رسائل مُلتهبة في بريد الرواية العربية

لم تكن رواية “بيت الأرواح” التي صدرت بالإسبانية عام 1982 مجرد رواية أولى بدأت بها الكاتبة التشيلية إيزابيل اللندي حياتها الأدبية، بل كانت في حقيقتها رسالة إلى جدها المحتضر.. حكت اللندي أنها في اللحظة التي عرفت أن جدها يرقد على سرير الموت، جلست لتكتب له رسالة طويلة، لكن الكلمات اتصلت والصفحات امتدت إلى أن أصبحت رواية، حققت لصاحبتها شهرة مدوية بعد ترجمتها لأكثر من ثلاثين لغة وتحويلها لعمل سينمائي عام 1993 من بطولة ميريل ستريب.. تدور أحداث الرواية في أميركا الجنوبية في أواخر القرن التاسع عشر وتتناول عبر ثلاثة أجيال تحولات المجتمع السياسية والاجتماعية.

ثم بعد مرور أربعين عاما تُكرر إيزابيل اللندي عبر روايتها، الصادرة مؤخرا، “فيوليتا”، تجربة مشابهة، عبر بطلتها التي تُوجِّه رسالة لشخص تحبه، وصفت الكاتبة روايتها الجديدة بأنها من وحي آلاف الرسائل المتبادلة مع أمها التي كانت تعيش في تشيلي وتكتب لها رسالة كل يوم.

رسائل محترقة

مازلت أذكر مغني الحي الذي حلم بشهرة لم يحققها واقتصر غناؤه على أفراح وسهرات الجيران، أنه ظل يردد موالًا قديمًا يشكو فيه حبيبته الغادرة قائلا: “احرقي الرسايل يا نار، ما أريد منهم تذكار”. كانت هذه الجملة بصوته الملتاع تستدعي لديَّ مشهد احتراق الرسالة في فيلم “رد قلبي”، المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب يوسف السباعي، فالحبكة في الفيلم وفراق “علي وإنجي”حدث بسبب الرسالة المحترقة. أفكر أن الرسالة التي سيؤدي فضها إلى انكشاف سرٍ ما، لم يعد لها وجود الآن، كما لم يعد هناك رسائل سيكون مصيرها النيران، بل سلة المهملات في الهاتف المحمول أو الكمبيوتر.

في الجانب الواقعي أيضا المسرود شفاهة في حكايات، قد يُغيِّر فعلًا انكشاف رسالة ما مصائر أشخاصٍ وأحداث. حكت لي صديقة قريبة أن زوجها الذي عاشت معه ثلاثين عاما حتى وافته المنية، أصر على الزواج منها بعد قراءته رسائل كتبتها لحبيبها الأول، ولما رأت الدهشة في عيني حكت لي أن الزوج تقدم لخطبتها بترشيح من إحدى القريبات، ولم يكن أحد يعرف أنها تحب ابن الجيران الذي ذهب إلى الجندية، حين عاد الحبيب الغائب في إجازة لأربع وعشرين ساعة فقط، عرف أن هناك من تقدم لخطبتها وأن أهلها يضغطون عليها للموافقة، بعد ساعات أمضاها في الثمل حمل بعضًا من رسائلها، وذهب بها إلى العريس ملقيًا بها في وجهه وهو يقول: “الفتاة التي تريد الزواج منها تحبني”،ثم مضى هاربًا.سهر الزوج المستقبلي يقرأ الرسائل، وشعر بعاطفة جياشة نحو الفتاة التي كتبت تلك الكلمات الملتهبة، أصر على الزواج منها، مدركًا أنها لا تستحق هذا الحبيب الطائش الذي سَلَّم رسائلها باستهتار لرجل غريب.

*   *   *

في فيلم “أولاد القرن” الذي يحكي قصة الحب بين الكاتبة الفرنسية جورج صاند والشاعر ألفريد دي موسيه، يظهر جمال فن الرسائل المتبادلة بين صاند وموسيه في اشتعال قصة الحب، ثم لاحقًا تستمر صاند في كتابة رسالة يومية لحبيبها خلال فترة مرضه، لكن الرسائل لا تصله إذ تقوم والدته بإخفائها، لعدم رغبتها في ارتباط ابنها بامرأة تكبره بعشرة أعوام؛ ربما لولا تلك الأم المتسلطة كانت وصلتنا رسائل صاند لنعرف أي ولهٍ كان بينهما.

ظهر أدب الرسائل في القرن السابع عشر، ووصل إلى ذروة تألقه في القرن الثامن عشر، حيث استعان به الأدباء على التواصل لتسجيل حياتهم اليومية في أدبيات حفظ التاريخ بعضها، فيما أصبحت رسائل أخرى طعامًا للنيران بسبب رغبة أصحابها، أو مَن حولهم في أن يختفي مضمون الرسالة إلى الأبد.

الرسالة منذ أيام الحمام الزاجل غرضها الرئيسي التواصل، وفي الرسائل دائما ثمة مرسل ومستقبل وبينهما تمور الحكايات الكثيرة التي تُخبئ السطور جزءًا كبيرًا منها، وتكشف عن أسرار وخبايا ربما عجز اللسان عن البوح بها، لا يبتعد هذا التصور أيضًا عن بريد الأدب، إذ حين ينوي الكاتب اللجوء لتقنية الرسائل في الكتابة الإبداعية فهذا يعني تضمين نصه مزيدًا من الحميمية والكشف عما يعتمل داخل الذات بانسيال فياض غرضه الأول كشف مشاعره أمام الآخر أيًا كانت تلك المشاعر. لكن في الرواية يغيب أحيانًا المرسل إليه، يكتفي المرسل ببوحه فقط، وكأنه يخاطب ذاتًا غائبة ليس من المهم معرفتها، فالأهم هو ما قيل لها. نجد هذا في رواية هدى بركات “بريد الليل”، التي نالت جائزة البوكر عام 2018، وكما يكشف عنوانها فإن المعمار الروائي للنص يقوم على حكايات يكتبها أصحابها لأشخاص غائبين أرادوا أن يكشفوا لهم لواعج أنفسهم.

ريم نجمي

تتخذ الكاتبة المغربية ريم نجمي تيمة الرسائل شكلًا ومضمونًا فنيًا يحتوي روايتها الأولى “تشريح الرغبة”، في الوقت الذي نظن فيه أن الرسائل يتقلص حضورها إبداعيًا، نكتشف أنها تتخذ وجهًا آخر، إذ ما الذي يفعله البشر في ختام يومهم سوى أنهم يكتبون لبعضهم الرسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

تضمنت رواية نجمي ثلاثين رسالة، يتم تبادلها عبر البريد الالكتروني بين الزوج الخمسيني عادل وزوجته الألمانية يوليا، وامرأة ثالثة “جوري”تجسد شخصية الحبيبة. تتناول الرواية تداعي العلاقة الزوجية وانهيارها، وفي الرسائل يتم تشريح فكرة المشاعر الداخلية وخفوتها.يقول عادل: “عزيزتي يوليا، هل ستصدقينني إن قلت لكِ إني أتألم لألمكِ؟ عندما وصلني إيميلك البارحة انزلقت مني دموع وأنا أقرأ السطور التي كتبتِها وحتى السطور التي لم تكتبيها. غمرني شعورك نفسه وأنا أسترجع معك رحلتنا إلى تايلاند. لا لم أنس تلك التفاصيل كما تعتقدين وربما أتذكر مشاهد كثيرة ما عدت تذكرينها…عمومًا للبدايات دائما سحر ما، أكنا في تايلاند أو في أي مكان في العالم أقل جمالًا. للبدايات دائما ذلك اللون الوردي، الذي يغطي على كل الألوان الأخرى ويخفي العيوب.. يوليا عزيزتي لو فتحنا أبواب الذاكرة لن نخرج منها سالمين من الألم”.

مشاهير الأدب

“كلّفيني ولا تكلفي عليكِ”، بهذه العبارة يبدأ الشاعر خليل حاوي إحدى رسائله للكاتبة ديزي الأمير.. في خطوة شجاعة يشوبها الارتباك، نشرت الكاتبة العراقية ديزي الأمير، رسائل الشاعر اللبناني خليل حاوي لها، تحت عنوان: “خليل حاوي.. رسائل الحب والحياة” تجنبت ديزي وضع اسمها على غلاف الكتاب الذي صدر عام 1986 عن دار النضال، من المعروف أن صاحب “نهر الرماد” عاش قصة حب عظيمة مع ديزي الأمير، وأنه اختار الانتحار في أعقاب الاجتياح الاسرائيلي على لبنان عام 1982، لإحساسه التام بالعجز عن قبول ما يحدث. لذا جاء نشر ديزي لرسائل حاوي بعد قرابة أربعة أعوام من موته، ربما رغبة منها في أن يعرفه العالم أكثر وأن يكشف أي روح نبيلة حملها داخله، وهذا يتضح بشدة من شفافية كلماته لها، أو أنها اعتبرت الرسائل وثيقة للأجيال القادمة الراغبة في دراسة مؤلفاته، ومما يقوله لها في إحدى الرسائل: “أما هذا الواقع، كما يبدو لي، فهو أنّي قد أستيقظ في أي صباح لأقرأ في الصحف أن لبنان قد تبخّر، قد حُذِفَ من الخارطة. وهذا الخوف يحتل أفكاري أحيانًا حتى إنه يمنعني من النوم لياليَ”، وفي رسالة أخرى أكثر عاطفية يقول لها: “ولطالما عُدت بعد كل مرة عودة المُذْعِن للقضاء المحتوم، عودة الهالك الراضي بسجنه وجحيمه. وكأن بيني وبينكِ هوّة لا أنا قطعتها ولا أنتِ انجذبت إليها”. أما رسائل ديزي إلى خليل حاوي فمن المعروف أنها موجودة لدى أسرته لكنها لم تظهر خلال حياة الشاعرة، فقد اكتفى شقيق الشاعر الناقد ايليا حاوي بتهديد ديزي الأمير بنشر رسائلها لحاوي.

لعله من المستحيل اخفاء الوهج الذي يفوح من الرسائل بين عاشقين مهما كان الحرص على ذلك، حتى في حال وجود رسائل غائبة من أحد الطرفين، تكفي رسالة واحدة أحيانًا لتقول الكثير. لنقرأ فقرة مما كتبه غسان كنفاني في إحدى رسائله لغادة السمان قائلا: “غادة أعرف أن كثيرين كتبوا إليكِ، وأعرف أن الكلمات المكتوبة تخفي عادة حقيقة الأشياء، خصوصًا إذا كانت تُعاش وتُحس، وتنزف على الصورة الكثيفة النادرة التي عشناها في الأسبوعين الماضيين، ورغم ذلك فحين أمسكت الورقة لأكتب، كنت أعرف أن شيئًا واحدًا فقط أستطيع أن أقوله، وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته، وربما ملاصقته التي يُخيَّل إليَّ الآن أنها كانت شيئًا محتومًا، وستظل، كالأقدار التي صنعتنا: إنني أحبك”.

في تسعينيات القرن الماضي، قامت الكاتبة السورية غادة السمان بنشر الرسائل التي وصلتها من الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ثم بعد عدة أعوام نشرت أيضا رسائل أنسي الحاج لها، انقسم الوسط الأدبي حول ما قامت به غادة السمان، رأى البعض فيما قامت به شجاعة أدبية، بينما اعتبر البعض أنه ليس من حقها أن تنشر رسائل شخص راحل دون استئذانه، في الوقت الذي ظلت رسائلها له مختفية، بررت غادة عدم نشر رسائلها لكنفاني بأنها لا تعرف أين هي، وتوجهت في مقدمتها للكتاب إلى أسرة كنفاني وأصدقائه تُطالبهم بإظهار الرسائل إن كانت في حوزتهم، تسبب نشر تلك الرسائل بغضب كبير من “آني” زوجة غسان كنفاني التي ساءها ما فعلته السمان، خاصة أن غسان يأتي على ذكر اسم زوجته في إحدى تلك الرسائل. أما غادة فقد حرصت بوضوح على الكتابة بحياد عن غسان مُتجنبة الحديث العاطفي رغم كتابتها مقدمتين للكتاب الذي اختارت وضع صورة لها وهي تنزل من السيارة ويستقبلها غسان، تقول: “حين أقرأ رسائله بعد عقدين من الزمن أستعيده حيًا… والوفاء ليس لعاطفتي الغابرة المتجددة نحوه فقط، بل الوفاء لرجل مبدع من بلادي، موت غسان المبكر خسارة عربية على الصعيد الفني لا تعوض”.

وتحت عنوان: “الشعلة الزرقاء”، جمعت الباحثة سلمى الحفار الكزبري رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران في كتاب ضم سبعًا وثلاثين رسالة. بدأت المراسلات بينهما حين أعجبت ميّ بمقالات جبران فكتبت له بعد قراءتها رواية “الأجنحة المتكسرة” عام 1912 تعبر عن إعجابها بقلمه، لتبدأ المراسلات بينهما وتستمر لعقدين متتاليين، دون أن يلتقيا.

رسائل الغد

ما الذي يحمله الغد بالنسبة للرسائل، كيف سيكون شكلها؟ وأي قيمة تمثل ؟ أسئلة لا يمكن نُكران ما تصدره من مخاوف على هوية الرسالة وعمقها؛ وتطرح فرضيات لها إشارات ملموسة ومُعاشة، يُمكن استقراؤها عبر صورة “الإيموجي” المتبادلة في محادثات الشات.

لم يترك العصر الحديث مكانًا للمشاعر القديمة، غابت التفاصيل الحميمة في الكتابة وانتظار الرد، وإن كان هذا يحدث سابقًا عبر الورق والبريد، والزمن الممتد بينهما، فإن الألفية الجديدة التي جعلت في البداية من “الإيميل” وسيلة تواصل عصرية وسريعة، تسارع إيقاعها أكثر، الآن أصبح “الإيميل” من الماضي، ولا يتم استخدامه إلا في المراسلات الرسمية والمهنية، أما التواصل بين الأهل والأصدقاء والأحبة فيحدث الآن عبر مكالمات الصوت الصورة “الفيديو”. لكن ليس ثمة ما يُؤرخ لهذه المحادثات أو يُسجلها إلا عن نية الكترونية مسبقة، لكن عادة هذا لا يحدث بين الأهل والأصحاب. تبدو المحادثات اليومية مبتسرة يغيب عنها التأمل المشهود له في الرسائل الورقية، حتى بالنسبة للناس العاديين كان يوجد إحساس بالحميمية يمكن رصده في رسائلهم، ولا يمكن الوقوف عليه في الشات السريع، الذي سَهَّل التواصل وغَيَّر شكل المشاعر بين الناس.

لا يمكننا نُكران أن علاقاتنا الانسانية في هذا الوقت باتت حاضرة عبر التكنولوجيا، صار من السهل جدًا أن يقوم الفرد بمحادثة عبر الماسنجر على أن يتواصل مع صديق قريب،وهذا لا يعني أيضًا أن الصديق القريب أفضل من محادثة (الشات)،بل يعني فقط أن رغبة الانسان المعاصر في بذل الجهد حتى المعنوي منه تقل يومًا بعد يوم.

بعد مرور عشرين عاما، ننظر الآن بنوع من الحنين إلى الرسائل المتبادلة عبر “الايميل”، حيث لم يكن يظهر للمرسل إن كان المستقبل فتح الرسالة أم ليس بعد، ويظل في حالة ترقب لبريده. نحن لا نعرف ما الذي سيقدمه لنا عصر الاتصالات بعد، ربما يأتي يوم ما تتمكن فيه التكنولوجيا من نقل الرائحة أيضًا بعد أن نقلت الصوت والصورة، بل والتجسيد بتقنية “الهولوغرام”، لذا ربما تنظر الأجيال القادمة إلى محادثة الفيديو بنوع من الحنين، من يدري!

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى