«الحركي» وحياتهم الثانية في الأدب

قبل سبع سنوات، أصدر بيار دوم كتاب «التابو الأخير… الحركى الذين بقوا في الجزائر» ومصطلح «الحركى» نقصد منه أولئك الجزائريين، الذين خدموا الاستعمار الفرنسي، سواءً مجندين، أو عملاء مدنيين، سواء حملوا السلاح أو عملوا كمخبرين. ولم يكن ذلك الكتاب الأول عن هذه الفئة «المغضوب عليها» في الجزائر، لكن أهميته تتأتى من كونه أول كتاب كشف عن أن المئات من الحركى لم يغادروا البلد عقب الاستقلال، ما ينفي تلك الفرضية التي سادت طويلاً، مفادها أنهم جميعاً هاجروا إلى فرنسا، واستفادوا من امتيازات نظير خدمتهم، بعدما قضوا سنوات الستينيات في محتشدات، غير مرغوب فيهم في أرض المُستعمر القديم، قبل أن تتغير نظرة الفرنسيين إليهم.
وما يزال موضوع الحركى من التابوهات كما عبر عن ذلك بيار، على الرغم من مرور قرابة الستين عاماً على استقلال الجزائر، لا يمكن أن نتحدث عنهم دون إثارة جروح الماضي، ولا يمكن أن نكتب عنهم في الجزائر دون إثارة ردود فعل سلبية، بل أحياناً عنيفة، فروح الانتقام ما تزال سارية، والكثيرون يحملونهم وزر طول عمر الاستعمار، ويوجهون لهم التهم بالمشاركة في استشهاد جزائريين، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر. مع ذلك، على الضفة الأخرى، في فرنسا يعود كل عام موضوع الحركى إلى السطح، أنجزت أفلام عنهم، ولا ينفك الإعلام الفرنسي عن العودة إلى قضيتهم، كما أن هذه الفئة تسربت إلى الأدب أيضاً، وصدر العديد من الأعمال، منها الروائية أو التوثيقية التي تستعيد قصصهم.

حياة حقيقية وأخرى متخيلة

يمكن أن نحصي أكثر من 30 كتاباً صدر في فرنسا منذ مطلع الألفية، اتخذت من الحركى موضوعا لها. كتب تتعدد بين الندم والإنكار. فكثير ممن يطلق عليهم حركى ينفون ما يوجه إليهم من تهم، يرددون في أكثر من مرة أنهم دفعوا ثمن تصفية حسابات لا أكثر، بينما آخرون لا ينفون عن أنفسهم تلك الصفة، على غرار والد الصحافية دليلة قرشوش، التي أصدرت «والدي، ذلك الحركي» وحكت فيه عن خجلها من ماضي أبيها، الذي خدم المستعمر. والدها الذي لا ينفي الوقائع، لكنه نادم عما حصل، ففرنسا، التي خدمها سرعان ما تبرأت منه، عقب الاستقلال، وقضى سنوات يتلقى منحة هزيلة، قبل أن يتحسن وضعه ووضع الآلاف ممن هم مثله، نظير دفاع جمعيات أهلية عن قضيتهم، بحكم أنهم خدموا فرنسا، على غرار المجندين في جيش الاستعمار. صحيح أن الحركى نادراً ما يتحدثون عن أنفسهم، فغالبيتهم جاؤوا من أوساط ريفية فقيرة، حيث سهل تجنيدهم، فقد توجب أن ننتظر جيل الأبناء كي يسردوا قصص الآباء، فدليلة قرشوش نفسها، التي عاشت وسط الحركى وما تزال أصدرت كتاباً آخر مهماً: «مصائر الحركى» دون أن نغفل عن جهود صحافيين فرنسيين، دونوا شهادات هؤلاء المتورطين مع الاستعمار.
فهذا العدد المعتبر من الكتب التي صدرت في الموضوع ذاته ينبئ عن حساسية القضية في المخيلة الفرنسية، وكيف أن الحركى خسروا وطنهم وعانوا من أجل الإقرار بهم في بلد خدموه واستقبلهم استقبالاً جافاً، مما ضاعف من محنتهم. ومن المهم في هذا السياق أن نعود أيضاً إلى رواية أليس زينيتار: «فن الخسران» وهي نفسها حفيدة حركي، فقد كتبت سيرة أهلها في روايتها: فرارهم من الجزائر وتنقلاتهم من أجل الاعتراف بهم في بلد المُستعمر القديم. لقد ظلت مسألة الحركى حكراً على أدب يكتب وينشر في الضفة الشمالية من المتوسط، مسكوت عنها في الجزائر، إلى أن ظهر محمد بن جبار.

أنا «حرْكي» وهذه قصتي

سؤال مهم طرحه بيار دوم في كتابه: «التابو الأخير… الحركى الذين بقوا في الجزائر» حين استغرب من أن المثقفين في الجزائر لم يولوا أهمية لمسألة الحركى ولم يكتبوا عنهم، مع أن قضيتهم قضية جزائرية، وهو محق في ما ذهب إليه، فقد توجب انتظار رواية «الحركي» لمحمد بن جبار (التي عادت في طبعة جديدة ومنقحة هذا العام، مع ترجمة إلى الفرنسية) وهي أول رواية محلية تطرح قضية الحركى بشكل صريح، دون مواربة. تحكي سيرة أحمد بن شارف، الذي خدم الاستعمار، وفر إلى فرنسا بعد الاستقلال (1962) ومع تقدمه في العمر، قرر أن يفضح ما جرى، ويصوغ جزءاً غير معروف من التاريخ المعاصر في البلد. وعن سبب هذا التجاهل لموضوع الحركى يُجيب المؤلف: «موضوع الثورة من المواضيع التي تتبناها السلطة منذ الاستقلال، أصبحت السردية المقدسة التي لا يدخلها دخيل ولا يرويها أجنبي. في كل سردية هناك طرفا صراع: الشهداء والمجاهدون وفي المقابل الحركى والأشرار والشياطين، هكذا تشكلت العقيدة، لكن هذه السردية الكبرى اعتراها نقص كبير. فالأدب الجزائري تناول الموضوع من وجهة نظر سلطوية بحتة، أو قل من وجهة نظر ساذجة وحماسية. من ثم تنعكس صورة الحركي بخيانته على الأدب، دون أن يتجرأ أحدهم في مساءلته تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا». وهذه الملاحظة لا تخص حرب التحرير في الجزائر وحدها، فكل حروب التحرير في القرن العشرين، وكل الثورات الشعبية، اكتفت بتدوين تاريخ المنتصرين وتجاهل المنهزمين أو من تصفهم بالخونة. جرت العادة أن صفة الحركي لا تُطلق فقط عمن تعاون مع الاستعمار، بل تلاحق أيضاً أبناءه وأحفاده، ما زاد من تعميق الصراعات، وفي هذا الصدد يعلق محمد بن جبار: «المقاربة الوحيدة في الأدب لموضوع الحركى هي المصالحة التاريخية لأن هناك ما هو أهم من التشبث بالتاريخ. هناك مستقبل الوطن ومستقبل الأمة وتحررها الاقتصادي والعلمي وعلى مستوى الذاكرة. كما يجب لفت الاهتمام إلى جزائريين من طوائف وملل وديانات أخرى ولدوا في هذا البلد». حين صدرت رواية «الحركي» لأول مرة، عام 2016، لم تمر دون إثارة ضجيج من حولها: «الذين كانوا أكثر تشددا في نقد رواية الحركي هم من لم يقرؤوا الرواية. العنوان استفزهم بشدة. وهذا دليل على ممارسة الوصاية على عقولهم لأكثر من ستين سنة» يضيف. لقد خسر الحركى في جلهم أوطانهم، وكاد المُستعمر القديم أن يتبرأ منهم، مع ذلك ما يزالون يصرون على سرد حكاياتهم، بألسنة غيرهم، يروونها لمن يكتب كي يدرك الآخرون جزءاً مغيباً من تاريخ حرب التحرير في الجزائر.

«القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى