المسخ

كيف حَوَّلتنا الانترنت إلى ملفات وصور؟!

نجلاء والي
Latest posts by نجلاء والي (see all)

لا تسهل وسائل الاتصال الحالية ذيوع المعلومات فحسب، لكنها تسهل كذلك ذيوع عواطفنا ومشاعرنا على نطاق أوسع كثيرًا من الماضي. وإذا تأملنا بعمق التأثير الذي تُحدثه وسائل الاتصال، وجدنا أنها تمنع تداول أفكارنا ومشاعرنا، ليس بسبب الرقابة التي تمارسها الكيانات الكبرى (نعلم ذلك جيدًا) ولكن لأننا عندما نعرض على الملء مشاعرنا وأحاسيسنا الداخلية، لا يتبقى لأحدنا أسرار يُخفيها، ولذا تصبح خبراتنا في العالم متطابقة، وتتطابق معها الكلمات التي نصفه بها. كل منا يستمع لكلمات يعرفها، ويمكنه قولها، ويعبر عن رأيه الذي سمعه الجميع.

إذا كانت الكلمة كما يذكرنا أرسطو هي السمة المُميزة للإنسان، فماذا يتبقى من جوهر الإنسان إن أصبحت الكلمة التي ينطقها مجرد تحور مصاحب للكلمة التي سمعها من غيره؟

يبدو لنا في هذا المونولوج الجمعي، أن مساحة الحرية قد زادت مع زيادة واتساع وسائل الاتصال تحت تصرفنا، ولكنها في الواقع تقلصت، فلم يعد أي منا يملك محتوى للتواصل يختلف عن الآخرين. وقد استحال التمييز بين الواقع والظاهر، حيث صار العالم بفضل التدخل التكنولوجي “واقعًا متصورًا”، كل منا يشكل فيه عالمه انطلاقًا من الصور والمعلومات التي توفرت بغزارة لنا جميعًا، لهذا من خلال أقل تأمل ذاتي، سنجد أن ما نشعر به لا يحمل أية جدة ولا يختلف عما نراه فوق الشاشات في بيوتنا.

لوحة «أمل» للرسام الإنجليزي جورج فريدريك واتس

من طريقة المأكل، إلى الملبس، والمسكن، إلى طريقة التواصل، كلها مأخوذة من النماذج التي تقدمها لنا وسائل الإعلام، حيث يقتني كل مشاهد هويته عبر عمليات دقيقة من التماهي والتوحد ويظهرها في الفرح والألم والعطف والكره والبطولة والجنس والموت، متتبعًا الدرب الذي خططته تقنية تواصل تسمح لنا بالاشتراك في كل تغيرات الحياة بسرعة وسهولة ضغط زر الآلة.
التقنية تجعلنا نشعر للحظات قليلة فيما يشبه الهذيان بأننا آلهة في عالم انتُزع من محدوديته ليصبح إيجابيًا بأكمله، فليس هناك من جسد ينقصه الجمال، ومن الجمال إلى العلاقات الاجتماعية والتواصل المُثير للسعادة.
في ثلاثين ثانية نستطيع شراء التسرية من شركات السياحة، والجنس من محلات الألعاب الجنسية والجسد الممشوق من محال أغذية الحمية الصحية، والصحة من عبوات مياه الآبار، في “دائرة قصر”بين الأمنية وتحقيقها وما ظنناه دائمًا سبب السعادة.
عالم الكلمات والصور يتسرب إلى أعماقنا ونتوغل داخله دون استئذان أو طلب، لنجد أنفسنا مُجبرين على “المشاركة” حيث تحيلنا الكلمات والصور إلى غيرها من صور وكلمات، في حالة ارتباك بين الشكل والخلفية، لذا لا تنبع الكلمة من الصمت أو الصورة من الخلفية، ولكن تصبح الكلمات والصور خلفية واحدة، ومنها يقتطع بالكاد كل منا جزءًا صغيرًا من الصمت والفراغ ليلتقي مع نفسه.

إذا كنا نخفف الشعور بالتوتر عن طريق إحكام الرقابة، فالرقابة -بدورها- تغذي مشاعر الارتياب والشك لدينا، ويدفعنا ذلك إلى مراقبة من نحبهم بصورة مبالغ فيها

إذا كانت الكلمة كما يذكرنا ارسطو هي السمة المميزة للإنسان (zoôn lògon échon).
فماذا يتبقى من جوهر الإنسان إن أصبحت الكلمة التي ينطقها مجرد تحور مصاحب للكلمة التي سمعها من غيره، أو كما وضح جونثر أندرس: Günther Anders “هل هو مجرد المضي في أن نتلو معا ما سمعناه سويًا ؟”وقد تحولنا إلى مُرددين للمونولج الجمعي، وأضحت كل روح تتفق وتشابه غيرها دون سمة محددة، لأنها لا تملك معجمًا للكلمات غير المونولوج الجمعي والذي لا يمكنها فيه التعبير عن نفسها، فتخرس في ذلك الصمت الذي نشعر به عندما نخلو بأنفسنا أو نحاول الولوج في مسارات مُشتتة ومجنونة كما قال نيتشة Nietzsche: «الكل يريد الأشياء ذاتها، الكل مُتساوون من يشعر بنفسه مختلفًا، فليذهب إلى المصحة العقلية».

لوحة «ليلة النجوم» للفنان فان جوخ

وماذا عن انفعالاتنا ومشاعرنا، التي تمر اليوم بصورة كبيرة عبر الإنترنت والبريد الالكتروني والجوال وكل ما على شاكلته، وهي رسائل كاشفة لعلاقاتنا مع الواقع ومع الآخرين ومع أنفسنا؟ وما الذي تظهره من صفات لشخصيتنا وحالتنا النفسية والعقلية؟
أصبحنا مثل الاطفال عندما يشعرون بعاطفة تجاه الألعاب المُفضلة ويتعلقون بدببهم كخطوة أولى للتعرف إلى العالم حولهم، ويبدو أننا أيضًا لم نعد قادرين على الحياة في عالمنا وتكوين علاقات عاطفية دون الهاتف أو الكمبيوتر، بما لايختلف عن الدببة عند الأطفال.
ماذا يمكننا القول؟ يمكن القول إن التطور التكنولوجي الذي نفخر به، حولنا جميعُنا أطفالًا، نحن والمجتمع الذي نعيش فيه. ويؤيدنا في هذا دراسات علماء النفس دي جورجيو Di Gregorio وناردونهNardone وكانيوني Cagnoni ، والتي نعرض منها التأملات الآتية حول أثر الهاتف الجوال في حياتنا:

لم نعد قادرين على الحياة في عالمنا وتكوين علاقات عاطفية دون الهاتف أو الكمبيوتر، بما لايختلف عن الدببة عند الأطفال

عد متحملًا لغياب (معاناة البعد):مما لاشك فيه أن الهاتف الجوال منظم ومتحكم في توتر الانفصال والتي لايحددها فقط البعد الجسدي ولكن يحددها أيضا وبشكل أكثر ضراوة البعد الشعوري الذي يولد من افتقاد الآخر أو انقطاع الصلة معه. وهو ما شعرنا به في طفولتنا أكثر من مرة عند غياب الأم. والامكانية التي يُعطيها لنا الجوال لتجاوز المسافات ولمحو الشعور بالغياب، تنبئ عن عودة هذه المشاعر الطفولية داخلنا، وكيف نحاول كتمانها باللجوء إلى الوسيلة التقنية. إذا لم نتلق المكالمة التليفونية التي ننتظرها بقلق، نهرع فورًا لإجراء المكالمة وكتابة الرسالة الإلكترونية، ليس لأن لدينا ما نقوله ولكن لنرضي احتياج لشعور بالأمان متصدع ومن أجل رأبه نحتاج، إلى تواصل مستمر، يكاد يبلغ حد الوسواس القهري. عندما لانستطيع تحمل البعد والغياب، تصبح حياتنا هبة من الآخرين، في حالة مستمرة من الاعتماد الجزئي أو الكلي عليهم وهذا يوضح كثيرًا حالة الطفولة أو غياب الاستقلال.


وهم القدرة المطلقة:نعلم أن مرحلة الطفولة لاتعرف فقط الاعتماد على الآخرين ولكن أيضا القدرة المطلقة التي تعوض حالة الاعتماد على الغير.
تقوم الوسائل التكنولوجية الحديثة بسد هذا الاحتياج، لانها تضمن بصورة تخيّلية السيطرة والرقابة على الأشخاص والأحداث التي تهمنا، وينتج عن ذلك تقليص مساحة التوتر المرتبطة بذلك فلا يطفو ولكن يتم السيطرة عليه وتهدئته عندما نتلقى إجابة الآخر. يؤدى ذلك إلى إضعاف قدراتنا الداخلية على إدارة التوتر والصراع بصورة تدريجية ويحل محلها نوع من هوس القدرة المُطلقة التي تمنحنا وهم القدرة على التحكم عن بعد في الواقع بمجرد ضغط زر التليفون.
الرقابة المرضية: إذا كنا نخفف الشعور بالتوتر عن طريق إحكام الرقابة، فالرقابة بدورها، تغذي مشاعر الارتياب والشك لدينا، ويدفعنا ذلك إلى مراقبة من نحبهم بصورة مبالغ فيها، تتبع تحركاتهم والأماكن التي يرتادونها، والأشخاص الذين يقابلونهم أثناء غيابنا، نتحول باسم الحب إلى مُحققيين، فنود في كل لحظة معرفة مكان الزوج أو الزوجة أو الابن أو الابنة على افتراض أنهم يقولون لنا الحقيقة ويتوقف الأمر كذلك على مهاراتهم في إخفاء أي صوت أوإشارة خلفية للمكان الذي يتواجدون فيه أو في بعض الأحيان إمدادنا بصور ومشاهد لنطمئن وتخف حدة التوتر التي نشعر بها. في الحقيقة نحن نمارس الرقابة على أفراد عائلتنا تعساء الحظ، ونمارس تلك الرقابة، لأننا نعجز عن التحكم في حياتنا الحاضرة والمستقبلية.
حب الظهور والاستعراض: ولكن القدرة المُطلقة ليست قدرة مُطلقة إذا لم يتم استعراضها، وحب الظهور هو عرض مرضي آخر يُظهره المحمول، في كل مرة في الطريق أو في القطار، نستمع إلى أشخاص يتحدثون عن عمد بصوت عَالٍ عن مركزهم المهني والاجتماعي المرتفع أو عن علاقاتهم الحميمية والشخصية دون تحفظ أو خجل، بل على العكس يشعرون بالرضا لوجود جمهور يرضي احتياجاتهم للظهور بتكلفة بسيطة (مكالمة تليفونية).

المصابون بهوس الجوال يتنازلون عن أشياء لا حصر لها في أي مكان من الطريق أو القطار أو السينما أو المسرح، بمجرد سماع “الرنة” التي تطغى على كل ما حولها

القلق من التحول لنكرة: وهنا الحاجة إلى الظهور لأن الأفراد في مجتمعنا يخافون من عدم إثارة الانتباه. وكلمة مجهول هنا لها أهميتان، إحداهما مأساوية، من ناحية هي شرط لاغنى عنه كي يكشف الإنسان عن كل خفاياه من خلال الهاتف أو الوسائل التكنولوجية ويفصح عن مشاعره واحتياجاته ورغباته الدفينة وخيالاته الجنسية دون أي خوف أو تحفظ، ومن ناحية أخرى تعلن عن الوحدة والإقصاء وذلك عندما يحاول المرء تجاوز مشاعر الوحدة من خلال الهاتف ووسائل التواصل، فتكشف عن بؤس ألا يكون المرء موجودًا إلا إذا هاتَفه الآخرون.
فقد الصلة مع العالم حولنا ومع عالمنا الداخلي: يلاحظ دي جريجوريو بسخرية المزحة الكلامية في كلمة “جوال” cellulare والتي لها نفس مدلول العربة التي تقل المساجين. لنحاول معًا اكتشاف ما يفعله الاستخدام المستمر لهذه الوسيلة. المصابون بهوس الجوال يتنازلون عن أشياء لا حصر لها في أي مكان من الطريق أو القطار أو السينما أو المسرح، بمجرد سماع “الرنة” التي تطغي على كل ما حولها، يتلفتون بتوتر باحثين عن تغطية من شبكة التليفون فينسحبون فورًا من محادثة مرافقيهم بعد الاستئذان بالطبع. في كل الحالات يخبرونكم بهذا التصرف أنكم تأتون في مرتبة بعد الهاتف وبعد توتر عدم إمكانية الامتناع عن الرد.


بالنسبة لهؤلاء، الجوال هو المقبس الذي يربطهم بالعالم وبدونه يفقدون العالم المُحيط بهم وعالمهم الداخلي. هؤلاء لا يعرفون الصمت، وهو الوسيلة الوحيدة التي يملكها المرء للتواصل مع النفس والتعرف إليها. لايعرفون الانتظار وما يحمله من شحنات عاطفية، ولا يعرفون عنصر المفاجأة الذي يلون حياتنا اليومية.
لا يحترمون المناخ والبيئة التي ينمو فيها التواصل بين المحبين، وفيه ينبغي الانفصال عن عالمنا كي نسمح لعالم آخر بالتواجد. حضور هؤلاء لا يضفي أية ميزة، فالهاتف الجوال المفتوح هو عالم يفصلهم عن جلسائهم.
فقدان الحرية: الهواتف الجوالة قد تغلق أو تنفد البطارية أو تتواجد في مكان لا تغطيه شبكة تليفونات. ومع ذلك نلجأ لشلالات من الحجج والأكاذيب إذا تغافلنا عن الرد مادام الهاتف متاحًا في أي مكان على الارض دون التملص من المراقبة المستمرة. لا يترك لنا الهاتف فرصة للهرب سواء كان مغلقًا أم مفتوحًا. إذا بدأنا بالمكالمة فهذا يعني أننا لا نطيق الانتظار، والرد يعني أننا تحت رحمة الآخرين، وإذا أغلقنا الهاتف ينبغي أن نبحث آجلًا أو عاجلًا عن مُبررات لذلك.
كما يمكن لكل منا أن يلمس بنفسه. لم نعد أحرارًا، وليس لدينا فرصة للحرية. لم نعد نملك وقتًا للتفكير في الإجابة التي يجب أن تكون سريعة وفورية، ليس هناك وقت لنمو الحب في وجداننا، عدم الاتصال يعني الهجر الفوري. لا نعرف البقاء مع أنفسنا أكثر من ساعة، وكل ذلك يضعف الوجدان والشعور الداخلي.

ليس هناك وقت لنمو الحب في وجداننا، عدم الاتصال يعني الهجر الفوري. لا نعرف البقاء مع أنفسنا أكثر من ساعة، وكل ذلك يُضعف الوجدان والشعور الداخلي

وذلك لحاجتنا المُلحة إلى معرفة أن الأم بخير والخطيبة لازالت تحبنا والصديق ينتظرنا والمحاسب القانوني نجح في تسوية الضرائب والمحامي حدد لنا موعدًا. باختصار حاجتنا إلى معرفة أن العالم الخارجي موجود ويعمل ونستطيع التحكم فيه. وهكذا نشعر بوجودنا.
ربما فقدنا القدرة على مناجاة الروح، ولكن في المقابل، وإن لم يكن يخلو من بعض الصمت أثناء المرور في نفق أو عند انقطاع الشبكة، أعطى لنا الهاتف الجوال العالم، وإن صح ضجيج العالم، وفي المقابل استقطع جزءًا كبيرًا من حرياتنا. مقايضة جيدة!
إدمان الإنترنت: إذا كنت تستيقظ في الرابعة صباحا لتذهب إلى الحمام وقبل العودة إلى سريرك تذهب لتفحص بريدك الالكتروني، إذا كان انقطاع الإنترنت يُشعرك بفراغ فظيع لأن العالم الحقيقي أصبح بالنسبة لك خاليًا من أي معنى، إذا كنت تسافر في الطائرة أو القطار وأنت تضع الكمبيوتر فوق ساقيك وتسخر ممن لديهم كمبيوتر قديم، فهذا دليل على إصابتك بما اطلقت عليه بعض الأبحاث الأمريكية اسم Internet addiction disorder
“اضطراب إدمان الإنترنت”. عرض مرضي له نفس سمات إدمان المخدرات والتدخين والكحول والقمار وإدمان الممارسات الجنسية أو البوليميا، وتظهر هذه السمات من خلال الاستخدام المفرط للإنترنت كي نحصل في الواقع الافتراضي على ما فشلنا في الحصول عليه في الواقع. ويصل إلى الحد الذي يعتبر فيه الواقع عقبة أمام ممارسة قدراتنا المُطلقة التي نشعر بسعادة عند ممارستها في الواقع الافتراضي.


هوس الشراء على الإنترنت، والذي يعتقد العالمان النفسيان ناردوني وكانيوني أنه سلوك لا تحدده الحاجة لمحو شعور سيء، بقدر متعة التجول في أي مركز تجاري في أي مكان بالعالم والتجول دون أن يراك أحد ويتيح لك الدخول والخروج من المحال طبقا لترددك الذي يمليه التوتر دون إثارة سخرية البائعين.
منصة التداول الإلكترونية التي يستخدمها المُضاربون في البورصة من خلال الإنترنت، يرى العالمان النفسيان ناردون وكانيوني أن المُضارب يتأرجح بين شعورين متطرفين: الخوف والطمع وعندما يدخلان فيما يشبه الدائرة الكهربائية القصيرة يُشكلان تهديدًا لقدرة المُضارب على السيطرة، مدفوعًا بإحساس من لايقهر يلجأ إلى مخاطر أكبر ويتخذ قرارات متسرعة، ويشجع الإنترنت هذه العملية. الإنترنت يُعزز من إحساس إمكانية السيطرة على الموقف لأنها تتيح الاطلاع على أحوال البورصة والتغيرات فيها في أية ساعة في الليل أو النهار مع إمكانية شراء وبيع “اون لاين”.
وتداول البورصة “اون لاين” أخطر من القمار وذلك بفضل قانونيته، لا يشعر المضارب بعقدة الذنب التي يشعر بها من يقترب من المقامرة “اون لاين”.ويُقلل هذا الإحساس بالذنب من التحكم الذاتي في حالة من يخسر بسبب المُضاربة، بعكس المقامر الذي قد يردعه الإحساس بالذنب.

من طريقة المأكل، إلى الملبس، والمسكن، إلى طريقة التواصل، كلها مأخوذة من النماذج التي تقدمها لنا وسائل الإعلام، حيث يقتني كل مشاهد هويته عبر عمليات دقيقة من التماهي والتوحد

الجنس عبر الإنترنت: يسبب إدمانًا فعليًا للجنس الافتراضي، حيث المشاركة في الممارسة الجنسية الفردية وإمكانية الحديث دون رقابة، والذي يضمنه عدم الكشف عن شخصية المشارك والذي يسمح بتحرر كل خيالاته الجنسية التي عاشها سرًا، ويتحرر من الشعور بالذنب بمشاركتها مع غيره. ولكن يحدث أنه عندما نتلاعب مع الغرائز الجنسية، يبعد الافراد عن العلاقات الجنسية الحقيقية، والتي تبدو باهتة ولا معنى لها أو أكثر إلزامًا بالنسبة للعلاقات الافتراضية.
في المحادثات الافتراضية، يجذب المرء متعة إطلاق العنان لخياله وتقديم نفسه لمجهولين بهوية جنسية وصفات جسدية وعمر وعمل وحالة اجتماعية مختلفة عن تلك الحقيقية، هذه الإمكانية للكذب دون تبعات ودون التحقق تعيدنا إلى مرحلة الطفولة حيث تجربة القدرات المُطلقة والحرية غير المُقيدة ويضاف إليها متعة الإحساس بالجاذبية على الاقل في العالم الافتراضي، وبذلك نعوض في هذا الشكل كل المعاناة التي نشعر بها في الحياة الواقعية.

لوحة «رحلة إلى سان إيسيدرو» للفنان فرانسيسكو جويا 1818

في الواقع من يشارك في هذه المحادثات الافتراضية، لديه إمكانية تحقيق ـ وإن كان فقط بشكل افتراضي لأنها المثالية، وأن يشعر أخيرًا بأنه أصبح الشخص الذي أراده. وأمام كل هذه المشاعر التي يجدها في متناول يده، كيف يتسنى له إغلاق الكمبيوتر والعودة وسط عائلته وبين أصدقائه، حيث لا أحد يصدق مثاليته؟

في المحادثات الافتراضية، يجذب المرء متعة إطلاق العنان لخياله وتقديم نفسه لمجهولين بهوية جنسية وصفات جسدية وعمر وعمل وحالة اجتماعية مختلفة عن تلك الحقيقية

ومن هنا ينطلق احتياج مُلح لا يمكن التحكم فيه وتزداد الساعات التي يقضيها أمام الكمبيوتر، ذلك الصندوق السحري، الذي يحقق دون أية صعوبات حلم هويتنا المُعذبة. وعندما يحدث اللقاء بعد عدة محادثات افتراضية، يعجز الواقع عن إرضاء الخيال فيتحطم الحلم ويقودنا بعنف إلى شعور بالاكتئاب لا نستطيع التعامل معه. ورغم أن الواقع يُظهر الزيف الافتراضي؛ فهذا لايدفعنا للامتناع عنه لأنه يمنحنا ما يجحده الواقع؛ فنرضى بالإقامة في الافتراضي ونُقلِّص علاقاتنا مع الواقع والاتصال المباشر مع الأشخاص الذين أصبحوا مصدرًا للتوتر فنتجنبهم قدر الإمكان.

فصل من كتاب «الانفعالات» لأومرتو جاليمرتي
يصدر قريبًا في سلسلة «كتاب الجسرة»

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى