فيينّا.. مدينتي الأثيرة

في نهايات فترة المرحلة الثانوية ومعها تقريبًا كل الفترة الجامعية، أو تحديدًا الفترة من منتصف السبعينيات حتى منتصف الثمانينيات، تأثرتُ بثقافات غربية إلى جانب ثقافتي المصرية الأصيلة الغنية، مثلي مثل معظم أبناء جيلي، وكان ذلك عبر الراديو والتليفزيون والسينما وكثير من الكُتب المترجمة. فعلى صعيد الموسيقى، حضر بوب مارلي ومايكل جاكسون وتوم جونز وجيمس براون وديميس روسوس ودايانا روسّ ومونجو جيري وروبرتا فلاك وداليدا، وفِرق شهيرة مثل: أبّا وبوني إم وبي جيس ورولينج ستونز وغيرها من أجيال سابقة مثل: البيتلز وإلفيس بريسلي. ملأوا حياتنا أحلامًا وصخبًا مفارقًا لما وجدنا عليه آباءنا. انتقلنا فجأة إلى عصر بنطلونات الشارلستون والشعر الطويل والتأثر بنزعات الهيبيز واستعمال بعض المفردات الإنجليزية في الأحاديث على سبيل التقمص والتقليد والانبهار.

كذلك على صعيد السينما فُتِنّا بسيدني بواتية وجاك نيكلسون ومارلين مونرو وتشارلي تشابلن وإليزابيث تايلور وكلينت استوود وروبرت دي نيرو وإنغريد بيرجمان وإليزابيث تايلور ومارلين ديتريش وهمفري بوغارت وغريتا غاربو وكاثرين هيبورن وصوفيا لورين. أبهرتنا أفلام مثل: “الأب الروحي”و”كازابلانكا”و”حمّى ليلة السبت”و”قصة حب”و”عبّاد الشمس”وعشرات الأفلام الملهمة.

في تلك الفترة تمثلتْ لي ولأقراني أمريكا وأوروبا كجنة الله على الأرض للحرية والحياة، التي نتمنى أن نفوز بها يومًا ما.

كان حلما أن نسافر إلى الغرب ذات يوم، أن نعيش هذه الحياة في هذه الحياة.

° ° °

مولدي كان في مصر أواخر الخمسينيات، نشأتي قاهرية ولهجتي بالطبع، ارتباطي بمصر أصل لم يتغير، جذوري من ناحية الأب تمتد إلى أعماق السودان من قلب كوستي، مثلتْ وتدًا فريدًا متناغمًا طبيعيًا. أمّا من ناحية أمي فجذورها لجدة من دمياط وأم لها وُلِدتْ في بورسعيد، انتقلتْ (جدتي) إلى منطقة البيومي في الحسينية بالقاهرة، وعاشت فيها حتى وفاتها، فعشنا معها في طفولتنا زمنًا جميلًا في هذا المكان الذي يمثل بعضًا من قلب مصر وروحها.

عشتُ طفولة غنية منسجمة هنية متوازنة، قبل حالات الخلخلة السياسية والضغائن والتصدعات التي طرأت على مصر والسودان منذ منتصف الثمانينيات

عشتُ طفولة غنية منسجمة هنية متوازنة، قبل حالات الخلخلة السياسية والضغائن والتصدعات التي طرأت على مصر والسودان منذ منتصف الثمانينيات حتى وقتنا الحالي.

وشاءت الأقدار وشئتُ أنا معها أن أنتقل إلى قلب أوروبا؛ إلى فيينا تحديدًا، هكذا بين يوم وليلة وجدتُ نفسي في مدينة ما إن وصلت إليها حتى كرهتها في اليوم التالي، لم أجد تلك الجنة التي رسمتها لي القراءات والموسيقى والأفلام الأجنبية التي عشت سحرها في مراهقتي وشبابي في القاهرة. لم تكن فيينا هي تلك المدينة التي سحرتنا بها أسمهان حين تغنّت بـ “ليالي الأنس في فيينا”. شعرت بالخديعة ورأيت بنفسي كيف يكون لأوروبا وجهٌ قاسٍ لا يراه إلا من يعيش الواقع حقًا على أرض الواقع الفيينّاوي لا فوق سماء الأحلام القاهرية.

لكن هذا هو حال كل نبتة تُشتَل من أرضها إلى أرض أخرى، مصيرها إمّا النمو والاستمرار أو الهلاك. شُتِلتُ من طينة الميلاد الدافئة وزُرِعتُ في إسفلت الصقيع، لكن الذكريات ظلت سمادًا للأرض الجديدة وحافظت على البقاء.

لو رآني أكثر الأشخاص تفاؤلًا في منتصف الثمانينيات في هذه المدينة، لما ظنَّ أنني سأبقى فيها لأكثر من بضعة أشهر. كنتُ أسير في هذه المدينة أسيرًا لدرجات برودة تحت الصفر تجعلني أتحرك مثل المنَوَّم مغناطيسيًا، أسير مُجمَّدا حتى تنفك أوصالي في دفء لا يأتي بسهولة.

بدأت بنفسي في صُنع أسلحة البقاء ضد هذا البرد المجرم؛ بمفتاح الصبر على المناخ المؤلم الطارد والمميت لأعتى الديناصورات على الأرض، ثم بمفتاح آخر لتلك اللغة العصية الغريبة الصعبة؛ اللغة الألمانية.

° ° °

سرتُ حذرًا فوق أرض تجرّعَتْ الكثير من الدماء، وأهلكتْ العديد من الأرواح، أرض الحروب العالمية والتاريخ الموجع، التي لو نزلتُ إليها قبل قرن ونصف القرن من وصولي لكنت في اسم كان وخبرها. والأرض التي تتشرب كل هذا الكم من الدماء وتُبيد كل هذه الأرواح، لابد لها أن تزهر حياة أفضل وروحًا أخرى مهما طال الزمن.

بعد أعوام قليلة بدأت تدريجيًا أهوى فيينا مُتخلصًا من هذا المُقت المزمن الذي لازمني، أتيتُ في شتاء هزمني، ولما جاء الربيع تفاءلتُ، ولما جاء الصيف أحببتُ بهجة المدينة وفتياتها، ولما دخل الخريف تأملتُ ما فات، ولما عاد الشتاء عاد لي المُقت لكن بدرجة أخفّ، وهكذا صارت الفصول تتوالي ويتجمع خزين الوداد والقبول للمدينة وأهلها، طاردًا العداوة التي كانت.

مر عقد من الزمان وباحت لي المدينة بجزء من أسرارها وفَكَّتْ لي ضفائر حُسنها، هنا عادت تدريجيًا فتنة الموسيقى وبهاء الأفلام وصور الفراديس التي راودتني في القاهرة عبر جمال المدينة وأنسها وعبر متاحفها وحدائقها وقصورها وحاراتها وبناياتها وحاناتها ومقاهيها وقبل كل ذلك أهلها.

سألتُ نفسي: هل ستبقى أم أنت مغادر؟

قلتُ سأبقى وصدقت أسمهان!

°  °  °

في كل زيارة سنوية لي إلى القاهرة -بعد وصولي إلى فيينا عام 1984- كنت أشعر كمن يعيش مع زوجة أب طيبة في فيينا، ومع أم حنون في القاهرة. أمي القاهرية تتلقاني بحضن عامر غامر، لكن من وراء قلبها تدفعني للعودة مجددًا إلى بيت زوجة أبي، ترى ما أراه وما لا أراه. في فيينا تستقبلني زوجة الأب أيضا بالحضن والترحاب وبترتيب كل ما أحتاج إليه من أجل إقامة طويلة أو دائمة.

شاءت الأقدار وشئتُ أنا معها أن أنتقل إلى قلب أوروبا؛ إلى فيينا تحديدًا. هكذا بين يوم وليلة وجدتُ نفسي في مدينة ما إن وصلت إليها حتى كرهتها في اليوم التالي

مع الوقت استحالت العودة الدائمة للقاهرة والبقاء فيها. أضاف الزواج من نمساوية ارتباطًا ومسؤولية وأضاف العمل ارتباطًا ومسؤولية وأضافت الصداقات المتتالية عِشرة غالية وبهجة.

أقمتُ في مدينة ليالي الأنس بصفة نهائية.

قدَّمتْ لي فيينا ثقافة إضافية يسيرة وقريبة بتكلفة زهيدة أو مجانية في أغلب الأحيان، سواء من خلال متحف أو مسرح أو كونسيرت أو سينما أو عروض أدبية وفنية وغيرها. رأيت في فيينا ثقافة تختلف عن ثقافة كثير من المدن الشهيرة بفنونها النخبوية. الفن في فيينا رغم أناقته فهو في متناول الجميع، لا يخص نخبة وليس من أجل الاستعراض. هذه الأصالة يتشرب منها الناس المغزى الحقيقي من الفن، ينهلون منه لدواخلهم قبل الشكل المظهري الخارجي، وأن تكون المرأة الفييناوية مفتونة بالموسيقى مثلًا وربما قادرة على ممارسة هذا الفن كهواية منزلية، فهو ما يشبه في مجتمع آخر القدرة على تحضير وجبة لذيذة بمنتهى الاحتراف. أن يكون هنا أصحاب كل المهن كرجل النظافة والبواب والسباك مهتمين بالمسرح والكونسيرت ويحضرون عرضًا في نهاية الأسبوع مع زوجاتهن ليس بالأمر الغريب، وأن تكون للفلاح ورجل البريد مكتبة بكُتب يحبها ويقرؤها ليس من قبيل المحاكاة الفارغة أبدًا.

طارق الطيب مع طلابه وزملائه
°  °  °

صار لي في فيينا صديقات وأصدقاء، صارت لي مقاهي من أجمل مقاهي العالم تجمعني بهن وبهم وأصبحت هناك مناسبات كثيرة تضمنا؛ أصدقاء وصديقات من جنسيات مختلفة، أتى بعضهم مثلي طواعية وأغلبهم قسرًا، فتلاقينا في ظروف وآمال متشابهة. اجتمع معنا الفنان الذي يشبهنا والذي لا يشبهنا وحاورنا السياسي الذي يفهمنا وجادلنا الذي يبغضنا، وفتح البعض قلوبهم للإنسانية المتشابهة وأغلق البعض قلوبهم أيضا مع إنسانية متشابهة.

أصبح معتادًا لي هنا أن أرى رئيس الجمهورية ساكنًا في بناية قريبة مني وتشبه البناية التي أسكن فيها، لا حرس عليها ولا كاميرات؛ أن أراه داخلًا إلى المقهى الذي أجلس فيه بلا هُتافات أو تبجيلات أو إزاحة بشر من الطريق، متحادثًا مع أصدقائه شاربًا قهوته ودافعًا حسابه من محفظته مثلي ومغادرًا ببساطة؛ أصبح مألوفًا لي هنا أن أرى قرينته تذهب بنفسها على القدمين لإحضار أحفادها من المدرسة القريبة نهاية الشارع، أو أن أجد النائب البرلماني في حزب الخضر يركب دراجته إلى البرلمان لأنه من مُناصري البيئة وضد تلوثها أو جالسًا على جواري في الباص، أصبح عاديًا لي هنا أن أجد سيارة عميد الجامعة أصغر وأرخص من سيارة أمين المكتبة أو حارس البوابة بلا أي حرج أو عيب؛ أصبح طبيعيًا لي هنا أن ألتقي بشخصيات شهيرة تمشي في الشارع نفسه وتدخل المطاعم والمقاهي نفسها، وأن تكون لي مع بعضهم صداقات عادية بحكم الاهتمامات أو التردد على الأمكنة نفسها.

كنتُ أسير في هذه المدينة أسيرًا لدرجات برودة تحت الصفر تجعلني أتحرك مثل المنَوَّم مغناطيسيًا، أسير مُجمَّدا حتى تنفك أوصالي في دفء لا يأتي بسهولة

هنا تجمَّعتُ مع كل الطوائف من يحبني ومن يكرهني، واقتربتُ ممن يفهمني وليس بالضرورة من يحبني، صرت أكتب وأنشر مع زميلاتي وزملائي ونقوم بمشاريع مشتركة ناجحة، وأصبحت أسافر ممثلًا للنمسا عدة مرات في محافل دولية، ممثلًا للبلد الذي قدم لي الجنسية ببساطة وسمح لي أن أقول رأيي صراحة في كل مكان دون أن يطلب الاطلاع مسبقًا على ما سأتلوه على الجمهور. صحيح أنه ليس صوتًا مؤثرًا كما ينبغي وكما أتمنى لكنه صوت حر، صوت لا يُعتقَل.

طارق سفيرًا فخريًا
°  °  °

في بداية وصولي إلى فيينا قبل أربعة عقود، عشت بالقرب من قلب المدينة، لكن في أجواء كابوسية ثقيلة على الروح والجسد وفي فقر مادي حقيقي. كان هذا من بين الدروس والخبرات التي تعلمتها واكتسبتها. كنت مثل طفل يحبو في المدينة، أرغي فلا يفهمني أحد ولا أفهم أحدًا. من حسن حظي أنني انتقلت رويدًا إلى المركز، مهتمًا بتاريخ البلاد القاتم وبتاريخها الناصع، مندهشًا بالفنون العظيمة من إيجون شيلي وجوستاف كليمت وكارل كوراب، عاشقًا لشوبرت وموتسارت وهايدن، مفتونًا برومي شنايدر وفالكو وهوبرت فون جويزرن وكلاوس ماريا برانداور وكريستوف فالتز، قارئًا لشتيفان تسفايج بلغته الأم ولكافكا وتوماس برنهارد، معاصرًا لإلفريده يلينك صاحبة نوبل، ومصادقًا للشاعريْن الراحليْن كريستيان لويدل وجيرهارد كوفلر وللراحلة فريديريكه مايروكه وللمعاصرة باربارا فريشموت، متابعًا لدافيد ألابا وتوماس موستر، ومئات الأسماء المضيئة في العلم والفن والأدب والحياة وأولهم عالم النفس الكبير سيجموند فرويد، متيّمًا بالكباريه النمساوي الساخر الذي لا مثيل له في المحيط الألماني من وجهة نظري، مرهَقًا أحيانا من اللهجات النمساوية الدارجة الغنية والمُثيرة.

بدأت بنفسي في صُنع أسلحة البقاء ضد هذا البرد المجرم؛ بمفتاح الصبر على المناخ المؤلم الطارد والمميت لأعتى الديناصورات على الأرض

لكن أيضا لم أكن غريرًا لأظن أنني في الجنة، فأسفل هذه الأرضية الثقافية الفاتنة الصلبة هناك خنادق كثيرة من حروب خفية لأصحاب فكرة السلالة الأرقى والأنقى، هم بالمناسبة موجودون في كل مكان وفي كل ملة في عالمنا الواسع.

°  °  °

ما يقرب من أربعة عقود وأنا أقيم في هذه المدينة (ثمانية وثلاثون عامًا حتى وقت كتابتي لهذه الشهادة). أعيش فيها وأتحرك في كل شرايينها. لي فيها تاريخ قصير ربما، لكن لي هنا أيضًا أهل وأقارب وامتدادات، لي فيها طالبات وطلاب أحبوا العربية بسببي، لي فيها كتابات ستبقى وآثار لن تضيع، ولي فيها تكريمات لا أنساها وتقدير بمنجزي المضاف وبوسام الجمهورية النمساوية الذي أعتز به.

لا أنسى الجانب الأكاديمي في هذه البلاد، فلولا أستاذي بجامعة فيينا الذي قبِل أطروحتي للدكتوراه، أستاذ الفلسفة الذي يعشق منطق الفن والأدب بفلسفة العلم والذي سمح لي أن أكتب أطروحتي العلمية في فلسفة الاقتصاد في شكل مشاهد مسرحية تضاهي الشكل الفني وتلتزم بالشروط العلمية. هو من جعلني أشعر بهذا الاحترام العميق الدائم لطلاب العلم وللعلم والعلماء. وكيف لا أشعر بهذا وأنا منذ التحاقي بجامعة الاقتصاد في فيينا وكل الأساتذة يقولون لي وأنا مازلت طالبا: “أيها الزميل”، وهذا القول بالطبع لجميع الطلاب.

قراءة أدبية

كنت حزينًا وأنا أتذكر أن جامعتي الأولى في مصر، جامعة عين شمس، في عهد مبارك قد رفضَتْ أن أستكمل دراستي العليا فيها بحجة أنني طالب سوداني “أجنبي”، وأصرّت على أن أدفع مصروفات مرحلة الماجستير مثل أي طالب أجنبي. حدث ذلك في إحدى فترات العتمة السياسية البليدة في بلداننا العربية، فلجأت إلى فيينا وقدمت في جامعتها وقًبلت فورًا، ليكون أول قرار منها هو أن أستكمل دراستي العليا مجانًا باعتباري طالبًا من دول العالم النامي، وأن أسترد مصروفات كل فصل دراسي أجتازه.

°  °  °

أصبحت فيينا مدينتي الأثيرة، صارت موطنًا لي ووطنًا. حين أضع رأسي على وسادتي ليلًا، أنام مرتاح البال بما قدّمت وبما سأقدّم في اليوم التالي، أنام بلا خطر على حياتي وحياة أسرتي، بلا تخويف أو تهديد بترحيل، بلا شعور بأنني مواطن من درجة أدنى، لي جنسية وفعالية وصوت انتخابي وعمل في جامعات من أرقى جامعات أوروبا. أنا كما أنا بهويتي الغنية بأصلها وإضافاتها، لا أحد يطلب مني أن أتنازل عن هويتي الثقافية أو أن أشبههم في ميل سياسي أو أتشبه بهم في أي أيديولوجية كانت.

قدَّمتْ لي فيينا ثقافة إضافية يسيرة وقريبة بتكلفة زهيدة أو مجانية في أغلب الأحيان، سواء من خلال متحف أو مسرح أو كونسيرت أو سينما أو عروض أدبية وفنية

فيينا أصبحت مدينتي الأثيرة رغم أنها أرهقتني في البدايات، عذّبتني ثم أحبّتني، أَثْقَلَت عَليَّ بلغتها الألمانية ولما تعلمتها دللتني، أجهدتني بتعليم أكاديمي ثم أثابتني، حيّرتني بتاريخها المُربك وشغفتني بفنونها السامية، أراقت عَرقي حين كنت وافدًا جديدًا وأنهكتني ثم صفت لي وجازتني، أفرحتني مرات وأحزنتني مرات، لكنها في النهاية منحتني صفاء الوجدان وراحة البال لأعرف فيها نفسي وأعرفها حتى صارت الأثيرة.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى