هل نيقولاي جوجول روسي أم أوكراني؟

د. ‬محمد‭ ‬نصر‭ ‬الدين‭ ‬الجبالي
Latest posts by د. ‬محمد‭ ‬نصر‭ ‬الدين‭ ‬الجبالي (see all)

يحتل‭ ‬نيقولاى‭ ‬جوجول‭ ‬مكانة‭ ‬كبيرة‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬الأدبين‭ ‬الروسى‭ ‬والأوكرانى،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يمثل‭ ‬حلقة‭ ‬هامة‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬العلاقات‭ ‬الثقافية‭ ‬الروسية‭ ‬الأوكرانية. ‬وقد‭ ‬ذهب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬الجسر‭ ‬الذهبى‭ ‬الذى‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬القيم‭ ‬الروحية‭ ‬التى‭ ‬شكّلها‭ ‬الأدبان‭ ‬الروسى‭ ‬والأوكرانى‭.‬
ومن‭ ‬وقت‭ ‬لآخر،‭ ‬وخاصة‭ ‬مع‭ ‬توتر‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬روسيا‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2014،‭ ‬يدور‭ ‬جدل‭ ‬ثقافى‭ ‬حاد‭ ‬بين‭ ‬النخبة‭ ‬المثقفة‭ ‬فى‭ ‬البلدين،‭ ‬حيث‭ ‬يرى‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬أحقيته‭ ‬بأن‭ ‬ينتسب‭ ‬جوجول‭ ‬له‭ ‬ولأدبه‭. ‬يرى‭ ‬المثقفون‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا‭ ‬أن‭ ‬جوجول‭ ‬أوكرانى‭ ‬وأن‭ ‬الدعاية‭ ‬الروسية‭ ‬قد‭ ‬نسبته‭ ‬لروسيا‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬حق‭ ‬وأن‭ ‬الروس‭ ‬اعتمدوا‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬كون‭ ‬الكاتب‭ ‬قد‭ ‬أبدع‭ ‬مؤلفاته‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية‭ ‬وعاش‭ ‬فى‭ ‬عاصمة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الروسية‭ ‬بطرسبورج‭. ‬

فيما‭ ‬يرى‭ ‬الروس‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬عاش‭ ‬معظم‭ ‬سنوات‭ ‬عمره‭ ‬فى‭ ‬روسيا،‭ ‬كما‭ ‬أبدع‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية‭ ‬وليس‭ ‬الأوكرانية،‭ ‬ولذا‭ ‬فمن‭ ‬حقهم‭ ‬أن‭ ‬ينتسب‭ ‬الكاتب‭ ‬إلى‭ ‬قائمة‭ ‬عظماء‭ ‬الأدب‭ ‬الروسى‭ ‬الذين‭ ‬سطروا‭ ‬تاريخه‭ ‬فى‭ ‬عصره‭ ‬الذهبى‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر.

فمن‭ ‬حيث‭ ‬النشأة‭ ‬والجنسية،‭ ‬يعد‭ ‬جوجول‭ ‬أوكرانياً‭ ‬بالفعل،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬قد‭ ‬قضى‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬فى‭ ‬بطرسبورج‭. ‬وقد‭ ‬قضى‭ ‬جوجول‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬القصيرة‭ (‬مات‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬42‭ ‬عاماً‭) ‬خارج‭ ‬روسيا،‭ ‬حيث‭ ‬سافر‭ ‬الى‭ ‬أوروبا‭ ‬والشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وغاب‭ ‬طويلاً‭ ‬عن‭ ‬بلاده‭. ‬وتعد‭ ‬الفترة‭ ‬التى‭ ‬عاشها‭ ‬فى‭ ‬بطرسبورج‭ ‬أكثر‭ ‬الفترات‭ ‬إنتاجاً‭ ‬فى‭ ‬حياته.

وقد‭ ‬كتب‭ ‬جوجول‭ ‬مؤلفاته‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتقن‭ ‬الأوكرانية‭ ‬أيضًا،‭ ‬ما‭ ‬يؤكده‭ ‬المفردات‭ ‬والتراكيب‭ ‬الخاصة‭ ‬به،‭ ‬والتى‭ ‬استخدمها‭ ‬فى‭ ‬نصوصه‭ ‬الروسية‭. ‬بل‭ ‬وصل‭ ‬بالبعض‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬القول‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتقن‭ ‬لغته‭ ‬الأم‭ ‬تماماً‭ ‬وكان‭ ‬بمقدوره‭ ‬الكتابة‭ ‬بالأوكرانية،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يرغب‭ ‬فى‭ ‬ذلك،‭ ‬وسلك‭ ‬الطريق‭ ‬الذى‭ ‬سلكه‭ ‬الجميع‭ ‬بالكتابة‭ ‬بالروسية،‭ ‬وكانت‭ ‬أكثر‭ ‬شيوعاً‭ ‬ولغة‭ ‬سكان‭ ‬عاصمة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الروسية.

من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬جوجول‭ ‬فى‭ ‬بادئ‭ ‬نشاطه‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتقن‭ ‬الروسية‭ ‬تمامًا،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬خلال‭ ‬خمس‭ ‬سنوات‭ ‬فقط،‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬الكاتب‭ ‬الأول‭ ‬فى‭ ‬روسيا،‭ ‬وأعظم‭ ‬من‭ ‬أبدع‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية‭ ‬فى‭ ‬زمنه‭. ‬ورغم‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬جوجول‭ ‬كثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يلوم‭ ‬نفسه‭ ‬ويعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬أجنبيًا‭ ‬عن‭ ‬الأراضى‭ ‬الروسية،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬يبذل‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الجهد‭ ‬لإتقان‭ ‬اللغة‭ ‬ودراستها‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أعمق.

وهكذا‭ ‬تمتع‭ ‬جوجول‭ ‬منذ‭ ‬صغره‭ ‬بامتلاك‭ ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬اللغوية‭ ‬بإتقانه‭ ‬اللغتين‭ ‬الروسية‭ ‬والأوكرانية‭. ‬ورغم‭ ‬اعترافه‭ ‬بعشقه‭ ‬لروسيا‭ ‬وانتمائه‭ ‬لها‭ ‬كوطن،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ارتباط‭ ‬الكاتب‭ ‬بأوكرانيا‭ ‬والثقافة‭ ‬الأوكرانية‭ ‬عظيم،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أثر‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬الكتاب‭ ‬الأوكران‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬العشرين.

ومع‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬تزداد‭ ‬شعبية‭ ‬جوجول‭ ‬وتتطور‭ ‬تقاليده‭ ‬وأثره‭ ‬فى‭ ‬أدب‭ ‬من‭ ‬خلفه‭ ‬من‭ ‬الكُتّاب،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬فى‭ ‬روسيا‭ ‬وأوكرانيا،‭ ‬بل‭ ‬فى‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬وفى‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬لا‭ ‬ينافسه‭ ‬فى‭ ‬ابداعاته‭ ‬سوى‭ ‬ليف‭ ‬تولستوى‭ ‬وفيودور‭ ‬دوستويفسكى‭.

وتتمثل‭ ‬قوة‭ ‬وسحر‭ ‬لغة‭ ‬مؤلفات‭ ‬جوجول‭ ‬فى‭ ‬المرونة‭ ‬والتأقلم‭ ‬وانتقاء‭ ‬الوسائل‭ ‬الأسلوبية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬الفنية‭ ‬المختلفة.

وقد‭ ‬ترك‭ ‬الكاتب‭ ‬أثرا‭ ‬كبيرًا‭ ‬فى‭ ‬تاريخ‭ ‬روسيا‭ ‬التى‭ ‬رأى‭ ‬فيها‭ ‬قلباً‭ ‬للعالم‭ ‬الأرثوذكسى‭ ‬الذى‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تجديد‭ ‬فى‭ ‬الفكر‭ ‬الدينى،‭ ‬حتى‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬عقيدتها‭ ‬راسخة‭ ‬قوية‭ ‬فى‭ ‬مواجهة‭ ‬هجمة‭ ‬العقيدة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬من‭ ‬الغرب.

اشتهر‭ ‬نيقولاى‭ ‬جوجول‭ ‬بأنه‭ ‬ناثر‭ ‬وشاعر‭ ‬ومؤلف‭ ‬مسرحى،‭ ‬على‭ ‬قدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الموهبة‭. ‬وُلد‭ ‬فى‭ ‬عام‭ ‬1809‭ ‬فى‭ ‬قرية‭ ‬من‭ ‬القرى‭ ‬التابعة‭ ‬لمدينة‭ ‬بولتافا‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا‭. ‬وتنتمى‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬الطبقة‭ ‬الأرستقراطية‭. ‬توفى‭ ‬والده‭ ‬وهو‭ ‬بعد‭ ‬صبيًّا‭ ‬فى‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة،‭ ‬وكانت‭ ‬والدته‭ ‬شديدة‭ ‬التدين‭ ‬وقد‭ ‬أحبها‭ ‬بشدة.

عندما‭ ‬أتم‭ ‬العاشرة،‭ ‬أرسله‭ ‬والده‭ ‬للدراسة‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬بولتافا،‭ ‬حيث‭ ‬تعهده‭ ‬مدرس‭ ‬خاص‭ ‬بإعداده‭ ‬للالتحاق‭ ‬بالمدرسة‭. ‬ثم‭ ‬التحق‭ ‬جوجول‭ ‬بالمدرسة‭ ‬فى‭ ‬مدينة‭ ‬نيجين‭ ‬وقضى‭ ‬فيها‭ ‬الفترة‭ ‬من‭‬1821-1828‭. ‬ورغم‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬طالبًا‭ ‬مثاليًّا‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتمتع‭ ‬بذاكرة‭ ‬قوية‭ ‬ساعدته‭ ‬على‭ ‬الاستعداد‭ ‬لاجتياز‭ ‬الاختبارات‭ ‬قبل‭ ‬موعدها‭ ‬بعدة‭ ‬أيام‭. ‬وكان‭ ‬الأدب‭ ‬الروسى‭ ‬والرسم‭ ‬المادتين‭ ‬المفضلتين‭ ‬لديه‭. ‬وأثناء‭ ‬الدراسة‭ ‬أولع‭ ‬مثل‭ ‬رفاقه‭ ‬بأشعار‭ ‬بوشكين،‭ ‬وأصدر‭ ‬مجلة‭ ‬حائط،‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬أولى‭ ‬إبداعاته.

منذ‭ ‬صغره،‭ ‬شغف‭ ‬جوجول‭ ‬بالثقافة‭ ‬الأوكرانية‭ ‬ومثّل‭ ‬مع‭ ‬أصدقاء‭ ‬مسرحية‭ ‬أوكرانية‭ ‬كتبها‭ ‬بنفسه،‭ ‬والطريف‭ ‬أنه‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬مسيرته‭ ‬الحياتية‭ ‬كان‭ ‬مولعًا‭ ‬بالفلكلور‭ ‬الأوكرانى‭ ‬والعادات‭ ‬والحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬وجمع‭ ‬مادة‭ ‬ضخمة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعات،‭ ‬ما‭ ‬نجد‭ ‬أثره‭ ‬فى‭ ‬كتابة‭ ‬‮”‬أمسيات‭ ‬فى‭ ‬مزرعة‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬ديكانكا”.

وقد‭ ‬شغف‭ ‬جوجول‭ ‬منذ‭ ‬صباه‭ ‬بالمسرح‭ ‬والقيام‭ ‬بالأدوار‭ ‬المسرحية،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يرجع‭ ‬السبب‭ ‬فى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬والده‭ ‬كان‭ ‬محبًّا‭ ‬للمسرح،‭ ‬وكاتبًا‭ ‬لعدد‭ ‬من‭ ‬المسرحيات.

وقد‭ ‬قضى‭ ‬جوجول‭ ‬طفولته‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬حيث‭ ‬عشق‭ ‬التقاليد‭ ‬والأغانى‭ ‬والرقصات‭ ‬والحكايات‭ ‬الشعبية،‭ ‬ولهذا‭ ‬نجد‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬مؤلفاته‭ ‬تدور‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا.

وفى‭ ‬عام‭ ‬1828‭ ‬انتقل‭ ‬جوجول‭ ‬إلى‭ ‬عاصمة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬الروسية‭ ‬حينها،‭ ‬مدينة‭ ‬سان‭ ‬بطرسبورج‭.‬ وكان‭ ‬حلمه‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بعمل‭ ‬ذى‭ ‬أهمية‭ ‬وقيمة،‭ ‬ويستفيد‭ ‬من‭ ‬موهبته الطبيعية‭ ‬فى‭ ‬أى‭ ‬من‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة‭ ‬الإنسانية. ‬وحاول‭ ‬أن‭ ‬يمتهن‭ ‬التمثيل‭ ‬فى‭ ‬أحد‭ ‬مسارح‭ ‬بطرسبورج،‭ ‬كما‭ ‬جرَّب‭ ‬الوظيفة‭ ‬العادية،‭ ‬وكذا‭ ‬الكتابة‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬أوساط‭ ‬الممثلين‭ ‬المسرحيين‭ ‬فى‭ ‬العاصمة،‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬يتقبله‭ ‬هؤلاء‭ ‬بينهم‭. ‬كما‭ ‬بدا‭ ‬له‭ ‬العمل‭ ‬الوظيفى‭ ‬مملًا‭ ‬ورتيبًا‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفعه‭ ‬للاستقرار‭ ‬نهائيًّا‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬حلمه‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬والإبداع‭ ‬الأدبى.

كان‭ ‬أول‭ ‬عمل‭ ‬أدبى‭ ‬منشور‭ ‬لجوجول‭ ‬هو‭ ‬قصيدته‭ ‬الرومانسية‭ ‬‮«‬هانز‭ ‬كيوخيلجارتين‮»‬‭ (‬1829‭). ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تجربة‭ ‬غير‭ ‬ناجحة‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬شراء‭ ‬جميع‭ ‬النسخ‭ ‬من‭ ‬المكتبات‭ ‬وحرقها.

وبعد‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬الفاشلة‭ ‬فى‭ ‬الكتابة‭ ‬توجّه‭ ‬جوجول‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا،‭ ‬وكانت‭ ‬لديه‭ ‬أحلام‭ ‬رومانسية،‭ ‬وكان‭ ‬يؤمن‭ ‬أنه‭ ‬سيحقق‭ ‬شيئًا‭ ‬غير‭ ‬عادى‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭. ‬كما‭ ‬فكَّر‭ ‬فى‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬أمريكا‭ ‬أيضًا‭ ‬حتى‭ ‬يستطيع‭ ‬تحقيق‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يحلم‭ ‬به‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬عاد‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬بطرسبورج‭ ‬خلال‭ ‬شهر،‭ ‬وبدأ‭ ‬العمل‭ ‬موظفًا‭ ‬فى‭ ‬مختلف‭ ‬الإدارات‭ ‬الحكومية‭ ‬بالعاصمة‭. ‬وفى‭ ‬عام‭ ‬1831‭ ‬تعرف‭ ‬جوجول‭ ‬على‭ ‬الشاعرين‭ ‬الكبيرين‭ ‬فاسيلى‭ ‬جوكوفسكى‭ ‬وألكسندر‭ ‬بوشكين‭ ‬وتأثر‭ ‬بهما‭ ‬كثيرًا‭ ‬وانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬إبداعاته‭.

واختار‭ ‬جوجول‭ ‬موضوعًا‭ ‬جديدًا‭ ‬للكتابة‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬حياة‭ ‬الشعب‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا‭. ‬وطلب‭ ‬من‭ ‬والدته‭ ‬أن‭ ‬تبعث‭ ‬إليه‭ ‬بأخبار‭ ‬الحياة‭ ‬المعيشية‭ ‬اليومية‭ ‬للسكان‭ ‬خاصة‭ ‬الفلاحين،‭ ‬وعن‭ ‬معتقداتهم‭ ‬الدينية‭ ‬والأساطير‭ ‬والخرافات‭ ‬والملابس‭ ‬والعادات‭ ‬وغيرها‭. ‬وفى‭ ‬1829‭ ‬نشر‭ ‬جوجول‭ ‬أولى‭ ‬مؤلفاته‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬ليلة‭ ‬فى‭ ‬شهر‭ ‬مايو‮»‬‭ ‬و«أمسية‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬إيفان‭ ‬كوبالى‮»‬‭ ‬وغيرها.

وفى‭ ‬عام‭ ‬1834‭ ‬بدأ‭ ‬العمل‭ ‬مدرسًا‭ ‬بقسم‭ ‬التاريخ‭ ‬بجامعة‭ ‬سان‭ ‬بطرسبورج،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬كرس‭ ‬حياته‭ ‬كلها‭ ‬للكتابة‭ ‬والأدب.

‬وكان‭ ‬أول‭ ‬عمل‭ ‬أدبى‭ ‬كبير‭ ‬للكاتب‭ ‬هو‭ ‬‮«‬أمسيات‭ ‬فى‭ ‬مزرعة‭ ‬قرب‭ ‬ديكانكا‮»‬‭ (‬1832‭) ‬ويعد‭ -‬بصدق‭- ‬موسوعة‭ ‬فى‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للفلاحين‭ ‬الأوكرانيين،‭ ‬ويعكس‭ ‬بوضوح‭ ‬عاداتهم‭ ‬وتقاليدهم‭ ‬القديمة‭ ‬المتوارثة‭. ‬ويتسم‭ ‬العمل‭ ‬بمسحة‭ ‬رقيقة‭ ‬من‭ ‬الفكاهة‭. ‬وقد‭ ‬أعجب‭ ‬الشاعر‭ ‬بوشكين‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالكتاب‭. ‬ولقى‭ ‬الكتاب‭ ‬نجاحًا‭ ‬واسعًا‭ ‬بين‭ ‬النقاد‭ ‬والقراء‭.

وشهد‭ ‬عام‭ ‬1832‭ ‬قيام‭ ‬جوجول‭ ‬بأول‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬موطنه‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬غادرها‭. ‬وفى‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬زار‭ ‬موسكو‭. ‬وواصل‭ ‬تناول‭ ‬الموضوع‭ ‬الأوكرانى‭ ‬فى‭ ‬كتاباته‭. ‬فى‭ ‬1835‭ ‬أصدر‭ ‬مجموعتين‭ ‬قصصيتين‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬أرابيسك‮»‬‭ ‬و«مير‭ ‬جورود‮»‬‭. ‬جلب‭ ‬هذان‭ ‬العملان‭ ‬اعترافًا‭ ‬به‭ ‬ككاتب‭ ‬كبير‭ ‬فى‭ ‬الأوساط‭ ‬الثقافية‭ ‬الروسية‭. ‬ويضم‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أرابيسك‮»‬‭ ‬قصصًا‭ ‬عن‭ ‬أحداث‭ ‬وأبطال‭ ‬فى‭ ‬بطرسبورج‭ ‬ومنها‭ ‬‮«‬بورتريه‮»‬‭ ‬و«مذكرات‭ ‬مجنون‮»‬‭ ‬و«شارع‭ ‬نيفسكى‮»‬‭. ‬فيما‭ ‬ضمت‭ ‬المجموعة‭ ‬الثانية‭ ‬قصص‭ ‬‮«‬تاراس‭ ‬بولبا‮»‬‭ ‬و«قصة‭ ‬الشجار‭ ‬بين‭ ‬إيفان‭ ‬إيفانوفيتش‭ ‬وإيفان‭ ‬نيكيفروفيتش‮»‬‭ ‬و«ملاك‭ ‬زمان‮»‬‭.‬

وقد‭ ‬حلم‭ ‬جوجول‭ ‬بأن‭ ‬يصبح‭ ‬عالم‭ ‬تاريخ‭ ‬عظيمًا‭.‬ وشهدت‭ ‬ثلاثينيات‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬تأسيس‭ ‬جامعة‭ ‬كييف،‭ ‬فسعى‭ ‬إلى‭ ‬الالتحاق‭ ‬بها‭ ‬رئيسًا‭ ‬لقسم‭ ‬التاريخ،‭ ‬وحلم‭ ‬بكتابة‭ ‬عمل‭ ‬مرجعى‭ ‬تاريخى‭ ‬كبير‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬أحلامه‭ ‬لم‭ ‬يقدر‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تتحقق‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬رئيسًا‭ ‬لقسم‭ ‬التاريخ‭ ‬بجامعة‭ ‬بطرسبورج‭ ‬وعمل‭ ‬بها‭ ‬أستاذًا‭ ‬حتى‭ ‬عام‭ ‬1835‭. ‬وخلال‭ ‬فترة‭ ‬عمله،‭ ‬قام‭ ‬بتأليف‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬البحوث‭ ‬العلمية‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬فى‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭.‬

وفى‭ ‬1836‭ ‬أصدر‭ ‬رائعته‭ ‬الكوميدية‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬المفتش‭ ‬العام‮»‬‭ ‬والتى‭ ‬يسخر‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬طبقة‭ ‬الموظفين‭ ‬الروس‭ ‬والبيروقراطية‭ ‬الفاسدة‭ ‬أثناء‭ ‬حكم‭ ‬القيصر‭ ‬نيقولاى‭ ‬الأول‭.‬

وكان‭ ‬جوجول‭ ‬يعرف‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياة‭ ‬الموظفين،‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬لسنوات‭ ‬موظفًا‭ ‬فى‭ ‬بداية‭ ‬حياته‭. ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬تجارب‭ ‬أخرى‭ ‬فى‭ ‬مجال‭ ‬المسرحيات‭ ‬الكوميدية،‭ ‬ونذكر‭ ‬منها‭ ‬مسرحياته‭ ‬‮«‬اللاعبون‮»‬‭ ‬و«الزواج‮»‬‭ ‬وغيرها‭.‬

وفى‭ ‬1836‭ ‬قرر‭ ‬جوجول‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬الخارج،‭ ‬وبقى‭ ‬هناك‭ ‬10‭ ‬سنوات‭ ‬عاش‭ ‬فيها‭ ‬متنقلًا‭ ‬بين‭ ‬فرنسا‭ ‬وسويسرا‭ ‬وألمانيا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬وقد‭ ‬أعجب‭ ‬كثيرًا‭ ‬بالحياة‭ ‬فى‭ ‬روما،‭ ‬حيث‭ ‬أنهى‭ ‬فيها‭ ‬قصته‭ ‬الشهيرة‭ ‬‮«‬المعطف‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬البطل‭ ‬الرئيسى‭ ‬موظفًا‭ ‬بسيطًا‭ ‬وإنسانًا‭ ‬على‭ ‬الهامش‭. ‬كما‭ ‬أنهى‭ ‬فيها‭ ‬قصته‭ ‬‮«‬روما‮»‬‭.‬

تعد‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬الأنفس‭ ‬الميتة‮»‬‭ ‬العمل‭ ‬الأهم‭ ‬للكاتب‭ ‬فى‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭. ‬وقد‭ ‬انتهى‭ ‬منها‭ ‬عام‭ ‬1841‭ ‬وهو‭ ‬بعد‭ ‬فى‭ ‬إيطاليا‭. ‬كان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تصدر‭ ‬الرواية‭ ‬فى‭ ‬جزءين‭.‬ وصور‭ ‬فيها‭ ‬واقع‭ ‬الحياة‭ ‬الروسية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يعتريها‭ ‬من‭ ‬عيوب‭ ‬وما‭ ‬يميزها‭ ‬من‭ ‬إيجابيات‭. ‬ويعرض‭ ‬جوجول‭ ‬للحياة‭ ‬اليومية‭ ‬الروسية‭ ‬سواء‭ ‬فى‭ ‬طبقة‭ ‬الملاك‭ ‬أو‭ ‬الفلاحين‭ ‬ويرسم‭ ‬لوحات‭ ‬رائعة‭ ‬للطبيعة‭ ‬الروسية‭. ‬وفى‭ ‬عام‭ ‬1842‭ ‬نشر‭ ‬روايته‭ ‬‮«‬تاراس‭ ‬بولبا‮»‬‭ ‬والتى‭ ‬تدور‭ ‬عن‭ ‬أحداث‭ ‬تاريخية‭ ‬واقعية‭ ‬وثورة‭ ‬الفلاحين‭ ‬فى‭ ‬أوكرانيا‭ ‬فى‭ ‬عامى‭ ‬1637‭-‬1638‭. ‬وقد‭ ‬استخدم‭ ‬جوجول‭ ‬مصادر‭ ‬تاريخية‭ ‬أثناء‭ ‬كتابة‭ ‬الرواية‭.‬

‭ ‬لعبت‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬تاراس‭ ‬بولبا‮»‬،‭ ‬دورًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬فى‭ ‬الترويج‭ ‬لأسطورة‭ ‬القوزاق،‭ ‬واستفاد‭ ‬منها‭ ‬قادة‭ ‬الحركة‭ ‬الوطنية‭ ‬الأوكرانية‭ ‬كثيراً‭ ‬فى‭ ‬القرنين‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والعشرين‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬القصة‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية،‭ ‬كان‭ ‬جوجول‭ ‬بالنسبة‭ ‬لهم‭ ‬رجلاً‭ ‬ساعد‭ ‬ودعم‭ ‬القضية‭ ‬الأوكرانية‭. ‬ولذا‭ ‬فمن‭ ‬غير‭ ‬المستغرب‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬الشاعر‭ ‬الأوكرانى‭ ‬الأشهر‭ ‬تاراس‭ ‬شيفتشينكو‭ ‬بكتابة‭ ‬قصيدة‭ ‬عن‭ ‬جوجول،‭ ‬مستخدمًا‭ ‬إشارات‭ ‬من‭ ‬‮«‬تاراس‭ ‬بولبا‮»‬‭.‬

وفى‭ ‬عام‭ ‬1842‭ ‬وأثناء‭ ‬إقامته‭ ‬فى‭ ‬أوروبا،‭ ‬فكر‭ ‬جوجول‭ ‬كثيرًا‭ ‬فى‭ ‬حياته‭ ‬ومعناها‭ ‬وسبب‭ ‬وجوده،‭ ‬ولجأ‭ ‬إلى‭ ‬الدين‭. ‬وكان‭ ‬عام‭ ‬1845‭ ‬صعبًا‭ ‬على‭ ‬جوجول‭ ‬حيث‭ ‬مر‭ ‬بمحنة‭ ‬وأزمة‭ ‬نفسية،‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬كتب‭ ‬وصيته‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يستعد‭ ‬للموت‭. ‬كما‭ ‬قام‭ ‬بحرق‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬من‭ ‬روايته ‬‮«‬الأنفس‭ ‬الميتة‮»‬‭‬ وكان‭ ‬ينتظر‭ ‬نشره‭. ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬قرر‭ ‬دخول‭ ‬الدير‭ ‬وأن‭ ‬يصبح‭ ‬راهبًا‭ ‬وينسحب‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الدنيا‭ ‬تمامًا‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬تراجع‭ ‬عن‭ ‬أفكاره‭ ‬تلك‭.‬

وفى‭ ‬عام‭ ‬1847‭ ‬صدر‭ ‬كتابه‭‬‮«‬مواضع‭ ‬مختارة‭ ‬من‭ ‬مراسلاتى‭ ‬مع‭ ‬أصدقائى‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يضم‭ ‬مراسلات‭ ‬حقيقية‭ ‬للكاتب‭ ‬مع‭ ‬أصدقاء‭. ‬وشهدت‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬اهتمامًا‭ ‬شديدًا‭ ‬بموضوع‭ ‬الدين،‭ ‬وانعكس‭ ‬ذلك‭ ‬فى‭ ‬مؤلفاته‭ ‬بوضوح،‭ ‬وقام‭ ‬بدراسة‭ ‬كتب‭ ‬القديسين‭. ‬وفى‭ ‬عام‭ ‬1848‭ ‬قرر‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬القدس‭ ‬للحج‭. ‬وبعد‭ ‬العودة‭ ‬واصل‭ ‬العمل‭ ‬فى‭ ‬الجزء‭ ‬الثانى‭ ‬من ‭‬‮«‬الأنفس‭ ‬الميتة‮»‬‭‬ والذى‭ ‬سبق‭ ‬وأحرقه‭.‬

وفى‭ ‬شتاء‭ ‬عام‭ ‬1852‭ ‬مر‭ ‬الكاتب‭ ‬بأزمة‭ ‬نفسية‭ ‬أخرى،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬أثناء‭ ‬فترة‭ ‬الصيام،‭ ‬حيث‭ ‬قرر‭ ‬جوجول‭ ‬الالتزام‭ ‬بشدة‭ ‬به‭ ‬حتى‭ ‬يطهر‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الآثام‭ ‬التى‭ ‬ارتكبها‭ ‬فى‭ ‬حياته‭. ‬وقد‭ ‬تحول‭ ‬الصيام‭ ‬عنده‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الإضراب‭ ‬التام‭ ‬عن‭ ‬الطعام‭ ‬حتى‭ ‬خارت‭ ‬قواه‭ ‬تمامًا‭ ‬ولم‭ ‬يفلح‭ ‬أصدقاؤه‭ ‬أو‭ ‬الأطباء‭ ‬بإقناعه‭ ‬بالعدول‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭. ‬وأدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬وفاته‭ ‬فى‭ ‬21‭ ‬فبراير‭ ‬1852‭.‬

وبعد‭ ‬تتبع‭ ‬مسيرة‭ ‬حياته،‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬ننسب‭ ‬جوجول‭ ‬إلى‭ ‬بلد‭ ‬بعينه‭ ‬سواء‭ ‬روسيا‭ ‬أو‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬بل‭ ‬يمكن‭ ‬التأكيد‭ ‬أنه‭ ‬كاتب‭ ‬عموم‭ ‬روسيا‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬التاريخية،‭ ‬أنه‭ ‬كاتب‭ ‬روسيا‭ ‬وأوكرانيا‭ ‬ومؤلفاته‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬قوى‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬الروسية‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬تطور‭ ‬الثقافة‭ ‬الأوكرانية‭.‬

يمكن‭ ‬بالطبع‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬جوجول‭ ‬أوكرانى،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬عاشقًا‭ ‬لروسيا،‭ ‬وكان‭ ‬عشقه‭ ‬لها‭ ‬يزداد‭ ‬يومًا‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬قال‭ ‬‮«‬روسيا‭ ‬تصبح‭ ‬قريبة‭ ‬إلى‭ ‬قلبى‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر،‭ ‬أعتبرها‭ ‬وطناً‭ ‬لى‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ذلك»‮‬‭.

لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الروح‭‬‮«‬المزدوجة‮»‬‭‬ لجوجول‭ ‬متشظية‭ ‬بين‭ ‬الثقافة‭ ‬الروسية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬والأصول‭ ‬الأوكرانية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬إنما‭ ‬الأمر‭ ‬بمثابة‭ ‬حب‭ ‬وعشق‭ ‬مضاعف‭ ‬ومتساوٍ‭ ‬تجاه‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬التى‭ ‬نشأ‭ ‬فيها،‭ ‬والإمبراطورية‭ ‬الروسية‭ ‬حيث‭ ‬رحل‭ ‬ليخدم‭ ‬الدين‭ ‬والثقافة‭ ‬الأم‭. ‬كان‭ ‬الأدب‭ ‬الروسى‭ ‬بالنسبة‭ ‬لجوجول‭ ‬بمثابة‭ ‬منبر‭ ‬يتحدث‭ ‬من‭ ‬خلاله‭ ‬الكاتب‭ ‬مع‭ ‬روسيا‭ ‬بأكملها،‭ ‬روسيا‭ ‬الأم‭ ‬والإمبراطورية‭ ‬الكبرى،‭ ‬وكان‭ ‬هو‭ ‬بمثابة‭ ‬مبعوث‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وممثلًا‭ ‬لها‭.

وهكذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬جوجول‭ ‬وما‭ ‬تركه‭ ‬من‭ ‬تراث‭ ‬عظيم‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يوحد‭ ‬بين‭ ‬الشعبين،‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬يفرق‭ ‬بينهما‭. ‬كان‭ ‬جوجول‭ ‬يكتب‭ ‬بالروسية‭ ‬ويفكر‭ ‬بالأوكرانية،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬يومًا‭ ‬على‭ ‬تقسيم‭ ‬الشعب‭ ‬السلافى‭ ‬أو‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬الفرقة‭ ‬بين‭ ‬أطيافه،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يشعر‭ ‬دومًا‭ ‬أنه‭ ‬ملك‭ ‬لهما‭ ‬معًا‭ ‬وخدمهما‭ ‬معًا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬قلبه،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬مدين‭ ‬لهما‭ ‬معًا‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حقق‭ ‬من‭ ‬شهرة‭ ‬ومجد‭ ‬وصيت‭ ‬ذاع‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬المعمورة‭.‬

ولا‭ ‬إجابة‭ ‬شافية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عبارة‭ ‬قالها‭ ‬الأديب‭ ‬نيقولاى‭ ‬جوجول‭ ‬بنفسه‭ ‬حين‭ ‬أشار‭ ‬فى‭ ‬حديثه‭ ‬لبعض‭ ‬أصدقائه‭: ‬‮«‬سأقول‭ ‬لكم‭ ‬كلمة‭ ‬واحدة‭ ‬ردًا‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬روحى‭ ‬أوكرانية‭ ‬أم‭ ‬روسية‭. ‬حقًا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماهية‭ ‬روحى‭. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬أميز‭ ‬يوماً‭ ‬أوكرانيا‭ ‬على‭ ‬روسيا‭ ‬ولا‭ ‬روسيا‭ ‬على‭ ‬أوكرانيا‭. ‬فالطبيعتان‭ ‬هبة‭ ‬كريمة‭ ‬من‭ ‬الرب،‭ ‬وكل‭ ‬منهما‭ ‬وكأنما‭ ‬عن‭ ‬قصد‭ ‬تمنحنى‭ ‬ما‭ ‬ينقص‭ ‬فى‭ ‬الأخرى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬بوضوح‭ ‬أنهما‭ ‬يكملان‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض‮”.

أخبار الأدب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى