مرآة العاشق

كانت الرّسالة أوّل أشكال الكلام الموجه من الله إلى البشر؛ فالأديان التي وصلتنا هي – على حدّ عبارة Julien Green – رسالة شخصيّة وجّهها الرّب إلى كلِّ واحدٍ منّا فردًا فردًا، نُقلت عبر الوحي بواسطة أنبيائه إلى البشر، ثمّ اتخذت الرِّسالة أشكالًا مُختلفة لكنها – في معظمها – لم تَحِدْ عن أصلها كوسيلة تبليغ.
تأتي الرسائل -دون سائر أشكال كتابات الذّات- كمرآة صادقة صافية، للتعبير عن الذّات بدون رتوش، أو تجميل؛ فالذّات في السّيرة الذاتيّة تخضع لدرجات من المراقبة، وإكراهات سواء خشية الأنساق الاجتماعيّة أو خشية الآخرين الذين يرد ذكرهم في السّيرة، ومن ثمّ لا تكون السّيرة – مهما ادّعى أصحابها – صادقة وخالصة في قول الحقيقة، لما تمرُّ به من مراحل تنقيّة وغربلة، وهو ما يتطلب الاستعانة بأداتي الحجب والحذف في كثير منها.

الرّسائل بمثابة الاطلاع على التاريخ المخفي أو المسكوت عنه للصفوة وليس للمُهمّشِين

فإذا كانت كتابة الذّات -بصفة عامة- بمثابة الإطلاع على التاريخ من أسفل -بمصطلح جيم شارب- فإنّ الرّسائل -بصفة خاصّة- بمثابة الاطلاع على التاريخ المخفي أو المسكوت عنه للصفوة وليس للمُهمّشِين، على نحو نقيض لما كرّسته مقولة جيم شارب، بردّ الاعتبار للمُهمّشين.
ثمّة فارق جوهريّ آخر بين الرّسائل وأشكال كتابة الذّات الأخرى كالسّيرة والمذكّرات، يتمثّل في أن الذّات – في السيرة الذاتيّة، أو المذكّرات – وهي تستحضرُ الماضي الخاصّ بها، تكون في الغالب واقعة تحت سُلْطة الحنين لما انتهى وانقضى، لذا نراها تعيد تشكيل هذا الماضي في صورة جديدة، لا وفقًا لما ترسّخ في الوعي (كما كان) وإنما حسب ما تريده (أن يكون) في اللاوعي، في حين الرسائل – شأنها شأن اليوميات – لا تستدعي الماضي، بل تسجّل الحاضر في لحظة تجلّيه، دون أن يخضع الخطاب للمراجعة أو التغيير بالحذف والاستبدال أو حتى العدول عما احتواه من آراء وتصريحات، بل هي دفقة شعوريّة واحدة في لحظة خاصّة جدًّا، وكأنها – حسب تعبير نزار قباني – «الأرض المثالية التي يركض الكاتب عليها، كطفل حافي القدمين، ويُمارِس فيها طفولته بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق. إنها اللحظات الصافية التي يشعر فيها الكاتب أنه غير مراقَب وغير خاضع للإقامة الجبرية».

الرسائل لا تستدعي الماضي، بل تسجّل الحاضر في لحظة تجلّيه، دون أن يخضع الخطاب للمراجعة أو التغيير بالحذف والاستبدال

خطاب المـُرسِل في الرّسائل موجّه إلى مُرسل إليه مُحدّد ومعلوم، بل يرتبط به بعلاقات تتنوّع ما بين قربى من قبيل: الأم / الأب / الأخت، أو صداقة. وبذلك تعلم الذات / المرسِل أن المطلّع الوحيد لبوحها وتعريتها، هذا المـُرسَل إليه الذي تتصل به بأواصر قربى أو محبة، والمعروف أننا نتعرى أمام مَن نثق فيهم، فتسترسل في البوح إلى أقصى درجات التعرية والفضح، فلا تقف الذات وهي تسترسل في معاناتها وبوحها عند أيّة خطوط تَحُول دون هذا الاسترسال العفوي ، ومن ثمّ تكون درجة الصّدق في الرِّسالة أعلى بكثير من الأنواع الواقعة على دائرة كتابة الذات.
قد يمنع الخجل الاعتراف في السيرة الذاتيّة؛ لذا يتمُّ التحايل عليه بأحاييل كثيرة: كالقناع والموارة وأحيانًا بالحذف، أما في الرسائل فنجد الذات واقعة تحت سُلطة اعتراف حقيقي، ربما أكثر جرأة من الاعترافات التي تقع على كُرسي الاعتراف في الميراث الكنسي، على نحو ما هو ظاهر في رسائل الشاعرة الأمريكيّة سيلفيا بلاث، التي تضمنت تفاصيل عن أدق خصوصياتها مع الشّاعر تيد هيوز، بعدما حَدث الشّقاق بينهما، فجاءت رسائلها لأمها وطبيبتها (روث بيوشير) بمثابة طوق النجاة لها من الجنون الذي بدأ يتسرب إليها، فصارت كتابتها أشبه بكتابة الأنياب المتوحشة، حادة في تعرية الزوج تيد هيوز وفضح علاقاته الغرامية، وسوء معاملته لها.
وبالمثل نجد النقيض تمامًا في رسائل طه حسين إلى زوجته سوزان بيرسو، فرسائله تقطر عشقًا وولهًا وتتيمًا بزوجته، فهو بدونها “تائه يعيش في ظلام”، تأمّل قوله في إحدى رسائله: “أمنعك من أن تكونى حزينة وآمرك بالابتسام، لا تقولى شيئًا، الآن تعالى إلى ذراعى أحبّك حتى نهاية الحساب، أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الانتظار”.

الشاعرة الأمريكيّة سيلفيا باث مع الشاعر تيد هيوز

هذه الأوامر التي تتنافى مع طبيعة المحبِّ ورقته، في حقيقة الأمر تكشف عن غيرة شديدة وحبّ يملآن عليه جوانحه، ومن ثمّ فهو شخص يبدو وكأنه يتملّك محبوبه (بذات الدلالة التي يتركها الفعل في أذن القارئ)، فكل شيء مرهون بأوامره.
بساطة الرسالة وصدق بوحها يكشفان شخصية طه الحقيقيّة (عكس شخصية المـُعنِّف التي كان يتعامل بها في أحكامه النقديّة) التي بالفعل تجد “الدنيا بؤسًا في غياب زوجته عنه”، فهو يأتنس بوجودها حتى لو لم يفصح عن ذلك، فبإذنها تنتهي المقابلات الشخصيّة، وبإذنها ينتهي وقت القراءة ويبدأ وقت العمل، وغيرها من صفات تكشف علاقتهما معًا.
يتكرّر الأمر مع الماركيز دو ساد، وهو الشّائع عنه أنه متهتك؛ لأنه ينتمي إلى طبقة غارقة في الملذات وممارسة الجنس، لكن في رسائله نرى صورة أخرى؛ صورة تكشف عن ذاته الحقيقية التي توارت واحتجبت وارء شخصية الكاتب المتهتك، فعندما سُجن أخذ يكتب رسائل إلى زوجته، يظهر فيها بصورة الشخص المحافِظ بل يكاد يكون راديكاليًّا مع أسرته، فيأمر زوجته بأن تأتي السّجن بملابس مُحتشمة، وألا تأتي مع رجل الشرطة. وبالمثل رسائل القائد العسكري نابليون بونابرت إلى عشيقته ثم زوجته جوزفين تكشف عن الشخصية الثانية للقائد العسكري؛ شخصية المحبّ العاشق، الذي لا ينسى عشقه وهو في ميادين القتال، فيكتب لها: “عندما أكون غارقًا في العمل، قائدًا الفرق، جائلاً في المعسكرات، تكوني معبودتي جوزفين وحدها في قلبي، تسكن روحي وتستنفذ تفكيري”، ومن شدة حبّه لها يلعن “الطموح والمجد اللذين يبعدانني عن حب حياتي”حسب قوله.

في الرسائل تقع الذات تحت سُلطة اعتراف حقيقي، ربما أكثر جرأة من الاعترافات التي تقع على كُرسي الاعتراف في الميراث الكنسي

هكذا تصبح الرّسائل بمثابة المرآة الصادقة لدواخل النفس؛ فالذي يظهر ليس النقيض، بل هو الوجه الحقيقي، فالجوهر الأساسي للرسائل هو الكتمان وأنها لا تُنشر، وهذا مبعث الصدق الخالص والبوح غير المتناهي؛ فرسائلنا حبل موصول (وخطاب مفتوح) بيننا وبين المرسَل إليه (هم / هن)، لا يوجد طرف ثالث يعكر هذه الخُلوة، ولكن مع الأسف مع تهافت الورثة على الأموال التي تسيل لها الألسنة، يفضحون المستور، وفي هذا خير كثير، إذ تتكشّف لنا الصُّور الحقيقيّة للشخصيات بعيدًا عن تلك التي فرضتها الكتابة والوضع الاجتماعي، فرأينا شخصيات أخرى، وذوات معذَّبة بسبب الظلم أو بسبب الحب، وغيرهما. فصارت الرسائل أشبه بالمرآة الحقيقية التي تكشف حقيقة ذواتنا.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى