طفل البريد

حين أصبحت محرر البريد في جريدتي لم أنس أبدًا أنني قضيت طفولتي أكتب رسائل النساء في قريتي. اهتممت بكل رسالة، كأنها تخصني، أو تخص أخي، أو قريبي، لمَ لا وأنا قادم من الأراضي التي تدمن كتابة الرسائل إلى البشر وإلى السماء.

تخيلت صفات كتَّابها من خطوطهم، الدقة من انتظام الحروف، العشوائية من الشطب، الإلحاح من تكرار الأسئلة عن موعد النشر. أفتح الخطاب منتظرًا هدية في كل مرة، لكن ما أقلّ الهدايا، وأكثر الألغام. تحملني رسالة على بساط علاء الدين لأشاهد مدينة بعيدة، وتلقيني أخرى في مياه ضحلة. تفتح لي رسالة عقلًا جميلًا، وتحبسني أخرى في متاهات. تهدهدني موسيقى الكلمات، أو ترجمني أخطاء النحو.

وجنبًا إلى جنب مع انتظامي في فتح الخطابات.. قرأت رسائل فرانز كافكا إلى ميلينا وتمنيت أن تصلنا ردودها عليه يومًا ما. شعرت بالتعاطف مع كولونيل ماركيز وانتظاره بلا طائل أن يجد شيئًا – أي شيء – في البريد. تألمت لألم فرناندو أربال في خطابه إلى الجنرال فرانكو. استمتعت بصدق محمود درويش وسميح القاسم وهما يتبادلان الرأي في كل ما يخص الحياة والفن، لكني لم أنس أبدًا أنَّ من علمني كتابة الرسائل هنَّ الأمهات والزوجات والأرامل والمطلَّقات ولم أكن قد بلغت العاشرة من عمري.

لم يتطلب إقناعي، أو انتزاعي من ألعاب الطفولة، سوى أن تمنحني الواحدة منهن خمسة قروش، أو عود قصب، أو ثلاث بيضات. تأتي إليَّ في الشارع، أو ترسل أحدًا في طلبي، أو تنادي عليَّ من فتحة في جدار الطوب اللبني. تمنحني الكراسة وقلمًا، فأجلس وأركز ناظرًا إلى فمها.

قريتنا في صعيد مصر تشبه قرى ما قبل التاريخ. لم تعرف الكهرباء إلا في نهاية السبعينيات. ورغم انتصاب أعمدة الإنارة أخيرًا إلا أن الأشجار كانت تسقط دومًا على أسلاكها وتمزقها. تغرق شوارعنا وبيوتنا في عتمة طويلة، إلى أن يأتي الموظفون الكسالى من المركز لإصلاح الأعطال. وبما أننا أبناء أخناتون كنا نلعب تحت الشمس، ونستذكر دروسنا تحت الشمس، ونكتب رسائلنا في دفء الشمس. أجلس على حصيرة من القش، أو جذع شجرة مقطوع أو كرسي الوضوء الصغير، ممسكًا بالكراسة والقلم الفرنسي الأزرق. تبدأ السيدة في استجماع نفسها ومشاعرها لتنقلها إليَّ، فأنقلها بدوري إلى ابنها أو زوجها. تصف معاناتها في غيابه، عدم اهتمامها بالمال قدر اهتمامها به وبعودته، تفكيرها في ملامحه وما طرأ عليها من تغيرات. تنقل له أخبار العائلة، فردًا فردًا، من تزوج، من مات، من ذبح عجله، من دَرَسَ زرعه، من بنى بيتًا بالطوب الأحمر، ومن حجَّ. تصف له ألوان وصور وخطوط حوائط بيت الحاج، كيف زيَّنوها بصور البواخر والطائرات والجِمال في ذهابها وإيابها من الأراضي المقدسة، كيف صار اسمه تاج العبارة الجميلة «حج مبرور وسعي مشكور وذنب مغفور»، وكيف استقبلوه بالمزمار وتلال السكر والشاي.

*  *  *

كان أكبر رقم أعرفه أو تعرفه هؤلاء النسوة هو رقم مليون. توصيني كل منهن – وهي تطلب كتابة كلمات عن اشتياقها لزوجها أو ابنها – بأن أرفقها بعبارة «مليون مرة»، وحين نقلت إليهن – لأول مرة – أن هناك عددًا أكبر هو «بليون» فرحن وطلبن أن أعتمده في الرسائل. كنت أكثر كرمًا من الأبنودي في «جوابات حراجي القط» إذ كنت أحوِّل «الألف سلام» إلى «بليون سلام» في جملته الشعرية قبل أن أعرفها بوقت طويل: «وختامًا ليس ختام.. بابعتلك.. ألف (بليون) سلام».

أبناؤهن كانوا يعملون في الخليج، أو في محاجر ليبيا، ويغيبون شهورًا طويلة، ويحدث أن يموت أحدهم فجأة، كما مات أحد أقربائي متأثرًا بالحمَّى الشوكية. كانت مهمة إبلاغ أمه أصعب ما في الأمر. اجتمع كبار عائلتي في مضيفة العائلة. اتفقوا على الذهاب إليها في الصباح وتركوا مهمة التحدث لأبي.

بعد تردد رفعت صوتي لأخبرهم بأن تلك الأم طلبتني منذ قليل لتمليني رسالة كالعادة إلى ابنها، فسمحوا لي بالذهاب إليها، وأن أتماسك كرجلٍ، حتى لا أنهار أمامها. كان أمرًا في منتهى القسوة، أن أتحمل تلك الأمانة، ولا أؤديها إلى صاحبها. ويبدو أن المرأة قد اصطادت تعبيرًا خائفًا أو متألمًا أو مرتبكًا على ملامحي، إذ سألتني إن كنت مريضًا، فنفيت بهزة من رأسي، متحاشيًا عينيها. كانت تخاطب شخصًا ميتًا. لو عرفت لربما سألت ابنها إن كان قد قابل أباه أو جده أو جدته بالصدفة وهو يسير في الجنة، لربما سألته عن الحور العين، أو مساحة قصره، أو عما يأكله ويشربه، وربما أخبرته أنها لن تتأخر عليه، وأنها تدعو الله قبل أن تنام كل يوم ألا تفتح عينيها مرة أخرى حتى تتمكن من المجيء إليه. كانت تغلق عينيها فأعرف أنها انتهت. أنهض وأقبِّل رأسها. أغادر إلى بيتي وأضع الرسالة في خزانتي الصفيح، التي صنعتها من علبة جبن فارغة ماركة «الثلاث بقرات».

ذهبت معهم في اليوم التالي إليها. أخبرها أبي فامتلأت عيناها بالدموع، لكن لم تفلت أي دمعة كأن هناك حاجزًا شفافًا يمنعها. قال أبي إن ابنها مات في سجوده، فتعالت أصوات أعمامي وأخوالي بهمهمات تعني غالبًا أنه ينظر إلينا من الجنة الآن.

كنت أعود إلى رسالتها وأطالعها. أتخيل تلك المرأة بعد رحيلها تجلس مع ابنها في مكان مشمس. يقرأ رسائلها، وينهض. يقبِّل يديها ورأسها. صار بإمكانها أخيرًا الاستمتاع بصحبة أبدية معه. صحبة لا يقطعها رحيل أو تفصلها مسافات.

*  *  *

كنت أشتري لكل امرأة كراسة وقلمًا فرنسيًا. فضلت تلك الماركة لأن سنِّها الرفيع يسهِّل الكتابة، بعكس القلم «البيك» ذي السن الغليظ، يطفح غالبًا ويلوث الورقة والحصير والملابس. بمجرد أن أنهي الرسالة في ورقة أو اثنتين أو ثلاثًا أقطعها بحرص من الكراسة، وأضعها في ظرف مربع محاط بالمستطيلات الصغيرة الزرقاء والحمراء، وأكتب العنوان. تكفَّل أبي بالجزء الثاني من المهمة، إذ يعمل في المركز حيث مكتب البريد. يذهب يوميًا إلى هناك بدراجته النارية، ومعه الخطابات، وفي المساء يطلب مني أن أبلغ جاراتنا بأنه أتم المهمة بسلام، ثم يمنحني خطابات الأبناء التي استلمها من مكتب البريد.

*  *  *

لم تستمر كتابتي لرسائل النساء، فقد اصطحبنا أبي للسكن في مدينة نجع حمادي، في مارس 1986 بعد أيام من انتفاضة الأمن المركزي. تحولت اهتمامي من كتابة الرسائل إلى كتابة القصص، على طريقة نبيل فاروق الذي بدأ بالكاد يصعد سلم شهرته. أصدرت له «المؤسسة العربية الحديثة» سلسلتين، إحداهما «رجل المستحيل» وبطلها أدهم صبري، و«ملف المستقبل» وبطلها نور الدين محمود. فتنني نبيل فاروق، حتى أنني كنت أقف بدءًا من السادسة صباحًا، مع بدايات الشهور، عند كشك الجرائد، لأطالع بشغف كبير «رُزم» الإصدارات التي تتقاذفها الأيادي، ويخفق قلبي بشكل غير عادي حينما أرى «رُزمة» هذه السلسة أو تلك. أشترى نسخة من كل واحدة، وأطالع الغلاف الخلفي لهما بفرحة ونهم.

ومع النجاح البالغ للسلستين بدأت «المؤسسة العربية الحديثة» في نشر سلاسل أخرى لنبيل فاروق. كان يردُّ على قراء أعماله في سلسلة «كوكتيل 2000» ثم في سلسلة «بانوراما»، وقررت أن أرسل إليه قصصي، ليخبرني برأيه فيها، أو لينشرها، أو ليتجاهلها. ذهبت إلى مكتب البريد لأول مرة. سألني الموظف إن كنت أريد إرسال خطابي بالبريد العادي أم المسجل؟ ثم نشأت صداقة بيننا بعد ترددي على المكان بانتظام. كان الموظف يكتب اسم جدي إذا نسيتُ وكتبتُ اسمي ثنائيًا فقط، أو يضع خطًا أسفل عنوان نبيل فاروق وهو نفس عنوان الناشر. كنت غزير الإنتاج، أكتب القصص بصورة يومية، وأشفق عليَّ الموظف من دفع تكلفة البريد المسجل، فطلب مني أن أرسل بالبريد العادي. طمأنني أن خطاباتي ستكون في عنايته هو شخصيًا. أرسلتُ الخطاب تلو الخطاب، ولم أكف عن انتظار صدور «كوكتيل 2000»، أو «بانوراما». أفتحها على صفحات البريد مباشرة. لم تكن السلستان منتظمتيْن مثل «رجل المستحيل» و«ملف المستقبل»، ولذلك تأخر نبيل فاروق في الرد عليَّ شهورًا، لكني لا أنسى أبدًا اللحظة التي رأيت فيها اسمي الرباعي منشورًا في بريد «بانوراما»، مع كلامٍ مشجعٍ عن القصة، ووعدٍ بنشرها في أقرب فرصة.

أدمنت كتابة الرسائل لنبيل فاروق وغيره. أرسلت لجميع الجرائد والمجلات التي خصَّصت صفحات للإبداع في التسعينيات. بما فيها صفحة جريدة «العمال» بإشراف فؤاد حجاج، و«الأحرار» بإشراف حميد مجاهد، و«النبأ» بإشراف محمد شكري عبود الذي ربطتني به صداقة، وكان بيته قبلتي في زياراتي القديمة إلى القاهرة قبل أن أستقر بها في عام 98.

على مدار أعوام كنت أفتح الجرائد والمجلات من بريدها، كأنني ابن البريد، أو كأنني مقتنع بأن مستواي لا يتجاوز ذلك الباب. أدمنت مجلة «طبيبك الخاص». كان باب البريد فيها هو تسليتنا الوحيدة ومعرفتنا بالنصف الحلو. قرأت رسائل الرجال باستمتاع بالغ وهم يشكون للمحرر من الضعف، أو التسرع، أو تطلُّب الزوجات إلى درجة ليس بمقدورهم تلبيتها، وكانت ردود المحرر تلهب خيالي بأكثر مما تلهبه الأسئلة، وكذلك تابعت قصص «بريد الجمعة» التي حررها عبد الوهاب مطاوع لسنوات طويلة، وفكرت كثيرًا أن أرسل إليه قصة من تأليفي باعتبارها قصة واقعية، لكن ضميري استيقظ في اللحظة الأخيرة، وتكرر الأمر، أقصد الرغبة في الإرسال والتراجع في آخر لحظة، مع باب «أريد عريسًا أريد عروسًا» في جريدة «الجمهورية» حيث كتبت مواصفات فتاتي وأنا أنظر إلى صورة للجميلة صوفي مارسو، كما فكرت أن أرسل إلى جريدة «اللواء الإسلامي» سؤالًا عن مدى حرمانية وضع قطرة الأنف في نهار رمضان، لكنني وجدتها تجيب في أقرب عدد.

*  *  *

حين صدرت جريدة «أخبار الأدب» في عام 93، واظبت على اقتنائها أسبوعيًا، لكني لم أجد في نفسي الشجاعة الكافية لأرسل إليها. كان هناك شيء ينبئني بأن مستوى النشر فيها يفوقني، لكني تجرأت أخيرًا وأرسلت، إلا أنهم لم ينشروا لي شيئًا أو يردوا عليَّ في البريد ثلاث سنوات، حتى فزت في مسابقتها للقصة القصيرة عام 96 بقصة عنوانها «طقوس البيت المبعثر».

وبعد ذلك بقليل نشرت لي الجريدة، أنا والشاعر الراحل عبد الناصر علام، في باب البريد، الذي كان يشرف عليه عمرو الديب، رسالة نشكو فيها ترشيح كاتبة لمؤتمر أدباء الأقاليم، مع أنها ضعيفة المستوى، مستغلة صلة قرابتها بمسؤول في قصر ثقافة قنا. رفعتْ الكاتبة قضية ضدنا ومحاميها اتهمنا في عريضته بأننا ننال من شرف موكلته (يا للهول بصوت يوسف بك وهبي). شعرنا بالخوف لدرجة أن عبد الناصر كتب رسالة ووقَّعها باسم هذه الشاعرة، يشتمنا فيها، كأنها هي من كتبتها، وأرسلتها إلى الجريدة. تخيل عبد الناصر أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستكتب لنا النجاة من الحكم المتوقع. نشرت الجريدة رسالتنا أو رسالتها، وجمعنا لقاء بالشاعرة قبل النطق بالحكم بأيام. عاتبتُها على أنها لم تسحب الدعوى، مع أنها شتمتنا في رسالة، فقالت باستنكار وهي ترفع حاجبًا: هل تنتقدانني وتستكثران عليَّ حق الرد؟!

ثم اختفت الشاعرة، وتحولت إلى صورة قديمة، كما اختفت الخطابات تدريجيًا حتى صارت من الماضي. استسلمت مثلما استسلم مئات غيري إلى التطور. افتقدت ملمس الرسالة، سريان الروح في خطوط القلم وتعرجاته، ولم أستسغ لفترة تلك الخطوط شديدة الانتظام، فالكمبيوتر يهندس اللغة ويجعلها حروفًا وكلمات متشابهة ومصفوفة بآلية.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى