رسالة إلى أ. كامو

عبد السلام بنعبد العالي
Latest posts by عبد السلام بنعبد العالي (see all)

عزيزي ألبير..                       

أخاطبك باسمك الشّخصي، لأنّك، من بين كثير من الأدباء و«المفكّرين» الذين شغلوا حيّزًا لا بأس به من حياتي وقراءاتي، وأخذوا باهتمامي، أشدُّهم قربًا، بل ربّما كنت، في وقت ما، أقربهم إليَّ جميعهم، خصوصا عند بدايات تفتّحي الفكري، وانفتاحي على الأدب العالمي.

ينبغي أن تعلم أنّك، رغم كونك مجرّد أحد فرنسيي الجزائر كما قيل، قد ساهمت في تنبيهي إلى ما يتيحه المناخ المتوسطي لساكنة المنطقة، رغم الفقر المادي، من إمكانية التمتّع ببهجة الحياة وحرارة الشمس وجمال الطبيعة، وبخاصة الحرارة «الإنسانية»، وكل تلك الإحساسات الثّرية التي عكستْها كتاباتك مثل «أعراس» و«الوجه والقفا». بل إنّك، رغم ما ستُتَّهم به فيما بعد من «فقر فلسفي»، ساهمتَ إلى حدٍّ بعيد، في تفتّح وعيي الفكري، ودفعي نحو «التمرّد» على القيم الفكرية والأخلاقية والجمالية المترسخة، و«تطعيمي» بالروح «الزورباوية» و«فرح العيش».

ساهمتَ -إلى حدّ بعيد- في تفتّح وعيي الفكري، ودفعي نحو «التمرّد»، و«تطعيمي» بالروح «الزورباوية» و«فرح العيش»

ربّما لن تصدّق عدد المرّات التي أعدتُ فيها قراءة روايتك «الغريب» في أصلها الفرنسي، وربما لن تتخيّل كم أنا حريص، إلى اليوم، على متابعة مختلف التّرجمات العربية التي ظهرت، وتظهر عنها، كما لو أنّني أخشى أن يتسلّط عليها مترجمٌ يخون نصّك في نغمته وأسلوبه وشجن عباراته، ولا يراعي التّوليف الذي تمكَّنتَ عن طريقه من أن «تجمع بين كافكا وهمنغواي» كما كتب سارتر.

أعرف جيّدًا أنّ كثيرًا من القرّاء عبر العالم يشاركونني الإحساس نفسه إزاء روايتك التي يبدو لي، في كثير من الأحيان، أنّها تلامس «حقيقة» الوضع البشري، مهما تنوّعت الأحقاب والأوطان، ولعلّ ذلك هو ما يجعلها، إلى اليوم، تتبوأ مراتب البيست سيلر في مختلف لغات العالم. غير أنّني على علم كذلك بمختلف التحفّظات التي أبداها، وما زال البعض يبديها إزائك، حتى إنّ أحد مواطني مسقط رأسك كان قد كتب: «أن صاحب الغريب سيظل بالنّسبة إلى الجزائريين دائما غريبًا».

لا أخفيك أنّني منذ قرأت هذه العبارة وهي تقلقني وتحيّرني في الوقت ذاته: فأنا لم أتمكّن من أن أوافقها تمام الموافقة، إلاّ أنّني لا أستطيع أن أخالفها تمام المخالفة. فبقدر ما «أحبّك» وأشاركك «أعراسك» وبهجتك المتوسطية ويقظتك الدائمة، ودفاعك عن المظلومين، بقدر ما لم أستطع أن أتفهّم لماذا جعلت مورسو، «بطلك» الغريب، يُقتل عند شاطئ البحر، و«بفعل أشعة الشمس» عربيًّا، أو، على حدّ تعبيره أثناء محاكمته، «واحدًا من العرب»؟ لماذا جعلتَ بطلك الذي يرى الوجود عاريًا من المعنى، ولا يرى فرقًا بين القيم والأوطان، ولا حتّى بين الأحزان والمسرّات، والموت والحياة، لماذا جعلت مورسو، الذي يسوّي بين القيم وبين البشر، جعلته يقتل «واحدًا من العرب»؟ لماذا استطاعت كل الفروق أن تذوب في عينيه سوى واحد جسَّده ذلك الواحد الضحية؟ ولا أخفيك أنّ هذا الاستفهام الاستنكاري ترسّخ لديَّ لمّا تبيّنت أنّك ذهبت أبعد من ذلك، فصوّرت في رواية الطاعون مدينة وهران وكأن لا عربيّ يقطنها؟

رغم «تمرّدك» الدّائم على كل تحزّب وانضواء، فإنّني متأكّد أنّ إحساسًا كان يلازمك على الدّوام، بأنّك جهةَ المقهورين والمظلومين والفقراء

هذا التساؤل وتلك الحيرة يدفعاني أن أشعر، في بعض الأحيان، ورغم «محبّتي» الدائمة لك، أن سارتر أقرب إليَّ منك، فرغم عطفي على «بطلك» مورسو وتعاطفي معه، كنتَ تدفعني لأن أحسّ أنّني أكثر تفاهمًا مع روكنتان، «بطل» الغثيان. قد تقول إنّ ذلك ليس إلا من «مكر» سارتر، الذي كان بارعًا في أن يجعل الآخرين من حوله في «منطقة الظل». ولكن، ألا ترى أن الأمر يعود بالأحْرى إلى تذبذبك أنتَ وغموض مواقفك؟ فرغم الطّعم السياسي الذي حاولتَ أن تلوّن به عبثك، فإنّ معظم شخوصك لم يستطع أن يربط الأنثلوجيا بالجيوبوليتيكا، وأن يقرن العبث الأنثلوجي بـ«العبث» السّياسي.

أصارحك بأنّني، لمّا علمت أنّ الرّئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان ينوي سنة 2010 بمناسبة مرور نصف قرن على رحيلك، نقل رفاتك إلى «البانتيون»، «مقبرة العظماء»، شعرت، بنوع من التّضامن مع أسرتك، وبأن الأمر يتعلّق بعملية احتواء تسعى لأن توظّف جثّتك لتجعلك يمينيًا بالرّغم منك، وهذا رغم حرصك، أثناء حياتك، ألا تنضوي انضواء مباشرًا سياسيًا وأيديولوجيًا.

لكن، رغم «تمرّدك» الدّائم على كل تحزّب وانضواء، فإنّني متأكّد أنّ إحساسًا كان يلازمك على الدّوام، بأنّك جهةَ المقهورين والمظلومين والفقراء، وهذا ما سيفصح عنه فيما بعد مواطنك الفيلسوف جيل دولوز حينما سيكتب أنّك تنتسب إلى «المفكرين الملعونين». لكن، لا ينبغي أن ننسى أنّ هذا الفيلسوف نفسه، الذي ينتمي إلى الجيل الذي خلَف جيلك، نعتَك، أيضا، بأنّك تنتمي إلى تقليد فكري لم يكن يبالي كثيرا بما يتجدّد، «فكل فلسفتك، كما كتب، إنّما كانت تعود بنا إلى لالاند ومايرسون، إلى مؤلّفين كانوا معروفين جيّدًا بالكادّ لدى حاملي الباكالوريا». لو أخذنا عبارة “دولوز في كامل قسوتها”، فربّما ينبغي أن نؤكّد أنّك ظللت تنتمي إلى التّقليد الذي يؤثّث الكتب المدرسية التي يتغذّى عليها طلاب المدارس، والتي تُمثّل الفلسفة وقد غدت «مدرسية» «سكولائية»، فصارت تدريسًا وكتبًا مدرسية و«كراسات».

يصعب عليَّ كثيرًا أن أساند ما يقوله هنا عنك أحد أبناء وطنك الذي يضيف: «أما كامو، يا للْحسرة! فكان تارة نزوعًا متكبّرًا إلى الفضيلة، وتارة عبثًا من الدّرجة الثانية». أميل بكل صعوبة إلى هذا الرأي القاسي الذي يذهب إليه ابن بلدك: فأنت لم تفتأ تتردّد بين أخلاق نظرية وعبث غير جذري، ولم تستطع أن تضحّي بحنان أمّك ولفحات شمس تيبازة، مقابل موقف واضح صريح إزاء قضية التحرّر والعدالة.

إنّك، وكما يؤكّد فيلسوف بلدك مرّة أخرى، لم تكن «المثقف الذي سيتمكن من تغيير وضعية المثقّف» كما فعل صديقك وخصمك جان بول سارتر

إنّك، وكما يؤكّد فيلسوف بلدك مرّة أخرى، لم تكن «المثقف الذي سيتمكن من تغيير وضعية المثقّف» كما فعل صديقك وخصمك جان بول سارتر. لقد كنت ضدّ الظّلم وضدّ البؤس وضدّ الشرّ، إلا أنّك لم تستطع أن تجاهر بأنّك ضدّ ظلم بعينه، ظلمٍ كنت تعاينُه صباحًا ومساءً، ظلم أبناء وطنك ضد أبناء مسقط رأسك، فتعمل بالفعل على فضح «عار الفرنسيين في الجزائر».

لا يعني كل هذا أن منزلتك في نظري قد تزعزعت، أو أنني صرت أتنكّر لما فتحته أمامي من آفاق. صحيح أنني لم أعد أعوّل كثيرا على تحليلاتك الفلسفية، لكنني لا أبحث عن فلسفتك فيما تقدّمه كتبا فكرية، وإنّما في «فنّ العيش» الذي ألهمتك إيّاه حياتك المتوسطية، ذلك الفنّ الذي أستشفه من كتاباتك مبنى ومعنى.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى