«لا تُحدّثني بالفرنسيّة»!

ارتفعت في الفترة الأخيرة دعواتٌ للتخلّص من اللّغة الفرنسيّة في الجزائر بلغ صداها دوائر رسميّة، في ظلّ توترٍ سيّاسي مع باريس على خلفيّة تصريحات “مسيئة”للرئيس ماكرون، ربط فيها وجود الأمّة الجزائرية بالاستعمار.

وحتى وإن خدم الغضبُ الطارئ هذا الموقف، فإنّ خطواتٍ “غير مرئيّة”قُطعت في هذا الاتجاه، مع إقبال الجزائريين على تعلّم الانجليزية، حيث انتشرت مدارس خاصّة لتعليم لغة شكسبير، التي أصبحت مطلوبة حتى في ريّاض الأطفال، ما يُهدِّد مستقبل الفرنسيّة في أحد أكبر معاقلها، ليس لأنّها لم تعد قادرة على تلبيّة الحاجيات العمليّة والاقتصاديّة فحسب، بل لتُرسّخ قناعة بأنّ هذه اللّغة تحوّلت إلى أداةِ هيمنةٍ تُستخدم في ربط البلاد بالمستعمر السّابق وعزلها عن المحيط الإقليمي.

يمكنُ رصد نقدٍ غير مألوفٍ لكُتّاب يكتبون بالفرنسيّة، مثلما فعل كبير الروائيين الجزائريين رشيد بوجدرة في كتابٍ هجائيٍّ

و يمكنُ رصد نقدٍ غير مألوفٍ لكُتّابٍ يكتبون بالفرنسيّة، ويحظون بدعم دوائر إعلاميّة باريسيّة، مثلما فعل كبير الروائيين الجزائريين رشيد بوجدرة في كتابٍ هجائيٍّ صدر في الجزائر باللّغتين، بالفرنسية أولًا تحت عنوان: “مُهرِّبو التاريخ”ثم بالعربيّة بعنوان صادم: “زُناةُ التاريخ”، انتفض فيه على ما وصفه بالانتحال والتّلفيق الذي يتعرّض له التاريخ الجزائري من طرف جزائريين “لعبوا دور البيدق الخادم لمصالح سيّده المستعمر والعميل للسّلطة الأجنبيّة”، وفَكَّك بوجدرة الآليات التي يشتغل عليها الاستعمار الجديد بدعم كُتّابٍ وفنّانين يقدمون فترة الاستعمار الفرنسي كفترة “سعادة مُطلقة”، أو يربطون بين الحداثة والاستعمار وهو الخطاب الذي صاحب الاحتلال منذ فيكتور هوجو الذي اعتبر الغزو نقلًا للحضارة إلى شعب مُتوحّش وأشاد بنقل المقصلة إلى الجزائر لتعريف سُكّانها بالموت، مرورًا بمثقفي اليسار وانتهاءً بكُتّابٍ جزائريين يكتبون بالفرنسيّة ويناصبون الوطن الأم العداء، كما هو شأن الروائي بوعلام صنصال الذي شغل مناصب عُليا في الجزائر ولم يكتشف نعمة الأدب إلا بعد التقاعد فأصدر روايات، يقول بوجدرة إنّها تتضمّن فلسفة رجعيّة تقوم على كراهيّة الذات، وتحتفي بالآخر، الفرنسيّ تحديدًا، وتُعيد قراءة تاريخ ثورة التحرير بعيونٍ فرنسيّة، ما جعل الكاتب محلّ احتفاء فرنسي وصهيوني أيضًا، حيث استهجن بوجدرة ترحيب كُتّاب لا يدارون صهيونيّتهم بصنصال في صورة برنار هنري ليفي وآلان فينكيلكروت وإيريك زمور وميشال والبيك، واعتبر ذلك دليلًا على انحراف مواطنه.

وأصابت سهام بوجدرة الروائي ياسمينة خضرة الذي انخرط في الجوقة برواية “فضل اللّيل على النهار”التي قال إنها تعيد التذكير بخرافة التعايش بين الجزائريين والمعمّرين الفرنسيين إبان الاحتلال، حتى وإن اعتبرها “زلّة”في مسار هذا الكاتب.

و تَعرّض صاحب “الإنكار”بالنقد لكمال داود وسليم باشي وهما من الجيل الجديد الذي يكتب بالفرنسية، كما هجا ألبير كامو الذي اعتبره كاتبًا عنصريًا بلغ من كراهيّته للعرب حد محو الجزائريين في رواياته.

في الأيام الأخيرة أصابت سهام النّقد كاتبًا ظلَّ لعقودٍ طويلة بمثابة أيقونة حقيقيّة في السّاحة الأدبيّة الجزائريّة، ويتعلّق الأمر بمحمد ديب

 وفي الأيام الأخيرة أصابت سهام النّقد كاتبًا ظلَّ لعقودٍ طويلة بمثابة أيقونة حقيقيّة في السّاحة الأدبيّة الجزائريّة، ويتعلّق الأمر بمحمد ديب، حيث شكّك ناقد يكتب بالفرنسيّة، هو عبد العالي مرداسي في جزائرية أدب ديب، في مقال ناريّ هو الأوّل من نوعه الذي يتناول هذا الكاتب من دون تمجيد باللّغة الفرنسيّة.

ويُسقط النّاقد عن ديب الانتماء إلى الفضاء الوطنيّ الجزائريّ، ولإثبات ذلك يقوم بحفريّات تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، حيث ظهر ديب كمحرّر في صحيفة شيوعيّة لكنّه كان يدخر نفسه للمسيرة الأدبية، إذ لم يُظهر “التزامًا”صريحًا كما فعل أترابه قبل أن يختفي ويتفرّغ للأدب مستسلمًا لقواعد اللّعبة التي تضعها دور النشر الفرنسيّة، بل إنَّ صاحب المقال سيُحمِّله مسؤولية ظهور كُتّاب جزائريين يكتبون بالفرنسيّة وبمخيال فرنسي ويتوجهون إلى جمهور فرنسي. 

وتأتي هذه المراجعات القاسيّة، في سيّاق يتميّز باستغلال اليمين الفرنسي للعلاقات مع الجزائر وملف المهاجرين في خطاب عدائي، ما عزّز من موقف دُعاة التخلّص من الفرنسيّة التي تحتلّ مكانة بارزة في نظام التعليم والحياة الثقافيّة والسياسيّة في الجزائر، خصوصًا أنَّ الأجيال الجديدة تبدو غير مكترثة بالفرنسيّة التي اعتبرها كاتب ياسين قديمًا “غنيمة حرب”.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى