طبق حلو لعميد الأدب!

دونا صلاح
Latest posts by دونا صلاح (see all)

عزيزي عميد الأدب العربي، طه حسين.

كم كنت أتمنى أن أعيش في زمنك، حيث يجلس الناس باهتمام ليكتبوا رسالة، يتخيرون كلماتها بعد أن اختاروا الورق والقلم اللائق بمن يحبون كي يكتبوا له ويُعبرون عن مودتهم.

 في زمنكم الهني كان للرسالة طعمها وقيمتها، وفرحة وصولها من يد إلى يد، ثم شغف انتظار الرد، بدلًا من الرسائل الإلكترونية السخيفة التي يكتبها الناس وتصل من أحدهم إلى الآخر ربما قبل أن يفكروا. أصابع المتراسلين مُتعجلة هذه الأيام، وقد ترسل ما تندم عليه في اللحظة التالية. لكن، ها أنا محظوظة، أجلس لأكتب إليك شيئًا يُنشر في مجلة الجسرة، فأُفكر قليلًا فيما يجب أن أقوله وأفعله ليسعدك، كتبت سوزان تقول إنك كنت تقول لها دائمًا إننا لا نعيش من أجل السعادة، بل من أجل إسعاد الآخرين. وأنت أسعدت وألهمت الآخرين بأن يسعوا من أجل أهدافهم وأنه لا مستحيل مع الإرادة. كنت أقرأ سيرتك «الأيام» وأنا لازلت تلميذة بعد، وكنت وقتها لا أستوعب ولا أحب القراءة والمذاكرة على الإطلاق؛ فلم أكن أدرك مدى أهمية وجود كاتب ذي ثقل مثلك في عالمنا.

وبصفتي “ذواقة طعام”، فإنني أريد أن أمنحك شيئًا من السعادة على طريقتي. الحلويات تجلب السعادة، وهذه الرسالة مُحمَّلة برائحة السميد والسكر والبيكنج بودر والشربات، فهى رسالة حلوة المذاق لن تنسى طعمها على الإطلاق، وإذا بدأت في سرد المكونات بالترتيب أمامك، فبذكائك الخارق ستعرف ما بداخل هذه الرسالة وستضع صورة لهذا الصنف اللذيذ في عقلك وستنطق في الآخر.

طه حسين

ستعرف أنها البسبوسة دون الحاجة لرؤيتها، وستسألني لماذا اخترت حلوى البسبوسة لتهديها لى؟

بما إننى تطرقت عن كتابك«الأيام» فأتذكر أنك تحدثت مع ابنتك عن العسل الأسود، ، قلت لها: « يا ابنتي، أنت لا تعرفين العسل الأسود، وخير لك ألا تعرفيه»!

لم تشأ أن تعرف ابنتك بالعسل الأسود الذي كنت تأكله في طفولتك، ويُصيبك الخجل والخوف من أن تلوث به ملابسك دون أن تدري، لا أظن أنها كانت شكوى من الطعم، بل من صعوبة التعامل مع طعام سائل، البسبوسة سهلة القياد.

أعرف أن آخر ما تذوقته يوم رحيلك كان ملعقة عسل، تقبلتها من يد حبيبة عمرك سوزان، حسب ما روت في كتابها الجميل «معك» كانت تريد أن تستبقيك، وأن تمنحك بعض الطاقة، لكنك كنت قد بدأت رحلة الانسحاب بعد أن تركت لنا من روائع فكرك أجمل الوجبات وأمتعها.

 أنت قنوع، يا سيدي كنت تأكل مما يأكل كل الناس، كنت تأكل الفول على أشكال مختلفة من الإعداد، الفول المدمس سواء بالزيت أو السمن أو الزبد، وما يُضاف إليه أنواع من التوابل من عند حانوت الحاج فيروز. أعرف أنك تذوقت كل ما لذ وطاب من الحوانيت الصغيرة مثل التين المرطب والبسبوسة وما تبعثه من حرارة في الشتاء.

كانت مائدة إفطارك دائمًا محدودة بأنواع المخلل والفول بالسمن وأرغفة الخبز مع أكواب الشاي وحتى يوم الجمعة الذي كان يُسمى يوم البطون، فكان الإفطار السخي الذي تحصل عليه عبارة عن بيض وفول وشاي، فهو إفطار من وجهة نظري يصلح لأصحاب الدايت. لن نذكر شيئًا عن عجة والدتك التي كانت تكسر لها أربعين بيضة، لا شأن لك بهذا!

حتى وجبة العشاء كانت محصورة ما بين البطاطس في خليط من اللحم والطماطم والبصل أو القرع في خليط من اللحم والطماطم والبصل. وقد عشت حتى صرت شمسًا تضيء الدنيا، وأكلت على موائد الملوك، وصارت وساوس الطفل الذي فقد بصره صغيرًا شيئًا من الماضي. وعرفت كل ألوان الحلويات الفرنسية والإيطالية، لكن الحنين ـ فيما أتوقع ـ يظل للطعام الأول. والبسبوسة غرام الكثير من المصريين.

من كثرة حبى لحلوى البسبوسة بداية من صُنع أمى للبسبوسة في المنزل خاصة أيام الشتاء وقت الدراسة وفرحتى الشديدة بتلك الرائحة الذكية في كل أرجاء المنزل، صوت الفرن وشكل الصينية وأمى تضع فيها قطع اللوز المُقشر لتُجمِّلها وتُعطيها منظرًا شهيًا قبل أن تدخل الفرن أو أتذوقها، لذلك وعلى كثرة ما أتذوق تظل للبسبوسة قيمتها العاطفية عندي، لذا فهي أعز ما أهديك.

وقد لاحظت عندما أجريت حوارات مع عديد من الأدباء والأديبات حول الطعام، ويأتى سؤال ما الحلويات المُفضلة بالنسبة لك؟ الإجابة في الأغلب كانت البسبوسة.

كنت أبحث عن البسبوسة كأنى أُحضِّر رسالة دكتوراة وكأننى سأكتشف شيئًا جديدًا في هذه الحلوى الجميلة، وفي يوم قررت أن أسأل أستاذي إبراهيم عبد المجيد:لماذا تعتقد يا أستاذي أن معظم الناس تحب حلوى البسبوسة؟

كان رده بسيطًا وجميلًا: لأنها حلوى مبهجة وليست غالية الثمن، من وجهة نظرى أيضًا أن المصريين بطبعهم محبون للبهجة فكانت حلوى البسبوسة تزيد من بهجتهم عندما تدخل في كل بيت خاصة في شهر رمضان الكريم.

و إذا سألتك السؤال ذاته عن حلوياتك المفضلة ستُجيب نفس الإجابة وبدون تفكيرـ البسبوسةـ إلى جانب البليلة التى أعلم أنك تعشقها.

فكرت في إحضار ابتكارات مع صينية البسبوسة التقليدية، خوفًا من ألا أكون قد أتيت بجديد، ففى عصرنا الحديث خاصة في شهر رمضان، أصبحت للبسبوسة عدة أنواع شهية وعجيبة أعتقد أنها ستروق لك.

هناك طبق شهير يدعى “القنبلة”، هو عبارة عن مزيج من البسبوسة، الكنافة، المانجو، الفراولة، القشدة الطبيعية وجبة متكاملة وغذائية أحضرته لك.

أيضا هناك نكهات بطعم اللوتس، النوتيلا، الريد فيلفيت، كل هذه ابتكارات للبسبوسة أحضرتها لك. لكنك ربما لن تسوغ هذا التداخل في الطعم، هل تعرف؟ كنت أتمنى بالأساس أن أصحبك في جولة بالإسكندرية التي تحبها، لترى أن هناك ما بقي على حاله. «متروبول» الذي كنت تحب أن تتنسم منه هواء البحر، ومقهى «التريانو» لم نزل نذهب إليه وليس هناك الكثير ممن يعرفون أنك كنت تحب أن تجلس على رصيفه ليقرأ لك سكرتيرك مجلة الكشكول، وحبذا لو كانت معك شريكة عمرك سوزان، فأنا أعرف أن وجودها هو ما يبدد الظلمة عنك، ألم تقل لها إنك تشعر بالغربة في غيابها، وإنها ضياؤك حضرت أو غابت؟!

لقد قالت لنا كل شيء عنك، عن العاشق، وجدت الوقت بعد غيابك لتمتعنا بقصة حب أسطورية رأينا فيها الإنسان الرقيق الخفي تحت صورة المفكر الصلب في المعارك.

والآن، لتستريح وتعرف أننا نحبك، وأرجو أن تقبل هديتى المتواضعة، إلى لقاء قريب.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى