موجة الماركسية الثالثة أو الماركسية السوسيولوجية

تبدو الماركسية مثل أسطورة طائر الفينيق الكنعانية، لا تكاد تشهد موتها حتى تنهض من رمادها من جديد. فأمام تفاقم الأزمات التي خلقتها الرأسمالية في شكلها النيوليبرالي، يزداد البحث عن السبل الكفيلة بإعادة الروح إلى الماركسية، أو الاستفادة من عناصرها الإيجابية لجعل العالم أكثر عدلا ومساواة.
خلنا أن الماركسية اندثرت باندثار النظام السوفييتي، وأنها صارت أثرا بعد عين، وفي الأقل محطةً من محطات الفكر الإنساني بخيره وشره، ولكنها لا تزال حاضرة في الخطاب الفكري والأيديولوجي، سلبا أم إيجابا. ثمة من يعارضها صراحة، ويدعو إلى قبرها نهائيا بدعوى أنها مزيفة أو خطيرة أو عفا عليها الزمن وما عادت تستجيب لمقتضيات الحاضر؛ وثمّة من يحاول تعميمها وإعادة نشر كل الطروحات التي يحتوي عليها الأثر المؤسس الذي وضعه ماركس وإنجلز؛ وثمّة أيضا من استفاد منها في إثراء متن نظري وإغناء نظريات اجتماعية أخرى على غرار دوركايم وبورديو وفوكو وهابرماس، على اختلاف مقارباتهم؛ ومنهم كذلك من يسعى إلى إعادة بنائها بدعوى أننا يمكن أن نجد في تلك النظرية التي صيغت في أواسط القرن التاسع عشر الهيكلَ المفهومي لنظرية اجتماعية جديدة، تسمح، إذا ما حوّرنا بعض مصطلحاتها ومفاهيمها، بتحليل الأشكال المخصوصة التي تتخذها الرأسمالية اليوم تحليلا أكثر فعالية، تمهيدا للانعتاق منها. وهذا هو المسعى الذي اختاره عالم الاجتماع البريطاني مايكل بوراوي، وزميلة الأميركي الراحل إريك أولين رايت (1947 – 2019).
في كتابهما الذي صدر مؤخرا “لأجل ماركسية سوسيولوجية”، يرفض بوراوي ورايت التخلي عن تعلقهما بالماركسية، ويدعوان إلى ضرورة إعادة بنائها وفق تصورات تنهل كثيرا من كتابات الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 – 1937) والنمساوي كارل بولانيي (1886 – 1964)، فالماركسية الكلاسيكية في رأيهما لها بعد جوهري يتمثل أساسا في قدرتها على التعبير عن تحول اجتماعي راديكالي ناجم عن الثورة الصناعية، حيث تمت إعادة تحديد العلاقات الاجتماعية في المجتمع الصناعي انطلاقا من الاستغلال التجاري لأبعاد معينة من الحياة الاجتماعية. وعلى هذا الأساس، فإن الماركسية في رأيهما تدعونا إلى تحليل الحداثة بوصفها مجتمعا لوثته علاقات الاستغلال، أي علاقات هيمنة طبقة على طبقة أخرى والاستحواذ عليها. فرب العمل لا يكتفي بأن يكون له نفوذ على العامل، بل يستغل موقعه للاستيلاء على قوة عمل أجرائه بتجريدهم من حقوق الملكية الخاصة بهم، والتي يفترض أن يحصلوا عليها مقابل عملهم. في الماركسية الكلاسيكية، تكمّل هذه النظرية النقدية للرأسمالية نظرية انعتاق تتخذ شكل مادية تاريخية تتنبأ بالانهيار الذاتي المحتوم للرأسمالية والظهور التلقائي للاشتراكية.
غير أن المشكل في نظر بوراوي وأولين رايت هو التالي: لئن سمحت سيرورة التاريخ بتأكيد وجاهة النقد الماركسي للرأسمالية، فإن ذلك النقد أظهر أيضا أن نظريته عن الانعتاق لم تكن صائبة. فالرأسمالية التي تثبت أنها أكثر مرونة مما كان متوقعًا في مواجهة الأزمات المتعددة التي لا تزال تعاني منها، تميل إلى تكثيف حضورها من خلال إدماج المزيد من أبعاد الحياة الاجتماعية في مجال الاستغلال التجاري. من هذه الزاوية يبرز موقفان ممكنان: يتمثل الأول في التخلي عن نظرية الانعتاق والاحتفاظ فقط بنظرية نقد الرأسمالية. في هذه الحالة، تصبح الماركسية قاعدة لنظرية كلبية وقدرية عن المجتمع تضعنا بوحشية في مواجهة العنف والظلم اللذين لا مفرّ منهما، وهو الطريق الذي سارت عليه مدرسة فرانكفورت. أما الثاني فيتمثل في اقتراح نظرية انعتاق أخرى، أكثر امتثالا للحقيقة التاريخية، يمكن أن تكمّل النظرية النقدية للرّأسمالية التي جاءت بها الماركسية الكلاسيكية. وفي هذه الحالة، يغدو المشروع عبارة عن إعادة بناء الماركسية مع الحفاظ على مطمحها في أن تكون “اشتراكية علمية”، أي نظرية انعتاق ترتكز على فهم موضوعي للعالم الاجتماعي. وفي نظر بوراوي وأولين رايت يمكن لعلم الاجتماع، بوصفه علما تجريبيا يرتكز على المظاهر الواقعية للعالم الاجتماعي، أن يحل محلّ المادية التاريخية. ومن ثَمّ، أطلق المؤلفان على مشروعهما الذي سيعاد بناؤه “الماركسية السوسيولوجية”.


وفي اعتقادهما أن اعتبار بعض المفكرين الماركسية الكلاسيكية نظرية عفا عليها الزمن سببه أن الرأسمالية الحالية لم تعد هي نفسها التي واجهها ماركس وإنجلز في منتصف القرن التاسع عشر، لأنها، بوصفها مسار تسليع للحياة الاجتماعية، ليست حقيقة اجتماعية قارّة. ومن ثمّ لا يمكن للماركسية، باعتبارها مقاوَمةً للرأسمالية، أن ترضى بأن تكون نظرية قارّة، بل ينبغي أن تتجدد هي أيضا حتى تتماشى مع أشكال الاستغلال الجديدة التي تظهر في العالم الاجتماعي. من هنا، يدعونا المؤلفان إلى التفكير في العلاقة بين الرأسمالية والماركسية من منظور تاريخي، وفي التطور التاريخي لذلك التضاد حسب موجات ثلاث:
الموجة الأولى التي تمتد من نهاية القرن الثامن عشر إلى الحرب العالمية الأولى توافق نشوء رأسمالية ذات صلة بالثورة الصناعية وتسليع العمل. في مواجهة ذلك، حملت الماركسية الكلاسيكية نموذجًا للتحول التدريجي للرأسمالية إلى اشتراكية، ذلك النموذج الذي يتجسد تاريخيًا في تطور قانون العمل الذي يعطي شكلاً تعاضديّا متزايدا لنمط الإنتاج الرأسمالي.
الموجة الثانية، التي تمتد من الحرب العالمية الأولى إلى السبعينات، توافق تطور رأسمالية مالية مرتبطة بتأسيس اقتصاد دولي قائم على معيار الذهب. في مواجهة ذلك، كان النموذج التحرري يتمثل في دولة راعية تعيد تأميم اقتصادها وتتولى إعادة توزيع فائض السلع. وقد استطاعت اشتراكية الدولة تلك أن تتخذ أشكالًا مختلفة تراوحت بين الماركسية السوفييتية (بما فيها شكلها الستاليني) وبين ماركسية العالم الثالث (كما تجلت في كتابات فرانز فانون، أو في التجربة الكوبية).
وأمّا الموجة الثالثة فهي التي تمتد من السبعينات إلى الآن، وتتمثل في رأسمالية مرتبطة بالاستغلال المفرط للطبيعة ومواردها وتطور الإنترنت، فبعد وضع العمل والمال تحت نير استغلال السلع، صارت رأسمالية الموجة الثالثة قائمة أساسا على تسليع البيئة والمعلومات. وأمام وضع تلك سماته، كان لا بد للماركسية أن تتجدد، إذ لم يعد انسحاب الدولة كافيا للاستجابة للأزمات غير المسبوقة التي نواجهها اليوم، ليست الأزمة البيئية فقط وإنما أيضا أزمة الحريات الفردية المرتبطة بتسليع البيانات الشخصية.
إن طموح الماركسية الاجتماعية الذي اقترحه بوراوي وأولين رايت هو المساهمة في “الموجة الثالثة” من الماركسية من خلال مواجهة مسألة شطط الرأسمالية في سياق التسليع المعولم. بعد التخلي عن نموذج اشتراكية الدولة، صار من واجب الماركسية الاجتماعية أن تفكر في الانعتاق انطلاقا من تصور للمجتمع يجعل العمل السياسي لسلطة الدولة لامركزيّا. لهذا يستدعي بوراوي وأولين رايت مفهوم “المجتمع المدني”، وهو مصطلح يدلّ على فضاء اجتماعي مستقل عن الدولة والاقتصاد، يمكن أن تنبثق منه إجراءات مواطنيّة كثيرة التنوع، ما يسمح بإلغاء بعض أبعاد تسليع الحياة الاجتماعية ولو على صعيد محدود، كالتعاونيات والميزانيات التشاركية والبنوك الاجتماعية والدخل الموحّد وحتّى الموسوعات التعاونية مثل ويكيبيديا، وهو ما عبّر عنه المؤلفان بـ”الطوباويات الفعلية”.
وفي رأيهما أنه إذا كانت تلك المبادرات “طوباوية”، فلأنها تحمل نموذجًا للانعتاق لا يزال عسير المنال، فلئن جاز اعتبار ويكيبيديا مثلا من حملة مشعل تحرر المعرفة (أي إلغاء التسليع)، فإن مساهمتها في تحقيق هذا المشروع لا تزال متواضعة لاصطدامها بالقيود التي تفرضها حقوق المؤلفين. ولكنها مبادرات “فعلية” برغم تواضعها لأنها تقيم الدليل على أن المثل الأعلى للانعتاق المرتبط بمبادرة مواطنية ذاتية الإدارة ليس حبرا على ورق. في هذا الإطار، تبدو المهمة التي يسندها بوراوي وأولين رايت إلى الماركسية الاجتماعية هي إقامة الدليل على أن مبادرات المواطنين المحلية والمستقلة يمكن أن تكون، إذا ما تمّ تعميمها وربطها ببعضها بعضا، نقطة انطلاق لظهور مجتمع اشتراكي. فالوظيفة الأساسية للطوباوية الفعلية في نظر بوراوي وأولين رايت، هي أنها تؤدي إلى تجريد الرأسمالية من طبيعتها. ومثالهما يسمح بتغذية المخيال الجماعي، وبث الأمل في الانعتاق، حيث يؤكّدان أنه يمكن خلق أشكال أخرى من المجتمعات، لأن الرأسمالية في رأيهما ليست نظامًا اجتماعيًا طبيعيًا أو ضروريّا. بيد أن الأمر لا يتعلق بفحص الطرق الجديدة للتواصل مع الآخرين، تلك الطرق التي تجعلها هذه الطوباوية الفعلية ممكنة، ولا إظهار فيمَ جعلتها تلك المبادرات أكثر حرية.
والمؤلفان لا يزعمان أن الحلول الجديدة مثالية، أو أن الرأسمالية مصيرها الانهيار، وإنما يؤكدان أن التطور الرأسمالي سوف يتسم بسلسلة من فترات التجديد المؤسساتي استجابة لتناقضات إعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية. والأطروحات الثلاث التي يفصّلان القول فيها، ونعني بها: أطروحة إعادة الإنتاج الاجتماعي للعلاقات الطبقية، وأطروحة تناقضات الرأسمالية، وأطروحة الأزمة المؤسساتية وتجديدها، تمثل الإطار الأساس الذي يقوم عليه برنامج الماركسية الاجتماعية. وهي، كما هو الشأن مع نظرية مصير الرأسمالية، ليست مجرد خطاب تأويل، ولكنها تهدف إلى تحديد الآليات الفعلية الموجودة في المؤسسات الحقيقية.


لم يكن ماركس عالم اجتماع، ولم يرد ذكر “علم الاجتماع” في مؤلفاته، ورغم ذلك عُدّ من رواد هذا الحقل المعرفي، فقد تم الاعتراف بأهمية تحاليله، حول مفهومه للمجتمع ونظرياته عن الطبقات الاجتماعية والدولة والأيديولوجيا، ليس من قِبل الماركسيين فقط، وإنما أيضا من قبل أعلام آخرين مثل ماكس فيبر وريمون آرون، ولو أنهما لا يشاطرانه ما توصل إليه. ولكن من الصعب المزاوجة بين الماركسية كأيديولوجيا وعلم الاجتماع.
ثم إن الماركسية السوسيولوجية التي يدعو إليها المؤلفان، إذ تركّز تحليلها على مسألة استغلال السوق وتحولاتها الاجتماعية – التاريخية، تفتقر إلى المصادر المفهومية للتفكير بشكل إيجابي في الانعتاق الذي تمت صياغته تجريديّا إمّا في شكل سلبي (كمَخرج من الرأسمالية) أو في شكل صيَغيّ (كشيء ممكن). كما أن إلغاء التسليع وحده لا يضمن خلق عالم اشتراكي، فقد يؤدي إلى الديمقراطية الاجتماعية أو الاشتراكية الديمقراطية بقدر ما يؤدي إلى الفاشية، وهو ما اعترف به بوراوي في خاتمة الكتاب. ذلك أن نظرية انعتاق منطقية ينبغي أن تُمفصل فكرة إلغاء التسليع مع فكرة الديمقراطية، بوصفها فكرة إيجابية عن رباط اجتماعي متحرر من الاستغلال والاستبداد.
والمهمة في نظرنا عويصة إلى أبعد حد. أولا بسبب الإرث السياسي الثقيل للماركسية، واستحالة الفصل كليا بين التحليل العلمي والأيديولوجيا السياسية. ثانيا، لأن كتابات ماركس، ككل النصوص الكبرى التي أضفيت عليها قداسة، ملتبسة وتحتمل تأويلات عديدة. والتأويلات التي جرى بها العمل حتى الآن أدت إلى خراب دول كثيرة وإبادة ملايين البشر، فضلا عن مصادرة الحريات، باسم الجنة الماركسية الموعودة.

مجلة “الجديد”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى