي فيها، إن العودة إليها تتيح لنا فهم خلفيات ما يدور على الأرض منذ الـ24 والعشرين من فبراير الماضي.

***

في مطار بوريسبيل الخالي لحظتها من الطّائرات، عدا طائرة الخطوط النمساويّة، التي وصلت على متنها، بدا الوضع مريبًا. في الدّاخل لم تكن صالة الواصلين تعجّ بحركة طبيعيّة كما يمكن أن نتخيلها في مطارات أخرى. لمحت جنديين يقفان أمام مدخل الصّالة، طلب مني أحدهما التّوجّه إلى رواق يؤدي إلى نقطة مراقبة جوازات السّفر، تشرف عليه ضابطة في الجيش، بعينين غائرتين وشعر أصفر وملامح تتجاوز الأربعين. نظرت قليلا في الباسبور الأخضر ثم خاطبتني بالروسيّة. لم أفهم شيئا. فأعادت بإنجليزية خافتة سؤالي إن كنت أتكلم الروسيّة. أجبتها بالنّفي، وحاولت أن أتدارك الوضع بالإمساك بجواز سفري الجزائري، وإظهار الفيزا الأوكرانية، لكنها لم تتعامل معي بإيجابية ونادت على جندي آخر، قادني بدوره إلى مكتب تحقيق مجاور. دخل هو وبقيت أنا في الخارج أنتظر ربع ساعة، كنت خلالها أرى جنودًا يدخلون ويخرجون من المكتب نفسه، لكنني لم أستطع السّؤال عن مصير التّحقيق، فهم لم يكونوا يتكلمون فيما بينهم سوى الروسية أو الأوكرانية. وجاء الفرج بظهور الجندي السابق نفسه حاملا الجواز، طلب مني مرافقته إلى الضابطة، التي ختمته سريعا.

وكمسافر غير مدرك وجهته، فكّرت أن أول شيء توجبّ عليّ القيام به هو تحويل حوالي مئة أورو كانت في جيبي إلى العملة المحلية «هريفنا». وجدت شابة عشرينية خلف شباك مكتب تحويل العملات، كانت وحيدة وتبدو كئيبة وهي تشتغل إلى غاية منتصف الليل في مطار دولي شبه خالٍ من حركة المسافرين. من المؤكد أنها لم تكن قد رأت زبائن منذ ساعات، وربما تفاجأت بزبون يأتي في طرف الليل. لم أسألها، كما أفعل عادة عن سعر التّحويل، ولم أفاوض، ومرّرت ورقة المئة أورو من تحت العازل الزجاجي. نظرت إليها، قلّبتها بين راحتي يديها، ثم سجلتها وسلمتني حوالي 12000 هريفنا. مبلغ كبير جدًا. ما يعادل راتبا شهريا لموظف حكومي في البلد. في الخارج، وكعادة المطارات، وجدت بعض سائقي السيارات النفعيّة يترصدون زبونًا تائهًا. عرفوا أنني أجنبي وحاولوا مخاطبتي بالإنجليزية، بالقول إنهم يعرضون سعرا جيدا ويمكنهم إيصالي حيثما أشاء، لكني واصلت طريقي بحثا عن سيارة أجرة، فقد علّمتني التّجربة الجزائرية تجنّب سيارة «الكلوندستان»، ووجدت سيارة أجرة لشاب طويل كان يدخن بعمق سيجارة كما لو أنها السّيجارة الأخيرة. حييته وقلت مباشرة «باسينا!»، فهم القصد، واسم الشّارع الذي أودّ الذّهاب إليه «”!welcome”. ردّ عليّ وفتح الباب، قبل أن أواصل «how much?»، فمن الضّروري تحديد السّعر سلفا تجنبا لأي اِحتيال لاحقا، لاسيما أنني لم أكن أعرف تسعيرة سيارات الأجرة. «200» أبلغني بالرقم بكتابته على هاتفه النّقال. وصلت الرسالة، وانطلقنا إلى وجهتنا التي لم تكن تبعد عن المطار بأكثر من نصف ساعة (30 كلم).

في الطّريق، بدت لي كييف مدينة مظلمة. الإنارة العمومية ضعيفة، بشكل يوحي للزّائر أن المدينة تغرق في نوم، ليس فقط بيولوجيا بل أيضا اجتماعي. لكسر الصمت شغّل السّائق الرّاديو على محطة بولونية، كانت تبث أغان أميركية. حاول أن يضفي على السّيارة جوا ناعما، لم يشعرني فعلا بالرّاحة ولم أتجرأ عن سؤاله عن الوضع العام في البلد، تجنبا لإثارة أي حساسيّة، لم أكن أفكر لحظتها سوى في الوصول إلى الغرفة التي حجزتها والنوم قليلا بعد ساعات طويلة من السّفر والانتظار. وصلنا مقصدنا كما كان مدونا في إشعار الحجز الذي كان معي.

***

قضيت اللّيلة الأولى في نوم مضطرب، واستيقظت صباحا في الثّامنة والنّصف. شربت قهوة على عجل في مقهى مجاور، ثم اشتريت شريحة هاتف محلية، اشتريتها دونما تقديم معلومات شخصية، ولا صورة عن جواز السّفر أو البطاقة الشّخصيّة كما يحصل عادة. ففي محل بيع الهواتف والشرائح لم يطلب منّي الشاب الأبيض النّحيف سوى دفع ثمنها. واتصلت فورا بإيفان، حددّت معه موعدا وتوجهت إلى ساحة الميدان، قلب الثورة.

* * *

وصلت الميدان، المطوّق بالمتاريس والعجلات المطّاطية والأسلاك الشائكة، لأجد إيفان في انتظاري. كان قد أتمّ للتوّ تسجيل برنامجه الإذاعي الثقافي في راديو أوكرانيا الوطني. وبعد تبادل سريع للتحيّة (دوبرودين، بمعنى «مرحباً» بالأوكرانية) بدأ في التأفُّف من الوضع «هل شاهدت التلفزيون الرّوسي اليوم؟ يبدو أنهم صارمون في مسعى وأد الثّورة». كان وجه إيفان جدّ منقبض وهو يتحدَّث عن مخاوفه من تقسيم البلد إلى ثلاثة أجزاء (شرق و جنوب مواليان لروسيا، وغرب موالٍ للاتّحاد الأوروبي)، رددت عليه بنظرة صامتة، وحوَّلت طرفي جهة امرأة عجوز، تجاعيد وجهها المتعب تشي أنها تجاوزت السّبعين، وهي تمشي بخطى متثاقلة، في ذهاب وإياب بين طرفي الميدان، حاملة صورة ابنها الشّاب الذي فقد ذراعه الأيسر في الثورة الأخيرة، وتطلب صدقات من المارّة. كان الميدان وقتها ما يزال يعجّ بالحركة، والمعتصمون ذوو البدلات العسكريّة والأحذية الخشنة، من رجال ونساء، الذين رفضوا إخلاء المكان، بدأوا بتحضير خيامهم المنتصبة وسط الميدان، المُزَيَّنة بالأعلام الأوكرانية الصّفراء والزرقاء، أعلام المدن الدّاخلية التي جاؤوا منها (أغلبها مدن غرب البلاد) وأعلام دول أوروبية مختلفة، لقضاء ليلة باردة أخرى، فدرجات الحرارة مساءً تنخفض إلى أدنى من عشر درجات مئوية، ولا بديل عن التدفئة بالحطب وبقايا أثاث خشبي في ظلّ غياب أدنى شروط العيش الكريم لهم ولبعض أفراد عائلاتهم التي تقاسمهم الخيام نفسها. هم يقتسمون المعاناة على أرض الميدان (أو ساحة الاستقلال، رمز تحرُّر البلد عام 1991)، ويتزوَّدون بالماء من صهاريج  تأتي صباحاً لتعبئة قواريرهم البلاستكية، وأحياناً لا تكفي الجميع، يأكلون من المطاعم الميدانية الصغيرة التي تسهر عليها نسوة، وتعتمد على مساعدات وتضامن الأوكرانيين فيما بينهم، وهي مطاعم ارتجالية لا تقدِّم أكثر من صحن حساء ساخن، لم أستسغ طعمه القوي ، كأس شاي وبعض الخبز، وأحياناً قليلة الجبن. كان الأكل متوافر للمعتصمين. الجميع يستفيد من نصيبه. غالبية محلات الأكل السّريع التي كانت موجودة حول الميدان أغلقت أبوابها اضطراراً ومحلات أخرى خفَّضَت أسعارها، لأن المارّة مثل الثوّار يكتفون بالأكل مجّاناً هناك. حتى غير الخائضين في الثورة استغلوا الوضع لإشباع معدتهم مع الثوار.

يشتغل إيفان في الإذاعة، منذ أربع سنوات، وفي الترجمة الأدبيّة من الفرنسيّة إلى الأوكرانيّة، فقد سبق أن نقل بعض الكتّاب الفرنسيين الكلاسيكيين إلى لغته الأم، وهو كاتب معروف بين أوساط قرّاء البلد، ويعمل كثيراً لينال قليلاً. «متوسِّط الرّاتب لا يكفي لإيجار شقة صغيرة. الرشوة والمحسوبية ترسَّخَتا، وصارتا جزءاً من حياتنا اليومية. أمي مثلاً اضطرت أن تغلق متجراً صغيراً لها بسبب ضغط مسؤولين مرتشين عليها”.

أيام الرئيس الأسبق يانكوفيتش (1950)  كان الوضع – بحسب شهادات مَن التقيتهم – جدّ سيء، والممارسات اللاقانونية كانت تنخر جسد البلد. كلّ إجراء إداري عادي كان يستوجب على المواطن دفع مقابل مادي يكون أحياناً باهظاً، والمبلغ يتغيَّر باستمرار بحسب أهمّيّة الخدمة المقدَّمة من طرف الموظّف وبحسب طبيعة المواطن – الزبون الطالب لها. والعلاج في المؤسسات الاستشفائيّة العموميّة، حيث من المفروض أن تقدّم خدمات مجّانية، يلزم المواطن أيضاً دفع رشاو مقابل الحصول على موعد فحص طبي روتيني. وضع عَكَّر –  أيضاً – حياة أبناء الجاليات العربية المقيمة في كييف، على غرار حمزة (37 سنة)،  وهو من جنسيّة تونسية يقيم في كييف منذ ستّ سنوات، متزوِّج من أوكرانية، وأب لطفلة لم تتجاوز شهرها السابع «افتتحت قبل عامين كافيتيريا صغيرة، وسط المدينة، لكني لم أستمر أكثر من سنة. بعض أعوان الشرطة كانوا يأتون نهاراً ويفرضون عليّ دفع عمولات» يقول. الكافتيريا التي تحدث عنها حمزة تقع في شارع صوفيا، بالقرب من فندق شهيرة بالمدينة يحمل الاسم نفسه، وليس بعيدا عنه  ينتصب تمثال زعيم قوقاز أوكرانيا التاريخي بوهدان خمل نيتس كيي (1595-1657). حال حمزة لا يختلف عن حالَيْ وليد الأردني، وحسام المصري الذين قابلتهم جميعاً قرب السّوق العربية (Bessarabsk) وهي سوق مغطاة لا تحمل من العرب سوى التسمية. في داخلها قابلتني وجوه رجال ونساء وفتية وفتيات كلهم أوكرانيون يعرضون سلعهم، من خضار ولحوم وزهور للزبائن. الخاصية العربية للسوق أنه يضم محلين صغيرين لبيع الفلافل والشاورما.

***

تبدو كييف حكاية ممزّقة، تعيش اضطرابا وشتاتا داخليين، غير قادرة على استيعاب الصدمات التاريخيّة المتتاليّة، والتي تزايدت حدّتها في السّنوات العشر الماضية.. في تلك المدينة القلقة التقيت سلافا يختلفون عن نظرائهم في الجنوب في احتفالهم المستمر بالحياة رغم كل المحن.. وعدم الثّقة سمة لا يتنكرون لها، فهم لا يعرفون أين تسير بهم الأقدار.. مع ذلك فهم مستمرون في الحلم.

شوارع المدينة الواسعة لا تختلف كثيرا عن شوارع عربية، تغلب عليها الفوضى المنظمة. في شارعي سوسييفا، ثم ميلينكوفا، حيث يوجد برج البثّ التلفزيوني الفولاذي (أعلى برج فولاذي في العالم 385 مترًا) صادفت أناسًا مبتسمين تارة ومتوجسين خيفة من الغريب تارة أخرى، يقتصدون في الكلام ولا يطيلون التحديق في عيون المارّة، لا يثرثرون سوى في الثورة وتبعاتها.

* * *

ميدان كييف (تسمية ميدان جاءت من اللّغة التتارية)، مُنشَأ وفق الطّراز الستاليني، مع نصب ضخم مخلد لاستقلال البلد. قبل ثورة2013، كانت السّاحة تمثل مركز ثقل المدينة، ونقطة تقاطع الطّرقات والشوارع الفرعية، موعد تلاقي الأصدقاء والعائلات، ورحم الاحتجاجات السياسية. ووسط ركام مخلَّفات الثورة، وأكياس الرّمل التي تحيط بالخيام والبناية الإدارية الشاهقة، التي كانت تؤوي متظاهرين، ووسط أعلام أوكرانيا، وأسفل فندق (Ukraine) حيث كان يقيم صحافيون، صادفت كتّابا متظاهرين: أندري كروكوف، إيرنا كيربا، يوري وماري. أشارت إيرنا بأصبعها إلى بناية يسارَ نصب الميدان التذكاري «من هناك كان القناصة يطلقون الرّصاص على المتظاهرين». كانت  لحظات تراجيدية عاشها كُتًاب أوكرانيون من الدًاخل، مدافعين عن صوتهم بالدّم متشبثين بحقهم في التخلُّص من النّظام القديم. الكتّاب المعتصمون في الميدان يتداولون فيما بينهم عبارة ساخرة وعميقة «شكراً بوتين!» ليس حباً في زعيم الكرملين ورئيس روسيا، وإنما لتهوُّره في التدخُّل في شؤون البلد، ووصف ثورة الشعب بأذلّ الأوصاف، كنعت المعتصمين بالفاشيين، والحكومة التي تلت الثّورة بالحكومة الانقلابية، وما أثاره موقفه من تراصّ في الصفوف وتوحّد بين الأوكرانيين، مع اتِّساع روح السخرية بين ثوار الميدان الذين علَّقوا صوراً، ورسومات تشبّه الرئيس الهارب يانوكوفيتش بهتلر، وتصف بوتين بالنازي.

***

يوم الـ18 من فبراير 2014 شاهد ديمترو رفيقه أليكسندر يسقط أرضاً جراء رصاصة في الرأس. «كان في سنّ الثالثة والعشرين، طالباً بمعهد الهندسة المعمارية» يضيف. يومها كان المعتصمون مخيَّرين بين التراجع عن ثورتهم التي بدأت نهاية نوفمبر2013، بعد أن علَّقت الحكومة مشروع التوقيع عن اتفاقية التجارة الحرّة مع الاتحاد الأوروبي، أو مواجهة عنف قوات الشرطة، والاستمرار إلى الأمام. وافقوا على الخيار الثاني، تمخّض عنه 82 قتيلاً وأكثر من 600 جريج. ديمترو، ومثل المئات من الأوكرانيين الآخرين، وضع صورة رفيقه أليكسندر أمام نصب الاستقلال وسط الميدان، وصار كلّ يوم يضع وردة أمامها تذكاراً له. «سوق الورد والشموع ازدهرت بعد الثورة» يعلِّق ضاحكا.ً  فنفق ميترو الميدان تحوَّل إلى سوق كبيرة لبيع الورد، والشموع للمعزّين وبالقرب من صورة رفيقه كانت تصطفّ صور لعشرات الضحايا والجرحى الذين واجهوا الرّصاص بصدور عارية، والمارّة يتوقّفون كل مرة أمامها للصّلاة، والدّعاء لهم بالرحمة. «بعد الثورة سجلنا 113 بلاغاً بمفقودين» أخبرتني أوكسانا، وهي طالبة وناشطة متطوِّعة جاءت لمساعدة المعتصمين في توزيع الدّواء، ثم الإشراف على خليّة الإبلاغ عن المفقودين، وهي خليّة اتخذت من مقرّ بلدية كييف مقرّاً لها. ملامح أوسكانا  توحي كما لو أنها بربرية، أضاعت طريقها في بلاد الأوكران. كانت متوسطة القامة، ببشرة بيضاء محمرّة، وعينين كبيرتين مخضرتين. كانت كما لو أنها قادمة من عين الحمام أو من سيدي يعيش، قبائلية، شمال أفريقية الجمال. حدثتني عن عملها المرهق، والمتواصل يوميا مدة عشر ساعات كاملة، قبل أن تعتذر بالانصراف للردّ على سيل المكالمات الهاتفية، الواردة من عدة مدن داخلية، تسأل عن المفقودين. «في السابق، كان مقرّ البلدية ممنوعاً على عامّة الشعب. كان خاصّاً –  فقط –  بكبار المسؤولين، من هنا كانت تُتَّخَد أهمّ القرارات. وهو من أوائل المؤسَّسات الرسميّة التي احتلَّها المتظاهرون في بدايات الثورة» تحدَّث إيفان. الدخول إلى المبنى نفسه لم يكن سهلاً. دوريّة من المتطوِّعين كانت تقوم بحماية المدخل. طلبوا مني بطاقة إثبات الهوية وبطاقة صحافية وتقديم معلومات شخصية قبل السماح لي بتخطّي البوابة.

من الداخل، يبدو مبنى البلدية مُصَمَّماً وفقا للطراز المعماري النيو – كلاسيكي. في الطّابق العلوي نُصِبت شاشة كبيرة لعرض صور وفيديوهات مُقْتَبَسة من أيام الثورة، وحُوِّل الطابق الأرضي منه إلى مستشفى ميداني، حيث التقيت فاسيل (31سنة)، وهو ممرِّض متطوِّع. «قمنا بإسعاف وعلاج العشرات من الثوار.  لست أعرف – تحديداً –  عددهم، كانوا يأتون بالعشرات يومياً، نقوم بكل ما يمكن فعله، وبحسب الإمكانيات المتوافرة، لعلاجهم» قال. إلى جانبه كانت تقف الدكتورة إيرين (46سنة) التي تحدّثت «مع سقوط النظام السابق خَفّ الضغط على المستشفى. نقوم حالياً بمتابعة بعض الحالات بأدوية وضمادات، أما المصابون إصابات بالغة وخطيرة فقد تَمَّ تحويلهم إلى مستشفيات أوروبية، في ألمانيا، وبولونيا، وجمهورية التشيك”.

***

الحلقة الأضعف في سلسلة المتغيِّرات التي تلت ثورة الميدان هي شريحة المواطنين الأوكرانيين المقيمين في روسيا. بحسب رومان فهم يدفعون ثمناً مضاعفاً بسبب التزام البعض منهم بخيار الثورة، ومشاركتهم رأي المعتصمين بإحداث القطيعة مع النظام الروسي. «على كلّ، لن يخسروا الشيء الكثير لو أجبروا على العودة إلى بلدهم الأم» يقول المتحدِّث نفسه. فهم يعانون خلف الحدود من ظروف جدّ صعبة، غالباً ما يجدون أنفسهم ضحية استغلال من طرف المؤسَّسات الإنتاجية، وورش الأشغال في روسيا، مع تأخُّر أرباب العمل في دفع أجورهم، كما أن جزءاً كبيراً منهم محروم من الضمان الصّحي. ظروف سيِّئة لليد العاملة الأوكرانية في روسيا تكرَّست في السنوات الماضية، ازدادت سوءاً، مع إصرار ناشطي الميدان على استبعاد كلّ الرموز السوفياتية، والروسية من الواجهة، حيث تبنّوا أيام الثّورة شخصيّة شاعر أوكراني متمرد، رمزاً  لثورتهم: تاراس شفتشينكو، الذي صادفت سنة 2014 الذكرى المئوية الثانية لميلاده ( 1814 – 1861). فقد نصب تمثال خشبي له وسط الميدان، وتداول شعراء محلّيّون على منصة الميدان (حيث كانت تُلقى الخطب السياسية فقط) لقراءة نصوص ومقاطع شعرية له، كما نُشِرت صورته على لافتات إشهارية  توزَّعت على مختلف كبريات شوارع المدينة.

تاراس شفتشينكو ليس شاعر البلد فحسب، بل هو عميد الأدب الأوكراني، مناضل صلب، سُمِّيَت جامعة كييف باسمه، اشتُهِر – خصوصاً – بنصوصه المناهضة لحكم روسيا القيصرية، والمُحَرِّضة على إحياء الوعي القومي. تعرَّضَ للنفي وللمنع من دخول أوكرانيا عشر سنوات كاملة، أيام القيصر نيكولا الأول، وعاش تحت المراقبة البوليسية حتى وفاته. شتاء2014 ، صار شفتشينكو سَيّد الميدان ورمز الثورة الأوكرانية بلا منازع، ونصوصه الحماسية تُرَدَّد بصوت عالٍ، كما كان التوانسة عام2011 يردِّدون قصيدة أبي القاسم الشابي.

مجلة “الجديد”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى