الخوف كعامل يقظة وتجاوز

الخوف قدر الجميع، لا أحد بمنجى منه. قد يكون مباغتا عارضًا يتجلى في انفعال ظرفيّ لا يبرح أن يزول بزوال سببه أو انكشاف ستره؛ وقد يكون متأصّلا في النّفس لأسباب سيكولوجية، للنشأة الأولى دورٌ في ترسّخه، ما يجعل المرء في حالته تلك يهتز خوفًا لأيّ طارئ كاهتزاز ورقة لأخفّ ريح، يخاف من الأصوات والظّلام كما يخاف من هزيم الرّعد ولعلعة محرّك درّاجة ناريّة تمرق بغتة، فيوصم بالجبان والرّعديد والخوّاف.
الخوف درجات، جعل له علماء فقه اللغة مراتب، تتدرّج من الخشية والفزع والجزع والرّوع إلى الذعر والهلع والرعب والفَرَق والوجْس والقلق، ورأس الحكمة مخافة الله. بعضها قد يكون ناجما عن انفعالات فردية كالضيق والقلق والجزع، أو جماعية كالرعب والذعر، وبعضها الآخر قد ينجم حسب درجة معرفة سبب الخوف، فالخوف والخشية والهلع قد تكون مصادرها معروفة، بعكس القلق الذي قد يتولد عن حالة نفسية وشعور بخطر غامض ناجم عن إشاعات ملفّقة أو أخبار زائفة أو مبتورة.
أمّا علماء النفس فقد أدرجوا كل مظاهر الخوف في أصناف أربعة. أوّلها الخوف: الخوف من فقد عزيز أو صديق أو ملكية أو شغل أو وضعية اجتماعية أو وطن. وثانيها الهجران: خوف المرء من أن يُهجر ويُترَك، من نهاية المحبّة التي كان يلقاها، من أن يجد نفسه مريضا، وحيدًا، بلا سند خصوصا إذا بلغ من العمر عتيًّا. وثالثها التشوّه: خوف المرء من التعرض لجرح أو حادث أو اعتداء بالعنف يقعده زمنا قد يقصر وقد يطول به حتى النهاية. ورابعها المذلة: خوفه من أن يكون محلّ سخرية وازدراء وإذلال.
ولاحظ أولئك العلماء أنّ كل تلك الكلمات تفيد العلاقات، علاقة الفرد بذاته، وعلاقته بغيره، وهي في الغالب علاقات أخلاقية واجتماعية وسياسية تصنع نسيج وجودنا، وعيشنا المشترك، ما يعني في النهاية أنه خوف واحد، هو الخوف من الموت، إذا اعتبرنا أن الموت لا يعني فقط التواري والغياب، وإنما أيضا تقلص قوة النشاط ورؤية إمكانات الحياة بما تحويه من محبة وصداقة ومعارف تضعف وتتضاءل.
يقول المفكر الفرنسي بول فيريليو “أعتقد أنه لا يوجد سوى خوف واحد، هو الخوف من الموت، ولكن لا ندري أبدا أيّهما أشدّ رعبا، احتمال موت الذات، أم احتمال موت الآخر”. ولو أنّ فرويد يجزم بأن لاوعينا لا يؤمن بالموت، لكوننا لا نملك أيّ وسيلة لتمثّله، وأن الصورة الوحيدة التي يمكن أن نحملها عنه هي الفراق. أي أن الموت ينظر إليه كفراق الفرد لذاته، وتظهر صورة الفراق في شكل خصاء أو حداد.
على المستوى الباثولوجي، قد يأخذ الخوف شكل فوبيا (رهاب الانغلاق، رهاب الخَلاء، رهاب الحشرات والزواحف…) أو شكل قلق أو بارانويا. أمّا على المستوى الاجتماعي وعلاقات البشر بعضهم ببعض، فقد يلبس لبوس عداء للآخر؛ وكلمة كزينوفوبي (xénophobie) تحيل في الأصل على المعنى العميق للعنصرية، فالكره الذي يكنّه بعضهم للآخر هو في الواقع خشية (فوبوس phobos) قائمة على جهل أو عدم معرفة بالأجانب (كزينوس xenos). وبعض الأحزاب السياسية في فرنسا مثلا تستغل ذلك الخوف، وتسعى إلى نشره وترويجه وحتى فبركته بتعاون مع وسائل الإعلام، ولاسيما عند الحديث عن غياب الأمن.
وللخوف أيضا بعد سياسي، فهو في جوهره حدّ فاصل بين الأنظمة الديمقراطية والأنظمة الشمولية التي تجعل من الخوف وسيلة تحكم بها قبضتها على رقاب رعاياها. هذا في المطلق، ولكن لو أمعنا النظر لألفينا أن الفروق بينهما ضئيلة، فلئن كانت الدكتاتوريات تعتمد في حكمها على زرع الخوف في صفوف رعاياها (في روسيا بوتين مثلا، كلّ من يتحدث عن الحرب على أوكرانيا مآله السجن، فقد صرّح الدكتاتور بأنها عملية خاصة لتسوية وضعية حدودية، وليس للروس سوى التصديق، ولو نطق العساكر العائدون من الجبهة بعكس ذلك)، فإن الديمقراطيات تلجأ إلى وسائل أخرى، ولكن لتحقيق نفس الغاية، حيث يركز الحكام، خصوصا عند اقتراب الاستحقاقات الانتخابية على ما أسماه زيغمونت باومان “أهداف التعويض”، أي المنحرفين والصعاليك والزعران والأجانب، ذلك أن تزوير الحقائق والتلاعب بمشاعر المواطنين وزرع الخوف في نفوسهم هي البديل حين تغيب الحلول. ولمّا كان الخوف أيضا وسيلة لإخضاع البشر إلى الطاعة وحتى إذلالهم، فقد نصح بعضهم بمغالبة ذلك الخوف، وكان كانط مثلا يلحّ في كتابه “ما الأنوار؟” على استعمال العقل بدل الطاعة العمياء.
لئن تمتّ مقاربة الخوف سيكولوجيا واجتماعيا وسياسيا، فمن النادر أن تناوله الفلاسفة تناولَهم للقلق، فسورين كيركيغارد وكتابه “مفهوم القلق”، وهايدغر في “الكينونة والزمن” وفرويد في “التثبيط، أعراض وقلق” ركزوا دراساتهم على مسألة القلق. ولكن أبرز من ميّز بين الخوف والقلق هو هايدغر، حيث بيّن أن الخوف له موضوعه، حيث يعرف المرء سبب خوفه، بينما القلق أو الضيق النفسي غير محدد، ولا تَمثُّل له، فقد يكون ناجما عن إحساس الإنسان بتناهيه، تناهيا يتجلى من خلال انزلاق العالم في كليّته، وكأن كل شيء يتلاشى، وينقلب سوادا في وضح النهار، فتنعقد الحنجرة ويحس الإنسان بألم دون أن يعرف السبب. أي أن القلق انفعال ميتافيزيقي، بخلاف الخوف، الذي يبدو عاريا من المعنى. ولكن ثمة مخاوف جديدة، في شتى المجالات، كالصحة مثلا مع ظهور أوبئة وأمراض جديدة؛ والبيئة من جهة التحولات المناخية والعلاقات الدولية المتوترة؛ والتكنولوجيات الحديثة واستخدامها في غير ما جعلت له، أي القرصنة والهجوم السايبرنيتيك.
وقد عُدّ الخوف في الغالب أمرًا سلبيّا ينبئ عن ضعف الشخصية، ويجعل المرء خاضعا لمن يتوقع منه البأس والقوة، فلا يجهر برأي صريح، ولا يقدم على عمل جريء خوفا من وخيم العواقب، لأن الخائف يسلك سلوك عبد، على رأي هيغل، فالسيد في اعتقاده هو الذي لا يخاف، في صراعه بين الموت والحياة، أن يغامر بحياته، فهو مستعد للموت ليثبت حريته، في حين أن العبد يرتجف خوفا على حياته، ويقبل العبودية طوعا للمحافظة عليها. أي أن حياة الشجاع في موته وموت الجبان في حياته. كما أن الخائف لا يمكن أن يبدع نصّا ذا قيمة، يقول جورج أورويل؛ ولكن بعضهم قد يتخذه وسيلة للكشف عن خبايا النفس، مثل جورج باطاي الذي جعل من الخوف موئل التجربة الباطنية، والامتحان الأصعب، إذ كان لا يني يردد “أنا أبحث عن الخوف” كما يقول غيره “أنا أبحث عن الحقيقة”.
والخوف، بخلاف القلق، يَعرف سببه كما أسلفنا، ولكنه لا يعرفه جيّدًا في الغالب، ومن ثمّ يمكن أن يكون باعثا على الحصَر والقلق، معطّلا للحركة والفعل. بل قد يقود صاحبه إلى محاولة الانتحار، على غرار بطلة ستيفان زفايغ في نوفيلا “الخوف”. مثلما يمكن أن يكون عامل إيقاظ وسعي إلى تجاوز وضع ما.
فريق من المفكّرين يذهب إلى القول إنّ من الطبيعي أن نخاف على سلامتنا وسلامة أقربائنا، في عالم تثير فينا منجزاته المتطورة مخاوف لا حصر لها، كالخوف من عواقب تلوث البيئة، والحروب، واستعمال السلاح النووي، فضلا عن الأوبئة والكوارث الطبيعية. ولكن بما أن الخطابات والصور يمكن أن تنزرع في تلك المخاوف لتستخدمها كسلاح فتاك، فمن الضروري أن نقارب تلك المخاوف عقلانيا، وهذا رهان كل تربية حقّ، بشكل يسمح لنا بالتحكم في انفعالاتنا، ونستعين بالمعرفة لفضح التدجيل والترهيب.
ويؤكّد هذا الفريق أنّ ثمة خوفًا من خطر حاضر، يمكن أن يبلغ مبلغ الفزع والرعب، وخوفًا من خطر قادم يمكن وصفه بالخشية، غير أن الطالب الذي يعتقد أن النجاح لن يحالفه، لا يشعر بالخوف بل باليأس، لأن الخوف عادة ما يكون مرتبطا بالمجهول، وبالتالي بالجهل، بيد أن الجهل بالآتي يمكن أن يحمل في طياته أيضا نصيبا من الأمل. كذلك الخوف من الموت، ولكن بما أننا نعلم أن الموت لا مفرّ منه، فهو يثير فينا اليأس أكثر مما يثير من خوف.
ثمّ إن خوفنا ليس من الموت في حد ذاته، بل مما يمثله من مجهول، فنحن لا نعرف متى نموت، ولا ما يصيبنا حين يحضر الموت، وإذا استطاع الفرد أن يجيب عن هذين السؤالين قلّ خوفه من الموت. فالمعرفة هنا ترياق ضد الخوف من الموت. وقد أخذت رغبة التخلص من هذا النوع من الخوف أشكالا عديدة على مرّ التاريخ، فالعلم مثلا يساعدنا على تقليص خوفنا من الظواهر الطبيعية، فنتهيّب حدوثها ولكننا نفهم أسبابها، فلا نتعامل معها كلعنة من السماء لا رادّ لها. بينما الأديان، في سعيها لتخفيف حدّة الخوف من الموت، كما يعتقد بعض المفكرين الملحدين، تجيب عن ذينك السؤالين بالتأكيد على وجود حياة بعد الموت، حيث الجنة للمؤمنين، والجحيم للمشركين.
قد يبدو الخوف أمرا سلبيا، مقابل الشجاعة التي تشيد بها كل الثقافات، غير أن الخوف في بعده الغريزي، الإيثولوجي (الإيثولوجيا هي الدراسة العلمية للسلوك الحيواني في وسط طبيعيّ) يفيد العكس، وينبئنا بأن الخوف مفيد، وحيويّ أحيانا، فقد يكون عنصرا محددا في الانتقاء الطبيعي، لأن الحيوانات التي تخاف، تهرب من مطارديها قبل سواها، فتكون أوفر حظّا في النجاة والبقاء. كذلك الطالب الذي يخشى الفشل، فيضاعف الجهد كي ينجح، والسائق الذي يخاف الغرامة المالية، فيلتزم بقواعد الانضباط أثناء السياقة. والخوف من الموت، يجعل المرء أكثر حرصا على سلامته، وربما يدفعه إلى إكساب حياته معنى.
لقد وضع الفلاسفة القدامى (من مدرسة القدريين إلى “رسالة انفعالات النفس” لديكارت) العقل في مواجهة الخوف، وجعلوا قوة التأمل الفكري والاستدلال المنطقي العقلاني ضد فوضى الانفعالات الغامضة واللاعقلانية، وكانوا يركّزون على السيطرة، سيطرة الإنسان على انفعالاته، وتحكمه في أهوائه. أما في عصرنا الحاضر، فقد فشا الخوف وتعددت أسبابه، ولم يعد ردَّ فعلٍ حادًّا ومؤقتًا، بل صار معطى قارًّا لإقامتنا في العالم، وصورة أساسية لعصر الكوارث والأوبئة والحروب الذي نعيش فيه. ومن ثَمّ يعتقد فريق آخر أنّ من العبث مواجهة الخوف بالعقلانية كما كان القدماء يفعلون، وحصر الانفعالات بالعقل وفهم اللامعقول بالتحليل، بل بالعكس، فكما كان القلق منطلقا للمساءلة الميتافيزيقية، يمكن النظر إلى الخوف إيجابيا، واتّخاذه محرّكا للعقل. من حقنا أن نخاف، ولكن من واجبنا أن نحوّل هذا الانفعال إلى مساعد للكشف، إلى عامل تأمل وفعل، فلا نستسلم للفزع الذي ولّده كورونا ثم حرب روسيا على أوكرانيا، بل نحاول أن نستند إلى الخوف لتغيير سلوكنا تجاه ما يجدّ، وتكييف رؤيتنا إلى العالم مع تلك المستجدات.

* * *

لي مخاوف كثيرة، بعضها عامّ أشترك فيه مع خلق الله، وبعضها الآخر خاصّ بي. فأمّا المشترك فهو الخوف من واقع اختلط فيه الحاضر بالآتي بعد نشوب حرب لها آثارها حتّى على البلدان المصنّعة، ذات الاقتصادات القويّة، فما البال ببلداننا الفقيرة التي تقتات من قمح أوكرانيا وتعادي أهلها، فقد بدأ أغلبها يشكو النقص في الأغذية الأساسية، ولا ندري هل تتعظ تلك البلدان بما تعانيه اليوم لتعدّل سياساتها التنموية الفاشلة التي رهنت قُوتَها للدول الأجنبية. والخوف مما تشكله العودة إلى شرعة الغاب بعد أن نشرت روسيا بوتين جيشا من المرتزقة، على غرار الجيوش الانكشاريّة في العصور القديمة، ينشر الرعب حيثما حلّ وينكّل بالمدنيين ويمثل بجثثهم، كما جرى مؤخرا في مالي. والخوف من عودة الفاشية في فرنسا، حيث الجاليات العربية والإسلامية، وما تحمله من مخاطر. والخوف من غد غير رحيم، تنعدم فيه فرص الشغل لأبنائنا، ويجلل الضباب آفاقهم.
وأما الخاص، فإني أخاف من تسرب الغاز في بيتي وأنا نائم. أخاف من الأفعى والعقرب، ولو أني قتلت من كلّ منهما اثنتين في شبابي. أخاف من الكلاب، وقد عضّني صغيرا كلبان لا تزال آثار أنيابهما مطبوعة على جلدي. أخاف من مرض أو حادث يجعلني عالة على أسرتي. أخاف أن أسيء إلى غيري دون قصد. أخاف أن يباغتني نعي قريب أو حبيب. أخاف أن أعود إلى وطني في تابوت.
أوّلَ عهدي بالهجرة، كنت “أخاف أن أمشي في غربتي وحدي”، والآن، وقليل ضوئي ينحدر إلى المغيب، بتّ أخاف أن “أموت قبل أن أفرغ كنانتي”، كما قال لافونتين في قصيدته الطويلة “أدونيس”.

مجلة «الجديد»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى