إبداعات كورونا.. سرعة الاستجابة وأسئلة المصير

منذ نشأة الواقعية السحرية في الأدب، بدأ تيار الواقعية الاجتماعية في الانحسار، فأعطى ذلك الفرصة، لشيوع أنماط جديدة للسرد الأدبي، تتجاوز الواقع المُعاش إلى فضاءات فانتازية ليس فيما وراء الواقع فحسب، بل في ما بُعده أيضا على نحو ما نرى في روايات الخيال العلمي التي تستشرف صورًا مغايرة لواقع الإنسان في المستقبل، غير أن السنوات الأخيرة المواكبة لجائحة كوفيد 19 استعادت الكثير من الكتاب إلى رؤية الواقع المُعاش وأزماته. فهل معنى هذا أن الإبداع يتحرك بمعزل عن الاتجاهات المُمنهجة نقديًا؟ ليكون أكثر إنصاتًا لتحولات الواقع في أزماته: حروبه السياسية والعسكرية؛ وكوارثه الطبيعية؛ وجوائحه القدرية.

بالطبع لم تكن “كوفيد19” الجائحة الأولى في حياة البشر، التي لفتت انتباه الأدباء، فتاريخ البشر شهد العديد من الهجمات الوبائية، فمن الطاعون إلى الكوليرا إلى الأنفلونزا الإسبانية، وأنفلونزا الطيور. ليس من قبيل الصدفة إذن أن كان الطاعون موضوعًا محفزًا لرحلة أوديب الأسطورية إلى طيبة، لكن الأكثر إدهاشًا؛ أن يكون موضوعًا محفزًا لحكايات الجوائح منذ باكورة الرواية مطلع القرن الرابع عشر، على نحو ما نرى في الديكاميرون. حيث يحكي بوكاشيو عن الطاعون في سلسلة متتابعة من المستويات الرمزية التي يجري سردها خلال عشرة أيام؛ هي الزمن الروائي والزمن الواقعي في آنٍ، وهي أيضًا الأيام العشرة الرهيبة التي حصد فيها الموت الأسود أرواح 25 مليونًا من البشر، أي ربع سكان أوروبا في ذلك الوقت. وطأة المأساة دفعت شخصيات الديكاميرون إلى الهروب من “فلورنسا”إلى الريف، ليبعدوا عن أذهانهم ما عاشوه من أهوال، وكانت حافزًا لمائة حكاية تُروى خلال عشرة أيام.

تاريخ البشر شهد العديد من الهجمات الوبائية، فمن الطاعون، إلى الكوليرا، إلى الأنفلونزا الإسبانية، وأنفلونزا الطيور

في الأدب الحديث لدينا أعمال بارزة مثل «الطاعون» لألبير كامو التي تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية، لتكون موقعًا لأحداث الرواية التي مزج فيها بين الواقع والخيال معًا. وبحسب الرواية كانت المدينة تشهد انتشار وباء الطاعون الذي ضربها وأوقع فيها الكثير من الضحايا وعزلها عن العالم.

لدينا كذلك «العمى» لساراماجو. لم يعمد الكاتب إلى استلهام الواقع كما فعل كامو بل ابتدع وباء غريبًا أطلق عليه البياض المُشع ينشر العمى بصورة سريعة في جميع أنحاء البلاد، لم تنج منه سوى امرأة وحيدة هي زوجة الطبيب.

وفي أوائل الثمانينيات من القرن الماضي ظهر فيروس غريب من نوعه وأُطلق عليه وباء العصر الحديث وهو فيروس الإيدز، أحدث منذ اكتشافه حالة من الرعب العالمي وأصبح موضوعًا لكثير من الروايات منها: “الليالي الموحشة”للفرنسي سيريل كولار الذي كان أحد ضحايا الإيدز، وكذلك رواية “إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي”لهيرفيه غيبير الذي مات به أيضًا.لهذا تأخذ الروايتان طابعًا سير ذاتيًا.

«الموت في البندقية»،للألماني توماس مان التي نقلها المخرج الإيطالي لوتشيانو فيسكونتي إلى السينما، بطلها غوستاف فون أشينباخ كاتب ألماني معروف في الخمسين من عمره، يقوم برحلة بعد إصابته بحالة من الاضطراب، إلى الشاطئ الأدرياتيكي تنتهي به في البندقية. تلك المدينة التي لم يشعر يومًا بارتياح إزائها، وهناك يرى الفتى تادزيو فتى بولوني يجذبه بل يفتنه بجماله النضر، لكنه لا يلبث أن يسعى وراء الفتى ويطارده سرًا في شوارع البندقية. وبينما يتفشى في المدينة مرض الكوليرا، يصاب أشينباخ بحالة من الكآبة ثم تعتريه الحرارة ولا يلبث أن يموت جراء إصابته بوباء الكوليرا، يموت على الشاطئ محدقًا بعينين رقيقتين إلى الفتى. إنه حب محرم ومستحيل يفضي إلى الموت، بعكس ما رأينا عند ماركيز.

في «الديكامرون» يحكي بوكاشيو عن الطاعون في سلسلة متتابعة من المستويات الرمزية التي يجري سردها خلال عشرة أيام

ولدى أديبنا نجيب محفوظ في روايته “الحرافيش، نحن أمام طرح فانتازي لا ينقصه العمق الفلسفي الذي يُضفيه محفوظ على واقعة تاريخية بعينها، انتشار الطاعون في القرن الثامن عشر الميلادي، محولًا إياها إلى نوع من المحاكمة الفلسفية لفكرة العدل، فالإنسان أو الجنس البشري وهو هنا ممثل في بطل الرواية “عاشور الناجي”الذي نجا من الإصابة بالطاعون الحقيقي بعد فراره مع أسرته لا ينجو من الطاعون المجازي/الظلم، لأنه يفشل في بناء مجتمع العدل، المجتمع الجديد على أنقاض المجتمع القديم الموبوء. وعندما يعود إلى الحي الذي كان يسكنه يجده خاويًا من البشر، وهنا يجد فرصته ونسله في إنشاء مدينة العدل أو مدينته الفاضلة لكن محاولاته لإشاعة العدل ورفع الظلم تذهب أدراج الرياح بمجرد أن تدب الحياة في الحي ويكتظ بالبشر.

تطول قائمة الأعمال الفنية التي تناولت الأوبئة، وكلها تاريخ من الماضي يستلهمه الكتاب، لكنها غير التي نمر بها ونُعايشها، وقد فاجأ فيروس كوفيد ١٩ العالم ونحن من ضمنه، في زمننا هذا وقد ظننا أن العلم أصبح أكثر سيطرة على الطبيعة.

واستجاب الأدب بعدد كبير من الروايات، من بينها «حب في زمن كورونا» للبنانية ستيفاني عويني، و«هاربون من كورونا» للأردني مصطفى قرنة، و«ليالي كورونا» للمصرية أماني التونسي، و«عذرًا كورونا» للأردنية أمل عبده، و“ليليات رمادة» لواسيني الأعرج“، وغير ذلك من روايات.

ولأن القصة بنت حدس اللحظة فهى أسرع استجابة للتعبير عن الظاهرة. إذ انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المسابقات موضوعها كوفيد19،من تلك المسابقات مسابقة نظمتها “آي ريد “عن ليالي كورونا 19 وأصدرت 20 قصة من القصص الفائزة في كتاب بعنوان “ليالي الكورونا عن دار الشروق، غالبية القصص داخل هذا الكتاب أبطالها من الأطباء وطواقم التمريض، في اعتراف خفي أنهم أبطال تلك المرحلة الحقيقيون، كما أن غالبية القصص دعمت فكرة الانتصار على فيروس كورونا.

القصة بنت حدس اللحظة، فهي أسرع استجابة للتعبير عن الظاهرة، إذ انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الكثير من المسابقات موضوعها (كوفيد-19)

أما الظاهرة التي ارتبطت بالسرد القصصي لجائحة كوفيد فهي تُشابه الوقائع والأحداث، بل ومشاعر الشخصيات وردود أفعالها،بالرغم من درجات التفاوت في النضج الفني للقصص. غير أن فيروسًا مستجدًا على هذا القدر من سرعة الانتشار ودرجات التحور أربك العالم، كان في حاجة إلى مُعالجة فنية على درجة من المعرفة العلمية إلى جانب الوعي الفني، نجدها بوضوح عند القاص محمد المخزنجي، وبالتحديد في قصة غرفة عزل منزلي للوباء القادم، وبطلها قرر أن يُحوِّل غرفة نومه إلى «غرفة ضغط سالب».

وتدور الأحداث خلال سرد رشيق بحس رومانسي يُبيّن خلاف الزوجة التي ترفض إجراء أي تغيير في غرفة نومها الذي قضت فيها أربعين عامًا مع زوجها وتستمر محاولاته لإقناعها، تتخلل القصة أحاديث بين الزوجين عن المجتمعات البدائية وقبائل البوشمان في صحراء كالهاري،وكيف أن بكارة مجتمعاتهم ستحميهم من جوائح العالم المُتمدن. إن صوت المبدع يتماهى مع صوت الطبيب ونصير البيئة محمد المخزنجي، فيكتسب النص بُعدًا معرفيًا.

في النهاية فالكتابة عن ظاهرة من الظواهر لن يُكتب لها الخلود إلا إذا اتخذ المبدع لنفسه منحىً خاصًا يجعله لايقع أثيرًا مجرد رصد الظاهرة ومُحاكاتها. فالظاهرة بنت وقتها سرعان ما تنتهى بانتهاء الحدث. والكتابة عن كوفيد 19 تقتضي أجواءً هادئة ولحظات تأمل ستأتي بعد انقضاء الأزمة.

وختامًا، “يظل الأدب الوجه المُشرق من الكارثة”، كما يقول الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرار.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى