أنا ونادية لطفي في مقهى الآشوري

كنتُ صاحب أغرب عنوان بريدي في العالم: “الحسكة -شارع الحدّادين- مقهى الآشوري”إذ لم يكن لديَّ عنوان آخر، ففي قرية صحراوية تبعد خمسة كيلومترات عن مركز الناحية، يصعب تعيين عنوان بريدي واضح، إلى أن وافق صاحب مقهى كنت أتردّد إليه باستقبال الرسائل التي ستصلني مستقبلًا، بعد أن التقطت عشرات العناوين من صفحات التعارف في المجلات الفنية، وبرامج الإذاعة.

كنت أخترع حياةً مُتخيّلة ووقائع لم تحدث إطلاقًا، في وصف يومياتي، محاولًا تطريزها بما ليس فيها

في زياراتي المُتباعدة إلى المدينة خلال العطلة الصيفية للمدارس، أستقل الحافلة الوحيدة التي تعبر القرية، متجاهلًا ثغاء الأغنام، ورائحة الألبان، وأنين المرضى في ممرّ الحافلة. أعبّر الطرق الترابية بالأحلام، متأبطًا رزمة من الرسائل التي أنجزتها لأصدقائي المجهولين بقصد إيداعها في البريد. لم تذهب انتظاراتي سدى على الدوام، إذ كان الآشوري يستقبلني أحيانًا بمفاجآت سارة، كأن يُخرج من درج طاولته الخشب الصغيرة، رسائل وصلتني في غيابي، كنتُ أنتظرها بلهفة، على وقع المطارق في الشارع، كنتُ ألتهمُ السطور مرّة وراء مرّة، وأنا أحتسي الشاي الأسود، ولم يخب أملي بردود من فتيات، كانت هوايتهن المُفضّلة “مراسلة الجنسين”. كنت أخترع حياةً مُتخيّلة ووقائع لم تحدث إطلاقًا، في وصف يومياتي، محاولًا تطريزها بما ليس فيها. كان المغلف الأخير يحتوي على بطاقة بوستال ملوّنة تحمل صورة للفنانة نادية لطفي، قلبت البطاقة باضطراب أكبر، فوجدت عبارة واحدة:”مع أرقّ تحياتي.. نادية لطفي”. كدتُ أن أرتطم بزجاج واجهة المقهى، وأنا أنهض باهتياج وسط استغراب رُوّاد المقهى. كدت لا أصدّق أن نادية لطفي الفاتنة الشقراء تُكاتبني لولا وجود الطوابع وختم البريد المصري على المغلّف، إلا أن هذه النشوة لم تطل كثيرًا، بعد أن أخبرني أحد خبراء المراسلة بأن بطاقات من هذا الطراز يرسلها معجبو الفنانة(ما يسمى اليوم: الفانز)، لزيادة انتشار مجموعة أصدقاء نادية لطفي في العالم العربي، ومما زاد إحباطي قوله بأن لديه بطاقة مشابهة تحمل توقيع نبيلة عبيد، رغم ذلك لم أستسلم، فحين وصل فيلم “أبي فوق الشجرة” إلى صالة سينما القاهرة، حضرته مرارًا بوصفي واحدًا من المُقرّبين، وكنت أحصل على حصتي الشخصية من القُبلات التي أمطرها بها عبد الحليم حافظ، وكان عددها سبعين قُبلة!

كان المغلف يحتوي على بطاقة بوستال مُلوّنة تحمل صورة للفنانة نادية لطفي، قلبت البطاقة باضطراب أكبر، فوجدت عبارة واحدة: “مع أرقّ تحياتي.. نادية لطفي”

ظل طيف نادية لطفي يطاردني فترة طويلة إلى أن تلفت البطاقة تمامًا لفرط الاستعمال، إذ كان يتخاطفها تلاميذ أولى ثانوي في مدرسة أبي تمام أثناء انهماك المعلم بشرح معادلات الفيزياء التي لم أحفظها يومًا. هذه الصدمة لم تبعدني عن هواية المراسلة، فباكتشاف مجلة “طبيبك” ذائعة الصيت، المجلة التي تُخصِّص ركنًا لأسئلة القُراء، كنت أخترع أسماء نجوم وأبطال تاريخيين وعلماء مثل طارق بن زياد وعمر الشريف ومحمد علي كلاي، تجنبًا لنشر اسمي الصريح مُرفقًا بالأسئلة الموجهة إلى الطبيب المتخصص بباب الأسئلة الجنسية والنفسية، وكنت أحظى بإجابات مُختصرة تنصحني بممارسة الرياضة والاختلاط وملء أوقات الفراغ بهوايات مفيدة، فكان أن أضفت إلى هواية المطالعة، هواية جديدة هي كتابة الشعر، حينذاك كنت من قُرّاء مجلة “الموعد”، خصوصًا باب “همسات دافئة”الباب الذي تُحرّره ايفون عبود، وقد نشرت لي في صفحتها مقطعًا شعريًا، كان بمثابة حدث جلل، أبعدني مسافة عن أقراني المُنهمكين بهوايات أخرى.

لقطة لنادية لطفي وعبدالحليم حافظ من فيلم: أبي فوق الشجرة

الصدمة الكبرى أن صاحب مقهى الآشوري، قرَّر الهجرة إلى أمريكا للالتحاق بجاليته الآشورية في مدينة كاليفورنيا، وبيع المقهى لصاحب مطعم الطاووس المُلاصق له، وتاليًا فقد خسرتُ عنواني لدى الأصدقاء القدامى، كما ستأتيهم رسائل ستأتيني على هذا العنوان من دون أن أستلمها وستُعاد إلى المرسل، بعد تقليب الأفكار برأسي اهتديت إلى محل لبيع الأقمشة، كان والدي يتعامل معه في بيع منتجاته من الصوف والأجبان. استقبل الفكرة بعدم اهتمام لكنه وافق على طلبي، ما اعتبرته إنجازًا معنويًا، فبعنوان مثل”شارع بيروت- التوفيق لتجارة الأقمشة”(تجاهلت عن عمد عبارة إضافية هي: وبيع الصوف والأجبان والسمن البلدي) يمكنني أن أكتبه على المغلّف باعتزاز، كما سأتخلّص من صوت المطارق في شارع الحدّادين ونزق الآشوري.

في العطلة الصيفية، ذلك الوقت الطويل المضجر، وعواصف الغبار التي كانت تهبّ يوميًا، سأجد تسليتي بالاستماع إلى الراديو، إلى أن وقعت على برنامج “ما يطلبه المستمعون” بصوت فردوس حيدر، أشهر مذيعة في إذاعة دمشق. كنت أكتب عشرات الرسائل أسبوعيًا وأرسلها إلى البرنامج كي أحظى بأغنيتي المُفضّلة التي أهديها إلى أصدقاء مجهولين، فالمهم هنا أن أستمع إلى اسمي بين الأسماء التي ترد في كل حلقة تقريبًا، فليس مهمًا أن تكون الأغنية لفريد الأطرش أو سميرة توفيق أو عبد الحليم حافظ بقدر عنايتي بظهور اسمي في البرنامج، وستزداد طاووسيتي حين يُحيطني بعض الفلاحين لحظة بثّ البرنامج. رغم بريق عنواني الجديد إلا أنني خلال أشهر لم أستلم رسالة واحدة، وعندما كنت أسأل صاحب محل الأقمشة عن رسائل وصلته باسمي كان يهز رأسه بالنفي، وهو يهشُّ الذباب عن صفائح الجبنة المكشوفة فوق رصيف المحل.

في ذلك الزمن العاصف من سبعينيات القرن المُنصرم، كانت الحياة تشبه قطارًا يسير على الفحم في تلك الصحراء المُهملة، ومثلما حَزَّم الآشوري حقائبه مهاجرًا، عبرت القرية بسفينة إلى الضفة الأخرى من النهر نحو دمشق للالتحاق بالجامعة، تاركًا عنواني القديم إلى الأبد، من دون أن أعلم مصير الرسائل التي أتوقّع بأنها ستصلني في غيابي.

بعد سنواتٍ قليلة، عملت في إذاعة دمشق مُعدًا للبرامج، بالإضافة إلى كتابة زاوية أسبوعية صباح كل يوم أربعاء، وكانت فردوس حيدر نفسها من تُشرف على هذه الزاوية. طرقت باب مكتبها ودخلت كي أسلّمها الزاوية، وحين لفظتُ اسمي على مسمعها نظرتْ نحوي بإمعان، ثم قالت بابتسامة:”اسمك ليس غريبًا عليَّ”. كنت بحالة اضطراب قُصوى، خشيتُ أن تتذكّر مرحلة ذلك الفتى الذي كان يكتب لها الرسائل أسبوعيًا لبرنامجها “ما يطلبه المستمعون”، لكنني أجبتها بأنني أكتب في الصحف، فهزّت رأسها موافقة، من دون يقين. اليوم أضعت أرشيف تلك الحقبة تمامًا، بما فيه صورة نادية لطفي، ودفاتر أشعاري، ورسائل الأصدقاء، والجلوس أمام عتبة بيت طيني إلى جانب أحد الفلاحين كي أقرأ له محتويات رسالة وصلته من ابنه الذي يؤدي خدمته العسكرية في مدينة بعيدة، الرسائل التي تحمل ديباجة مُوحّدة “سلام سليم أرقّ من النسيم، يجيئ ويروح من فؤاد مجروح إلى عزيز القلب والروح”، وكان على الأب أن يُداري دموعه، وهو يتأمل صورة الابن الغائب المرفقة مع الرسالة، ريثما أبتعد.

كنت من قُرّاء مجلة “الموعد”، خصوصًا باب “همسات دافئة” الباب الذي تُحرّره إيفون عبود، وقد نشرت لي في صفحتها مقطعًا شعريًا، كان بمثابة حدث جلل

لاحقًا، ستهبُّ ريح تلك الذكريات البعيدة، فأستعيدها في كتابة روايتي”بريد عاجل”، محاولًا أرشفة تاريخ الرسائل من الحمام الزاجل إلى الرسائل القصيرة في الهواتف المحمولة. وسأورد فحوى رسالة من امرأة إلى حبيبها، قبل اختراع الكتابة بقرون، رسالة تتكوّن من حزمة من الشاي، وعشب جاف، وتفاحة حمراء، وقطعة من الفحم، ووردة، وقطعة من السكّر، وحصاة، وريشة صقر، وثمرة جوز. كانت الرسالة تشير إلى ما يلي: “لم أعد أستطيع شرب الشاي وحيدة، لقد أصبحت دونك شاحبة اللون كالعُشب الجاف، وإن وجهي يحمرّ كالتفاحة عندما أفكّر بك، وقلبي يحترق كالفحم. إنك جميل كالوردة، وحلو كالسكّر، لكن هل قُدَّ قلبك من الحجر؟ سأطير إليك لو كان لدي جناحان، أنا مُلكك مثل جوزة في يدك“.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى