CIA.. تحب الواقعية السحرية وتُفضل الروايات المروية بضمير الأنا!

عن الاختيارات الأدبية لوكالة المخابرات الأمريكية:

في تسعينيات القرن الماضي أفرجت المخابرات الأمريكية ووزارة الخارجية عن آلاف الوثائق التي كشفت أبعاد مختلفة لسنوات الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، أبرزها ما صار يعرف بالحرب الثقافية الباردة. عمل الاتحاد السوفيتي على نشر أفكاره الإيديولوجية عبر ماكينة ضخمة من الدعاية والنشر الثقافي، وكذلك عمل الأمريكيون والأوربيون على مقاومة التغلغل الشيوعي خصوصا بين طبقة المثقفين والكتاب والفنانين.

دخلت المخابرات الأمريكية المجال الثقافية لمقاومة هذا التأثير وأنشأت عددًا من الكيانات لدعم أجندة ثقافية مناهضة لأجندة الاتحاد السوفيتي مثل “مجلس الحرية الثقافية CCF” والذي مول عشرات الحفلات الموسيقية والمعارض الفنية في أوروبا وإفريقيا

وثقت “فرانسيس ستونر سندرز” جزءًا هامًا من هذه الحروب الثقافية التي تورط فيها بوعي أحيانًا أو بدون معرفة في أحيانا أخرى مئات المثقفين والكتاب من مختلف أنحاء العالم، وصدرت كل هذه التفاصيل في كتابها “الحرب الباردة الثقافية: المركزية الأمريكية في الفنون والآداب” والذي ترجمه إلى العربية منذ أكثر من عشر سنوات طلعت الشايب.

دخلت المخابرات الأمريكية في العمل الثقافي، نتيجة الطبيعة البيروقراطية الليبرالية للنظام السياسي الأمريكي، فعلى عكس الاتحاد السوفيتي والعديد من دول العالم، لا توجد في أمريكا “وزارة ثقافة”. ولا يمكن للحكومات الفيدرالية أو حتى حكومات الولايات الانفاق على النشاط الثقافي إلا في إطار محدود، ويقتصر غالبًا على دعم المتاحف ومراكز الأرشيف. أما النشر وإقامة الفعاليات الثقافية، فدخول الحكومة يعتبر انحيازًا وتأثيرًا على استقلال وحرية السوق. لذا فبعد الحرب العالمية الثانية، وبينما استثمر الاتحاد السوفيتي الملايين في الدعاية الثقافية، بينما كانت يد الحكومة الأمريكية مكبلة. وحاولت وزارة الخارجية الأمريكية في الأربعينات تنظيم معرض للفن الأمريكي المعاصر، لكن اعترض عدد من أعضاء مجلس الشيوخ ورأوا في إقامة الدول لمعارض فنية تتكلف الملايين وتروج للفن التجريدي والتجريبي إهدارًا لأموال دافعي الضرائب.
لكن بعد سنوات من تأسيس المخابرات الأمريكية عام 1947، بدا واضحًا في التقارير المخابراتية أن غياب أمريكا عن الاستثمار في المجال الثقافي يهدد وجودها كقوة في مقابل الاتحاد السوفيتي، فقد كانت صورة أمريكا في هذا الوقت “صحراء ثقافية”… تقتصر على رعاة بقر يطاردون السكان الأصليين لقتلهم، ويتخذون الأفارقة عبيدًا. بل تحدثت تقارير مخابراتية عن خطر الدعاية السوفيتية الثقافية على الجبهة الداخلية، فالجيل الجديد من الفنانين والكتاب الأمريكيين متأثر بالفنون والقيم السوفيتية.

في معظم برامجها لتمويل الأدبي، لم تفرض المخابرات الأمريكية على الكتاب الدفاع عن المواقف السياسية الأمريكية، بل على العكس شجعت معارضتهم لسياسة الحكومة، والحفاظ على استقلالهم

هكذا دخلت المخابرات الأمريكية المجال الثقافية لمقاومة هذا التأثير وانشأت عددًا من الكيانات لدعم أجندة ثقافية معادية لأجندة الاتحاد السوفيتي مثل “مجلس الحرية الثقافية CCF” والذي مول عشرات الحفلات الموسيقية والمعارض الفنية في أوروبا وأفريقيا، كما مول جولات موسيقية لموسيقيين أمريكان، لترويج الموسيقي الأمريكية، أبرزها الجولة العالمية لعازف الجاز لويس أرمسترونج التي زار فيها القاهرة وعدد من الدول العربية في الخمسينات، كما مول المجلس عددًا من المجلات الثقافية من مختلف دول العالم، أبرزها مجلة “شعر” في لبنان، ومجلة “باريس ريفيو” الأدبية، التي كانت ولا تزال واحدة من أغنى المجلات الأدبية.

*  *  *

وجه آخر من الحرب الثقافية يكشفه الكاتب الأمريكي إيريك بينت Eric Bennett، في كتابه الذي صدر مؤخرًا وحمل عنوان “ورش كتاب إبداعية من أجل الامبراطورية: سترينجير، ايجل والكتابة الإبداعية الأمريكية خلال الحرب الباردة”. يركز بينت في كتابه على استثمارات المخابرات ووزارة الخارجية الأمريكية في الحقل الأدبي، ويكشف كيف دعمت المخابرات الأمريكية سياسية ورش الكتابة الإبداعية، كوسيلة لإخراج أجيال من الكتاب المحليين في مختلف الأنواع الإبداعية وكيف عملت على نشر هذا النموذج، من خلال دعم ورشة ايو للكتابة الابداعية والتي تستضيف كل عام -حتى الآن- عشرات الكتاب من مختلف دول العالم.


المدهش في الكتاب أنه يكشف الذائقة الجمالية والأدبية للمخابرات الأمريكية، فعلى الجانب الأخر كان لدى الاتحاد السوفيتي تصورات محددة عن طبيعة الفن الثوري، والأدب الملتزم، والكتابة الواقعية. وكان يعمل على نشر هذه المفاهيم الأدبية والثقافية بين كتاب العالم، بل كانت التصورات الواقعية عن الأدب والفن ودوره هي السردية الحاكمة للنقاشات الثقافية في ذلك الزمان.
يوضح بنيت في كتابه من خلال الابحار في وثائق المخابرات الأمريكية وعشرات المقابلات التي أجراها، أن سياسية المخابرات الأمريكية في المجال الأدبي لمقاومة النفوذ السوفيتي اعتمدت على استراتيجية مختلفة، فالمخابرات الأمريكية عكس السوفييت لم تعلن تبنيها لنمط فني أو أدبي كالواقعية، بل اختارت دعم قيم أدبية وتشجيع أنماط وممارسات جمالية وسردية معقدة لمقاومة النفوذ الأدبي السوفيتي.
فأولًا في معظم برامجها لتمويل الأدبي، لم تفرض المخابرات الأمريكية على الكتاب الدفاع عن المواقف السياسية الأمريكية، بل على العكس شجعت معارضتهم لسياسة الحكومة، والحفاظ على استقلالهم، ولم تفرض عليهم تغيير التزاماتهم الفنية إذا كانوا منتمين للكتابة الواقعية، لكن في المقابل دعمت التجارب الأدبية التي تتبنى الكتابة بضمير المتكلم، والتي تسعى لتقديم سردية شخصية، والتأكيد دائمًا على الصدق الفني قبل الصدق الأيديولوجي متمثلا في مقولات مثل “اكتب عما اختبرته، لا عما تظن عما تعرفه”. ترافق هذا مع فتح الأبواب لأدب الاعترافات، كما حظيت الاعمال الأدبية التي تعتمد على استدعاء الذكريات والحنين والنوستالجيا بمكانة مميزة في أجندة المخابرات الأدبية. وروجت من خلال مؤسساتها وأذرعها الأدبية لمقاولات مثل “الذاكرة في مقابل الفلسفة”، “الرواية هي حكاية وسرد لا فلسفة”.

حظيت الاعمال الأدبية التي تعتمد على استدعاء الذكريات والحنين والنوستالجيا بمكانة مميزة في أجندة المخابرات الأدبية، وروجت من خلال مؤسساتها وأذرعها الأدبية لمقاولات مثل “الذاكرة في مقابل الفلسفة”

لم تسع المخابرات الأمريكية إلى تجنيد الكتاب، بل اختارت كتاب يتبنون هذه القيم الجمالية والأدبية وسعت لفتح الباب لهم، وبدأ هذا عبر الدعم المباشر وغير المباشر الذي وجهته المخابرات إلى أقسام الكتابة الإبداعية في الجامعات. وتعتبر سيرة وتجربة الكاتب الأمريكي بول انجل Paul Engle خير تجسيد لما صار يعرف في سجلات المخابرات باسم “عملية السرد بضمير المتكلم” المخابراتية.
ولد بول انجل عام 1908 في ولاية “أيوا”، القلب الريفي لأمريكا حيث حقول الذرة ومزارع الدواجن والبقر، هي ولاية تحتل مكانة في الوعي الأمريكي بصفتها الصورة النقية الرومانسية لأمريكا حيث الأرض خضراء والسماء زرقاء والجميع يعيش في سعادة ومحبة في ظل العلم الذي يجمعهم. انعكس هذا على أعماله الشعرية، حيث حمل ديوانه الشعري عنوان Worn Earth أو “ارتداء الأرض”، وهي قصائد رومانسية ذات طبيعة ريفية، أما مجموعته الشعرية التالية فقد حملت عنوان أكثر مباشرة “أغاني أمريكية” وفيها مزج تلك الرومانسية بالخطابات القومية والوطنية، وصدر عام 1934 ليحقق نجاحًا مدويًا، حيث ظهر على غلاف ملحق “النيويورك تايمز” للكتب، بل صعد إلى قوائم الأكثر مبيعًا. لكن لم تحقق أعماله التالية ذات النجاح، فاتجه إلى الإدارة الثقافية وعاد إلى موطنه “ايوا” ليصبح مديرًا لورشة الكتابة الإبداعية في جامعة “أيوا”.

في الوقت ذاته كان ويليس سيتجنير المعرف باسم عميد الأدب الأمريكي قد تولى مسئولية برنامج الكتابة الابداعية في ستانفورد، جوهر مشروع ستيجنير الإبداعي يدور حول الذاكرة والحنين إلى سنوات الطفولة والصبا وإعادة بناء العالم الأمريكي القديم لما قبل الحرب العالمية الثانية، كعالم رومانسي تسوده المحبة والهدوء في ظل الخيرات الأمريكية الوافرة، ورغم أن لستيجنير مواقف منحازة لحركة الحقوق المدنية والدفاع عن حقوق السود، لكنه أيضًا صاحب العبارة الشهيرة “أفضل أن أكون ميتًا على أن أكون اشتراكيا.”
في كتابه يقول ايريك بنيت أن الاثنين “انجل” و”ستيجنير” كانا نماذج مثالية لما تبحث عنه المخابرات الأمريكية، ومن خلال دعم مشاريعهما وتصوراتهما الجمالية عن الكتابة الإبداعية، رأت المخابرات الأمريكية أن هذه الأفكار الأدبية ستبعد الكتاب الأمريكيين الشباب عن مسار الفلسفة الذي غالبا يقود إلى الشيوعية والأفكار الهدامة، أو الكتابة عن السرديات الكبيرة وغيرها من أفكار الواقعية الاشتراكية في الأدب.

تعتبر سيرة وتجربة الكاتب الأمريكي بول إنجل Paul Engle خير تجسيد لما صار يعرف في سجلات المخابرات باسم “عملية السرد بضمير المتكلم” المخابراتية

تخرج من البرنامجين عشرات من الكتاب الزمريكيين المرموقين، بل ساهمت تلك التوجهات الفنية في ولادة ما يعرف في أمريكا بصحافة “الجنزو” وهي نمط من الكتابة الصحفية يقدم فيه الصحفي نفسه بصفته جزءًا من القصة يعيش الأحداث ويروى الخبر من وجهة نظره، حتى لو كان تغطية لمؤتمر صحفي، ولا يزال هذا النمط الصحفي مستمرًا حتى الآن ويلقي رواجًا في المنصات الإعلامية التابعة لمواقع الإنترنت مثل بزفيد وغيرها من المواقع.

الكاتب الأمريكي بول أنجل

في الستينات انتقلت المخابرات الأمريكية بأجندتها الأدبية إلى الخارج، حيث دعمت مجهودات بول انجل في انشاء برنامج ايوا العالمي للكتابة الإبداعية والذي يعتمد على دعوة عدد من الكتاب من مختلف دول العالم كل عام للإقامة والمشاركة في الفعاليات والكتابة في ولاية “أيوا”.
كان الهدف المعلن بالنسبة لانجل أن يعود هؤلاء الكتاب بصورة ايجابية عن أمريكا بعيدًا عن الدعاية السوفيتية السلبية. لكن إريك بنيت يوضح في كتابه، كيف ساهم برنامج ايوا في دعم أنماط محددة من السرد الأدبي والتجارب الابداعية، على رأسها مصطلح “الواقعية السحرية” الذي رأت فيه المخابرات الأمريكية وسيلة لمقاومة النفوذ السوفيتي بين كتاب أمريكا اللاتينية، وتيارًا أدبيًا يبعد الكتاب عن القضايا الكبري أو الاشتباك مع النقاشات الفلسفية والسياسية. يوضح بنيت في كتابه كيف فتحت برامج الكتابة الابداعية الأمريكية أبوابها لكتاب الواقعية السحرية، وشجعت ترجمة ونشر وتوزيع أعمالهم الروائية حتى حولت الواقعية السحرية إلى ظاهرة أدبية غزت العالم كله. حاولت المخابرات الأمريكية من خلال بول انجل أيضًا التوسع في برنامج ايوا للكتابة الابداعية، من خلال نقل نموذجه إلى دول أخرى مثل الفلبين.

رأت المخابرات الأمريكية في «الواقعية السحرية» وسيلة لمقاومة النفوذ السوفيتي بين كتاب أمريكا اللاتينية، وتيارًا أدبيًا يبعد الكتاب عن القضايا الكبري أو الاشتباك مع النقاشات الفلسفية والسياسية

بداية من نهاية السبعينات تقلص عمل المخابرات الأمريكية في الحقل الأدبي، لكن ايريك بنيت في كتابه يقول إن أثر هذا الدعم لا يزال موجودا في برامج الكتابة الابداعية التي يتخرج منها كل عام عشرات الكتاب، فبنيت نفسه الذي تخرج من برنامج الكتابة الابداعية في ايوا في بداية الألفية يسرد تجربته الذاتية وكيف تركز الدراسة في البرنامج على إجادة اللغة والتمكن منها، وعلى المجاز والبلاغة وعنصر التجربة الذاتية مع تهميش الأفكار والجدل الفلسفي في النص الأدبي.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى