إلى الرجل الذي تتبعه الفراشات

مُعلّمي العزيز، د. برامود كومار..

أتمنى أن تتمكن من قراءة رسالتي هذه وأنت بموفور الصحة والعافية الدائمة.

مرَّ أكثر من نصف شهر منذ بدأت في كتابتها. السطور الأولى في أول مسودة كانت مُكرسة للسؤال عن الحال والصحة والأسرة والعمل، وهذا هو المهم في كل الأحوال؛ أن تكون بصحة جيدة، أنت وجميع أفراد أسرتك، وأن تتمتعوا بالقدرة على مواجهة عواصف هذا الزمن الموبوء.

 مع تكرار محاولات الكتابة إليك، شعرت بأنني أحتاج للغوص أكثر في تفاصيل السنين التي مضت منذ كنت أسمع صوتك المُحاط بهالة مضيئة كانت تجتذب إليها كل من يراها من طلبتك مثل الفراشات. مضى على ذلك أكثر من ربع قرن، ومازالت كلماتك مضيئة في روح ما اكتسبته منك من معرفة وخبرة في الحياة. غصت كثيرًا في ذاكرتي التي يضنيني طبعها الانتقائي. عدتُ إلى أروقة كلية الآداب، بمبانيها الصغيرة المتدرجة على إحدى تلال المدينة. “تَعِز” التي أعرف كم ارتبطت بها روحيًا، وبتلالها المستكينة في حضن جبل “صَبِر”، وباليمن عمومًا، ولذلك قد تكون ذاكرتك أغنى بالتفاصيل التي لا تُنسى.

د. برامود كومار

 خلال رحلة الإبحار في الذاكرة البعيدة، وملامحها الرئيسية العصية على النسيان، استعنت أيضًا بذاكرة بعض الزملاء الذين قد لا تتذكر بعضهم؛ عبدالحكيم مهيوب، عفيف المليح، فؤاد ناجي، والدكتور محمد القاضي الذي كان يسبقنا بثلاثة مستويات دراسية. أما محمد شمس الدين ومحمد مقبل ومحمد سلطان ومروان، فقد انقطع تواصلي معهم منذ اندلاع الشرارة الأولى للحرب في العام 2014.

 بحثت عنك في “جوجل”و”تويتر”لما يقارب الأسبوع، وتهت في عشرات الصفحات والمواقع الإلكترونية لأن هناك العشرات أيضًا لهم اسم شهرتك نفسه. أخيرًا، بحثت في “فيسبوك”، حيث استبعدت أن تكون أحد روّاده، لكني وجدت صورتك على صفحة يبدو أنك لم تعد تستخدمها منذ سنوات. لحسن الحظ، وجدت الصديق محمد القاضي ضمن الأصدقاء المشتركين، وبمجرد أن سألته عنك، فاضت ذاكرته بك وقال: “أدين للدكتور كومار بكل ما أنا عليه الآن”. كنت أظن أنني لن أعثر عليك، وأن رسالتي لن تكون أكثر من مجرد بوح ممتنّ لمعلّم قدير على صفحات مجلة عربية. هذه إحدى محاسن تكنولوجيا الإنترنت، حيث لم يعد بإمكان الأشواق أن تتعثر بالمسافات الشاسعة، أو أن تغرق في الحد الفاصل بين بحر العرب والمحيط الهندي.

 أسترسل اليوم في الكتابة إليك وخدمة الإنترنت منقطعة عن اليمن بكل مناطقه. إنه اليوم الثالث للانقطاع الكامل للخدمة، ومع ذلك أستمر بالكتابة دون أن أفقد الأمل بأنها ستصلك في الوقت المناسب، وبأن الحرب و”انقطاعات”الحياة ليست قدرًا دائمًا. لذلك أمضي في تأمل أفق صنعاء، وأستعيد مشيتك المتمهلة، والفرق بين ملامح وجهك في قاعة الدرس وخارجها. في الواقع، قضيت العشرين يومًا الماضية في هذه الاستعادات، وبين وقت وآخر، يطلّ التلميذ النجيب من داخلي ليسألني: متى ستخبره بأنك اخترت الكتابة الأدبية مهنة العمر؟ الحلم الصامت الذي لم يفصح عن نفسه أمامك أبدًا لأسباب كثيرة أهمها وعورة هذا الطريق، ومشقة الحياة التي تحقن الحلم باللايقين.

الأستاذ مع طلابه في رحلة

 ليس بمقدور المرء أن ينسى طريقة تعامله الأولى مع معلمه، إلّا إذا كان مجبولا على الجحود أو فارغًا من شغف التعلّم. لا التقدم في السنّ ولا الوقار يمنعانه من ذلك؛ تلك الوقفة أمامك في قاعة الدرس لنسألك عن شيء أو نُجيب على سؤال، النقاشات التي كانت تنهال عليك كلما اقتربت من باب القاعة الخشبي ذي الدرفتين العريضتين، وإجاباتك المُتمهّلة على أسئلتنا العجلى التي ما تلبث أن تتحول إلى إنصات عميق على الكراسي ذات القوائم الحديدية المُجوفة. كان صوتك أحيانًا يأخذني بعيدًا عن الدرس، إلى صوت جدتي الذي فقدته قبل سنة واحدة من مغادرتك النهائية لليمن. كنت أشرد وأتذكر حكاياتها، بينما يوغل صوتك في شرح “صورة الفنان في شبابه “أو “رغبة تحت شجرة الدردار”. اهتمامي بكيف أكتب أعمالًا أدبية خاصة بي كان أكثر من اهتمامي بالفهم التفصيلي لرواية جويس ومسرحية أونيل. كنتُ غرًّا وفاتني الكثير، لكن لحسن الحظ أن الزمن لم ينل من حفريات كلماتك المضيئة وحكايات جدتي المتداخلة مع الضوء الأصفر الخافت لفانوس الجاز. وفي حين ظننت أن أقدار الحياة طمرت صوتك وكلماتك بفعل هذه السنين الطويلة، ها هو قدرٌ سعيدٌ آخر يعيدني إليه؛ صديق كبير يتحدّث عن رغبة المرء في كتابة رسالة إلى معلّم قدير ترك أثرًا مُثمرًا فيه. هكذا انساب إلى سطح الذاكرة وجهك المربع، بملامحه القريبة من سحناتنا القمحية، ونهضت فورًا لنبش حقيبة الصور قبل أي شيء آخر.

في نشاط رياضي

 لم تكن المرة الأولى التي أتفقد فيها صور رحلتنا الخلوية “البيكنيك” إلى قمة جبل “صَبِر”، لكن طبيعة الحياة هنا تجعل من تصفح صور الذكريات في أوقات متقاربة، نوعًا من الترف، سيما منذ بدأت الحرب. لا أريد أن أكربك بأخبار الحرب، فهي متوفرة على القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت. فما يهمني الآن هو استعادة أثرك في شبابي، والذي تجاوز المعرفة إلى طريقة التفكير، وتجاوزهما إلى حكمة الآباء مع أولادهم.

 ما زلت أتذكر توقفنا قبل نهاية آخر منحدرات الجبل في طريق العودة، لالتقاط آخر الصور التذكارية للرحلة. كان إرهاق السير صعودًا وهبوطًا ينسكب على وجوهنا كلما اقتربنا من نهاية المنحدر الوعر أسرع من حلول الظلام بعد الغروب. وبعد التقاط الصورة خاطبتني دون بقية الزملاء: “عندما يكبر أولادك أرِهم هذه الصورة وسوف يفرحون”. لم أكن متزوجًا حينها، وإلى الآن ما زال يذهلني المدى الذي رأيت من خلاله الزمن؛ فحين أريتُهم الصورة لأول مرة، انهالت أسئلتهم الطفولية بلا توقّف، وكان عليَّ تعريفهم بكل من في الصورة، وأكثر الأسئلة كانت عنك. وهذه المرة، حين طلبت منهم مساعدتي في العثور على صور تلك الرحلة، كان يكفي أن أقول: صُوَري مع الدكتور كومار، لتقول ابنتي- وهي أصغرهم: “رحلة المغامرة”؟ أنت من وجّهنا للسير في ذلك المنحدر بدلًا من طريق السيارات المسفلت الذي سلكناه إلى قمة الجبل، وقد صنعت لنا “مغامرة”، يرانا من خلالها أولادنا دون أن ندرك ذلك في حينه. ليتك تعرف كم سعدت حين أخبرني الصديق محمد القاضي بأنك ما زلت تعتني بأولادك وقد صاروا آباءً وأمهات.

 مُعلّمي العزيز؛

ما تعلمته منك لم يقتصر على فهم الخير والشر في الأعمال الأدبية، بل في الحياة باعتبارها قصة لانهائية. والأسئلة الوجودية التي كنت ترميها في نقاشاتنا أثناء السير في شوارع المدينة، رافقتني خلال فترة عصيبة من حياتي. طالما تذكرت محاولة أحد الزملاء في دعوتك لاعتناق الإسلام، وتواطئي معه بسؤالك: أيهما أفضل، الجنة أم النار؟ لقد استوعبت غضاضتنا بصدرٍ رحب دون أن تخبرنا بأن تعدد الأديان هو أحد السمات الأساسية لتماسك المجتمع الهندي. وفي السنة التالية، بعد أن عُدتَ من إجازتك السنوية، لم تجد حرجًا في إخبارنا قصة التقطع للحافلة التي كنت تستقلّها إلى مسقط رأسك؛ ذلك المُسلّح الذي صعد إلى الحافلة وأمر جميع الركاب بالترجّل، ثم توقف أمامك، مُتأملًا الشال الملفوف على رقبتك. الشال الذي جلبته من سوق الملابس في مدينة تعز، وكان بمثابة تعويذة جعلت الرجل المُسلح يقف صامتًا دون أن يتجرأ على إصدار الأوامر أو إيذائك بكلمة.

في ربوع اليمن

 ما زلت أسترجع ملامحك الحائرة في تفسير ذلك الحدث، واعتقادك بوجود قوة لامرئية لحماية الإنسان ولفت انتباهه لعلاماتها ولو كانت في هيئة شال اشتراه من مدينة بعيدة. تلك المدينة التي كانت أقدامنا تخيط شوارعها برفقتك، شطرتها الحرب نصفين وباتت أشبه بدولتين على درجة عالية من العداء بين قادتهما. أما الناس، فما زالوا يتنقلون بين شطري المدينة بقراهما الوادعة على الجبال والسهول، سالكين الطرقات البديلة التي تتجاوز مشقة عبورها حدود التصور. هذا جانب من الوضع الذي نعيش، وأتمنى أن حياتكم أكثر هدوءًا وسلامًا، وأن تتمكنوا من مقاومة مُتحوّرات كورونا والعواصف الاستوائية، وكل أزمات الحياة في بلدكم الكبير والمتنوع. كورونا وصل عندنا أيضًا، وازدادت ضراوة العواصف الاستوائية بالتزامن مع تصاعد نفير الحرب وتشابك الأزمات، ورغم ذلك، تستمر إرادة الحياة.

لك خالص محبتي وامتناني بلا حدّ.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى