على نفس المنوال

يوسف رخا
Latest posts by يوسف رخا (see all)

في ذلك اليوم أظننا كنّا في الطريق إلى الحلاق. لعله خريف القاهرة الذي ليس أجمل منه جوًا. كان نهارًا رائقًا والشوارع هادئة، ورغم طول المسافة لم يكن مراد اشتكى لا من «الحَزمة» كما يسمي الزحمة ولا من أي وجع في «لِجْله». كان يمسك يدي بأريحية كما يفعل دائمًا حين نمشي، ما لم يكن «مخاصمني» لأسباب تتمحور حول رغبة له لم أحققها أو غضب غير متوقع في نبرتي. رأسه لا يكاد يعلو عن خصري لكنه يعاملني بندية. يناديني باسمي. يخاطبني بما كنتَ لتراه وقاحة ساحرة. ويحاجني في كل شيء وكأنه يكلم زميلًا. يواجهني بنقائصي كما يراها وهو يتخيل سيناريوهات.
أحيانًا يأخذه الرغي ساعات متصلة. لا يهمه كثيرًا ما يقوله، لكنه يطالبني بالإنصات عن طريق صياغة تصريحاته كأسئلة، أو بِلَفت انتباهي لوسكتُ: «هَهْ؟» درّبتُ أذني على سماع الضروري فقط في مثل هذه الحالات، وتفادي الرغبة في الصياح حين يعلو الضجر في صدري لأنه لا يسكت. اليوم أيضًا كنت جاهزًا لكنه لم ينبس. كان كلامه قليلًا وذا جدوى عمومًا. ولم يكن قال شيئًا لفترة طويلة عندما انتبهت فجأة على صوته.

رخا، الأب والابن

«يوسف» – قال – «عارف يا يوسف لما تموت أنا حأعمل إيه. بص. أنا حأكون معاك. وإنت قبل ما تموت أنا حأجي عندك يا يوسف. وحأحضنك وأبوسك وأفضل عندك شوية كده. وبعدين إنت بقى تموت عادي.»
بلا أي مقدمات قال ذلك ونحن ماشيان، خطواتنا متفاوتة. أنا أُبطئ وهو يمدّ حتى نكون على نفس الوتيرة. رأيتُكَ. ما إن فسرت ما سمعته، مع ذهول يتكرر بين الضحك والبكاء رأيتك حيًا ثم ميتًا. ومن جديد تألّمت لأني لم أفعل مثلما يقول مراد إنه سيفعل هو. فيما بعد، فكرتُ أنه قال ذلك حتى يُعِدّ نفسه لشيء تخيله لأول مرة ففزِع وأحس بضرورة الاستعداد. وكما يفعل مع كل ما يتراءى له في الحياة، ألّف سيناريو ليجعله محتملًا أو مقبولًا. طبعًا قد يحدث ذلك الشيء في أي لحظة فعلًا لكنْ لعلّ مراد بكّر في الترتيب لفراقي. على كل حال أنا لا أظنه جاهزًا أكثر مما كنتُ أنا يوم جاءني صوت ماما بِخَبَرك في سمّاعة أول محمول ملكتُه في حياتي.
يومها كنتُ أكبر من مراد بنحو عقدين، وفضلًا عن أنك كنت أكبر مني بمثلهما – لا يعني ذلك أنك كنت كبيرًا – كان لك نحو سنة تتردد على المستشفيات. لم يكن عندك مرض مميت بعينه، لكن جسمك بدأ يتهالك بسرعة مطّردة. غُلِبَ الأطباء في علاجك فعدتَ إلى البيت قبل شهر أو أكثر قليلًا. كنا نقول إنها أزمة ومرت لكن حالتك ظلت تتدهور. ونحن نعرف. بالتدريج تقبلنا الأمر، ماما وأنا. بلا كلام أضحى الفِراق أمرًا مفروغًا منه وبتنا ننتظر. في الأسبوع الأخير فقدتَ القدرة على الحركة، ثم الكلام. في ذلك اليوم، يوم خبرك، لم أخرج من البيت حتى بادلتُ ماما دمعتين مفادهما أننا سَلَّمنا بموتك خلال ساعات. كيف كان يمكن أن أستعد أكثر؟
الآن بعد أكثر من عشرين عامًا كنا مراد وأنا في الطريق إلى الحلاق. ذلك الطقس الذي يمارسه الآباء مع أبنائهم لا أذكر أنك مارستَه معي أبدًا، ربما لأن حلاقك المعتمد الأسطى عاشور كان يزورنا في البيت. نفرش ورق جرائد في الصالة ونضع فوقه كرسيًا وهو يفتح حقيبته ويُخرج مقصات. أتذكر صحبتك في مصيف العجمي وقت المغيب. كنت دائمًا تطعمني شيكولاتة. بوضوح أكبر قليلًا، أتذكر ليلة كنا في وسط البلد وأنا شاب. كنا نمر على بوابات وأركان رأيتُها ألف مرة من غيرك، لكنك – عبر تعليقات عابرة بالغة القصر والبساطة – كنتَ تحوّلها إلى مزارات تاريخية وألف ليلة.
كان مساء مميزًا لأنك نادرًا جدًا ما كنتَ تخرج معي. نادرًا ما كنتَ تخرج أصلًا، ما لم يضطرك العمل لذلك. ولا أعرف إن كان انزواؤك هو السبب في أنني لم أشعر بفزع فِراقك حتى في الأيام التي كان فيها على وشك الحدوث، أنك بذلك الانزواء وبتغيّر تفاصيل حياتي أيضًا كنت فارقتَني وأنت حي. حين أتخيلنا نمشي في الشوارع أرى كلًا منا بمفرده. يداك معقودتان خلف ظهرك المفرود، تتحرك ببطء شديد على بعد متر أو أقل قليلًا من الرصيف وسط السيارات على الأسفلت. وأنا بالحقيبة على كتفي مائل إلى الأمام قليلًا أسرع متفاديًا الناس والعقبات على الرصيف. هل حقًا مشينا معًا وأنا أمسك يدك وأتكلم بلا توقف مثلما يفعل مراد؟ هل حدث وتنبأت بفراقك؟
في السنين التالية على موتك، سأعيد اكتشاف نصوص فرنسية جمعتنا دونما نقرأها معًا. أعمال سارتر وكامو وفانون التي قرأتَها أنت بالعربية وقرأتُها أنا بالإنجليزية، ربما حتى في وقت واحد، لماذا لم نحك عنها أكثر؟ هي وحدها كانت تعبّر عن فجيعتي فيك، ذلك الرعب الكوني الذي خَلَّفه غيابك عشية اصطدامي بحائط بعد الواقعة بأقل قليلًا من عام. لا شيء يصف تلك النار السوداء مثل هذه النصوص المتوائمة أيضًا مع قناعاتك التاريخية – الماركسية، التحرر الوطني، الثورة على الاستبداد والاستعمار – ولا الشعور، وأنت واقف في ثبات، أنك تتهاوى في عمق حفرة.

غير أن الأهم من محتوى هذه الكتب شيء آخر. عندما أفكّر أنك كنتَ أنت الآخر تقرأها كنت أشعر أننا نمشي معًا بالفعل. لا يهم إن كنت أمسك يدك أو أرغي بلا توقف، لا يهم إن كنا ذاهبين إلى الحلاق. لعل أحدنا أو كلينا مضطر لتغيير سرعة خطواته حتى يكون على نفس إيقاع الآخر. لعلنا نخوض ممرات ما ورائية لا وجود لها على الأرض. المهم أننا نشغل هذه المساحة المشتركة وأنت رائق. أسمع صوتك تحكي لي – كما حدث في الواقع – عن ذلك المشهد من مسرحية سارتر حيث أحد المحاربين وقد أصيب في الحرب إصابة قاتلة يطلب من الممرضة أن تلمسه وهو على وشك أن يموت. في مثل هذه التفصيلة كما رأيتها أسرار الوجود.
وبروح المشاركة الرجالية ذاتها، ربما بصوت طفل لا يجيد نطق الكلمات، أقول لك إني حاولت بالفعل. صحيح أني غادرت البيت بضع ساعات لكن بمجرد أن جاءتني المكالمة عدت. وعندما دخلت عليك وأنت ممدد في غرفتك كنت أنوي أن أحضنك وأبوسك وأكون معك لكنني لم أتعرف في الجثمان عليك. وقبل أن أحسم أمري كان الجيران دخلوا عليَّ وسحبوني إلى الخارج محذرين من إزعاج الملائكة المحلقة حول رأسك في تلك اللحظة. لم أكن أعرف أن موتك سيقتلني. وحده أعطاني جناحين.
مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى