أحمد عاكف.. أو عماد حمدي

لم يكن عماد حمدي ممثلًا عاديًا وتحديدًا بالنسبة لي، بل كان هو من زرع الألم والشجن وانتزع الرحمة، تاركًا بعضًا من رماد لأسئلة عديدة عن الحلم والسقوط في الهم والألم وقمة المآسي الإنسانية عندما تتوحد مع البطل المنتمي / اللامنتمي.
لم يكن ابن سوهاج وهي بلاد عائلتي.. هو الممثل الذي غَيَّر كثيرًا من مفاهيم فتى الشاشة..بدفقة حسية وغرائبية تحمل في طياتها تموجات من البساطة والهشة وغرابة النظرات: قلق واستكانة ورماد من جذوة النار اللابدة أسفل جلد اللحم الحي.عماد حمدي المولود في ٢٥ نوفمبر في العام 1909 والذي بدا صلبًا يافعًا سليلًا لأسرة برجوازية ليست ثرية ولا فقيرة، انتقل مع أسرته كأغلب من رحلوا للعاصمة مع الآباء. عمل باشكاتب بإدارة الحسابات بمستشفى أبو الريش.وكان هذا المسار حتى بدء العام 1937 ليطوي هذا الملف بمجرد التقائه بصديقه محمد رجائي والذي حَدَّثه عن ملله وسأمه من تلك الوظيفة ليعرض عليه العمل في حسابات استوديو مصر،وهكذا وضع قدمه في حياة جديدة وأصبح وسط عالم أحبه وافتتن به، ومن مدير حسابات إلى مدير إنتاج، ثم بدأ الظهور في أفلام وثائقية قصيرة ينتجها ستوديو مصر من خلال مجموعة أفلام وثائقية عن فقراء ومرضى شعب مصر قبل ثورة يوليو، لينطلق بعد ذلك في فيلم السوق السوداء عام ١٩٤٥ الذي كان فتحًا جديدًا في مفاهيم صناعة وصياغة صور النجوم والممثل النجم الذي لايحمل إلا سمات حية نابضة بطرح وتلون وصبغة ملامح ورتوش مصرية بنكهة قابلة للتلون الميلودي في الصوت وحتى الملامح / التراجيدية في قمة نضوج ثنائية الابيض / الأسود والضوء والظل.


وبوسامة غير تقليدية تخصه حتى في تسريحة شعره، بدا فتى الشاشة بطلًا ونجمًا أول للسينما خلال سنوات معدودة..يقدم أحمد عاكف، وأظنني قاصد بكل شراسة واستماتة إطلاق هذا الاسم أو الدور المتماهي مع عماد حمدي والذي يذكرنا به الأستاذ الكبير الفنان مدير التصوير المرهف العميق / عبد العزيز فهمي والذي جمعتهم جلسة عمل بالمعلم نجيب محفوظ قبل الاستعداد لتصوير«رواية خان الخليلي» والذي بكى فيه حمدي بجد ومرار، حيث عَبَّر عن ذلك في آخر مشهد في الفيلم حيث تترك العائلة منزل الحسين في خان الخليلي ليعودوا مرة أخرى للسكاكيني بعد أن مات شقيقه بالسل حسن يوسف أو رشدي عاكف المستهتر الحالم المعربد بخفة ونزق.

قام عماد حمدي بالبطولة لأكثر من 120 فيلمًا ويزيد، بينها أكثر من خمسة عشر فيلمًا تصدرت شباك التذاكر عند عرضها الأول، ولم تزل من كلاسيكيات السينما العربية والمصرية

وقد ظهرت الكاميرا في لقطة واسعة لتستعرض عجل العربة الخشبية التي تجرها الأحصنة بينما تطقطق العجلات الحديد بإطارين يدوسان ويضغطان على أرضية صلبة مسفلتة بالقار في هدوء الخان وحزنه، وكأنها تهرس وتدك مشاعر البشر بحواف وجرس وصلصلة تدعو المتلقي للتلاحم والتوحد مع مشاعر البطل المهزوم الحزين أو الشقيق الأكبر التائه واللامنتمي على أثر فقده لأخيه.


وكان هناك وعاء خصب وسيرورة دائمة للتماس والمماهاة ما بين واقع البطل في الخان والرواية، وقصة عماد الحقيقية التي تتكرر بحذافيرها في واقعه الحي المعاش وقت أن فقد شقيقه الأصغر بشهور أو سنوات بعد الفيلم وقبله من ظلال وهواجس، حكى عنها كثيرًا محفوظ لي في فندق شبرد وأكدها زمان من قبله البهي الموهوب عبد العزيز فهمي والذي يؤكد على لسان بطل الترسو الراحل فريد شوقي في أحاديث عديدة وجمة جمعتني به في العام 91بفندق شيراتون الجزيرة أن حمدي لم يكن يسلم من ظلال وخيبات حياته الحقيقية في أفلامه وانعكاسات كل تلك الهموم والمنغصات على كل أعماله الدرامية والسينمائية، منها تحديدًا خاصة خان الخليلي الذي صارع من أجل الفوز بإنتاجه وتمويله.
عماد حمدي الذي قام بالبطولة لأكثر من 120 فيلمًا ويزيد، بينها أكثر من خمسة عشر فيلمًا تصدرت شباك التذاكر عند عرضها الأول، ولم تزل من كلاسيكيات السينما العربية والمصرية،بينها ميرامار وثرثرة على النيل ./ أو أنيس زكي ./ نصف مسطول / نصف ميت ..وأم العروسة وسواق الأوتوبيس والمذنبون والسوق السوداء وسيدة القطار وحياة أو موت وسجى الليل والأخوة الأعداء والمرأة المجهولة والبحث عن فضيحة وعشرات الأفلام التي غَيَّرت كثيرًا من مفاهيم النجومية والفتى الأول أو نجم الشباك.

«مساء الخير يا نينة» جملة مميزة نحتها واستعادها من سيرة الجدة والأم في قبلي مصر عندما كان صبيًا وشابًا يافعًا

تزوج عماد حمدي أربع مرات بداية من الراقصة حورية محمد ثم الراقصة فتحية شريف وأنجب منها نادر ثم الفنانة شادية الذي أحبها كثيرًا ليختتم حياته وعلاقاته بالزواج بالارتباط بالممثلة نادية الجندي التي أنتج لها فيلمها الأثير المغناج بمبة كشر فخسر كثيرًا من ماله وأوشك على الإفلاس، وهو المليونير بمفاهيم زمانه في خمسينيات وستينيات وسبعينيات الزمن الماضي.


تأثر كثيرًا بمعاملة الجندي القاسية فبات يجتر سيرة العز والرغد والنجومية ويتوقف عند محطاته الفارقة من أسرته وشقيقه الذي قصم ظهره لحبه الشديد له والذي كثيرًا ماحلم بموته في صور وأطياف أحلام يومية كانت تطارده في مناماته ليحكي لصديقه الأثير والقريب منه حد ملابسه ورائحته.
فريد شوقي والذي حكي كثيرًا في أحاديث معي في العام 91 وتليفزيونيا كذلك، عن عماد حمدي الرومانسي اللطيف العاشق الكبير للفن التمثيلي والمتورط حد النخاع في جوانياته وتفاصيل رتوش وصبغات واقعه المعاش والحياتي على فنه.
ويرحل عماد حمدي في ال28من يناير من العام1984عن عمر ناهز الخامسة والسبعين عامًا، تاركًا آثارًا في الرمال الذهبية الخالدة لوعاء الفن التمثيلي المصري والعربي بأدوار فارقة طرح من خلالها مفردات ومصطلحات حميمية لا تفارق جموع المتلقيين لفنه بشغف وحسرة وضحك وصل لحد البكاء.
«مساء الخير يانينة»جملة مميزة نحتها واستعادها من سيرة الجدة والأم في قبلي مصر عندما كان صبيًا وشابًا يافعًا،أبكى مديري التصوير وكُتاب الدراما وعدة مخرجين تركوا بصماتهم في روح وذاكرة المشاهد المصري والعربي متلقي الفن التمثيلي بينهم حسين كمال وكمال الشيخ وسعيد مرزوق والراحل عاطف الطيب الذي كرر كثيرًا في لقاءات تليفزيونية عديدة أن عماد حمدي يمثل أيقونة في عوالم ومسارات الفن التمثيلي المصري والعربي وحتى العالمي بنكهة لا تعتمد على احترافية مسروقة ولا منقولة من أحد، بل هي طرح لعصابية وجدل مكنونه الإنساني عبر مراحل حياة أو حيوات حقيقية عاشها مع أسرته وعائلته ونفسه. نفسه التي ركز وجلس معها كثيرًا في وحدته بين أطلال مجد وقامة فنية لم يحفظ لها الزمن ما أعطته موهبتها وكنسته ظروف بَدَّدت ما حصده من مال.


مثلما كررها كثيرًا فريد شوقي وكل من ارتبطوا به عاطفيًا أو تزوجهن أو كان هناك ثمة انفتاح بخصوبة مفرطة وحنو وتقارب في المشاعر بدأت تمثيليًا وانتهت بفواجع ومواجع وكوارث، كما ذكرت فاتن حمامة تعليقًا على أحد الأفلام والتي جمعتهما في قبلات عديدة ساخنة وكذلك شادية التي كان يُغار عليها كثيرًا ولكنها لم تفرط فيه بل حفظته بماله ومجده وتفرده، إلا أن كارثة حياته الكبرى كانت في ثنايا تفاصيل علاقته بالممثلة نادية الجندي التي بددت حياته من كثرة المطالب خاصة بعد خسارة بمبة كشر، وهذا ما دفع الراحل يحيي شاهين للحزن عليه والالتقاء به كثيرًا صاحبًا معه في آخر رجاء للعودة الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي بكى لحال عماد بعد أن انعزل في بيته وخَفَّ بصره وكاد أن يفقده في آخر أيامه الثلاثة الذي استسلم فيها للحزن وهواجس الوحدة، ثم مات وحيدًا تاركًا غصة في القلب ودموعًا مالحة لم تجف وقلوبًا مُمتلئة بالوجع على موهبة فريدة.

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى