كينونة الشاعر والخوف من المجهول

كل قصيدة جديدة تحمل في دفقها السري خوفا من الفشل. خوف يحمل على السؤال: هل الشاعر خالق فاشل أم هو شكاك لا يرحم؟ كل قصيدة جديدة هي بالضرورة إقرار بفشل ذريع لقصيدة سبقت، لعمل مع الكلمات لم يبلغ الكمال، وهو ما استدعى المحاولة ثانية، هكذا تولد القصائد بعد القصائد، والرؤى تتدفق من الرؤى، الخوف المستديم للشاعر من أنه لمسَ ولم يُصِب الأبعد مما يتموّج في المخيلة ويعتمل في الشعور.
مثل هذا الشاعر كائن في ثقافتنا الشعرية، لكن وجوده لم يمنع من وجود شاعر من طراز آخر، هو الأكثر شهرة وتطلباً وإلحاحاً، وبطشاً بالعالم من حوله، إنه الشاعر الواثق المستبد، حتى بقصيدته نفسها، يريد نفسه قبلها في مواقع الاحتفاء، ويريد من قصيدته أن تكون أثراً منه، خادمة مطيعة في بيته الاجتماعي كلما داسها بحذائه اللامع صفق له المجتمع.
إنه الشاعر المريض بفكرة الخلود.
لكن هل فكّر الشاعر الاجتماعي، بصورة جدية، أن للقصيدة، ما إن تنفك عن شاعرها، حياتها الخاصة وقدرها المنفصل؟ وأن الشاعر، في أفضل الأحوال، أثر من قصيدته، وأنه مهدد بعد غيابه عن العالم أن يصبح أثراً بعد عين، ما لم يكن في وسع قصيدته أن تستدعيه من الغياب!

 

* * *

من الخوف ما كان مصدره أمواجا مبهمة من القلق الذي يضرب دواخل الشاعر قلق يبلغ به درجات من الجزع الذي لا سبيل إلى تلاشيه إلا بإبحار يذهب به إلى أبعد نقطة من ذلك الشيء الغامض الذي يتموّج في دواخله. شيء لا تظهره الكلمات في القصيدة إلا لتضاعف من غموضه الغريب، وألغازه المحيرة.
لعل هذا ما يحمل الشعراء على الحيرة من صنيعهم، إلى درجة الإرباك. بعضهم من مرهفي الحس والذكاء العاطفي تنتابهم مشاعر مركّبة ومتناقضة بإزاء قصائدهم، مشاعر تدخل فيها عاطفتا الحب والكره من طبيعة اللقاء بين هذين القطبين، وكذلك الخوف، وربما المتعة التي تبقى أبدا مقرونة بالجزع جراء ألغاز العلاقة بين الشاعر وصنيعه.
من علامات ذلك أن بعض الشعراء يعرض عن نشر شعره الجديد، فيهمله، خوفاً من أن يكون في هذا التشكل للشعر (في نظام هو القصيدة) قتل لأشواق الذات الشاعرة المتطرفة في طلب تحرّر أبعد غوراً وأنقى، وأكثر اتصالاً بالوجود، أو بحث عن كمال فني مّا نسبة إلى مثال لا تتضح معالمه، وهو مثال لم تظهر صورته في صورة القصيدة.
لكن هل مثل هذا الطلب المستحيل شيء آخر غير طلب الموت!
ليس الخوف هنا مجرد شعور طفيف ملغز ولكنه جرس عميق يقرع في عمق سحيق من اللاوعي.

 

* * *

قصيدة الشاعر، أيضاً، صورة من صور الخوف من الضياع في عتمة الوجود، بعد ألم الانفصال عن ماء الأنثى الأولى، هي الخوف من ألا يكون لنا مكان آخر في مياه أخرى في كوكب كل ما فيه من دفق يصدر عن ذلك العمق المؤنث، نحن خائفون لأننا نريد أن نكون قريباً من ذلك الشق الذي يرسل الضوء.
نكتب القصيدة ليكون لها طاقة الأنثى على انتشالنا من الضياع.

 

* * *

ينبئنا صنيع الشعراء في الشعر أن الذي يحدث في ذلك العمل مع الكلمات يريد أن يقوّض ويبدّل، يهجم الشاعر على الحاضر بفأس يسمّيها المستقبل. إنما مشكلتنا أن الإقرار بالهدم والتغيير، وهما في صلب عمل الشاعر، هو المعضلة، لأن في التغيير ألماً يقترح البعض أنه أكبر من طاقة البشر على الاحتمال، رغم الولع بالجديد، لعل ذلك مصدره ألم الانقطاع عن العادة، والغربة عن الإلفة، ومن ثم الخوف من المجهول.

 

* * *

من علامات علاقة القصيدة بالكينونة الأرحب لفكرة الحب أنها كلما كانت فريدة في ما تنقله من خبرات شعورية، غدت صورة حية من صور العاطفة المتحررة من قلق الخوف من الآخر، وكانت أقدر، بالتالي، على تحدي فكرة الموت. يمسي الحب هو الجِدَّة، هو المبتَكر تواً، الجمال المفاجِئ القادر على إضاءة القلب بالضربات، خيط رهيف يتوتر في الكلمات وفي الصمت بين كلمة وكلمة ويلوح خاطفاً كبرق الشغف بين الأنا والآخر، مدهش، دائماً إلى درجة القدرة على بعث وجود للكلمات لا نظير سابقاً له.

 

* * *

ما يدهشني، مرات، أن أجتمع إلى شعراء قرأت شعرهم ثم اختلفتْ عليّ صورهم، فإذا بها نقيضة لصور شعرهم، تدهشني قدرتهم على كتابة الأعمق من مشاعر الحب، ثم أجدهم أقدر بني البشر على إبداء الكره ومشاعره وأعماله، ومقتضياته. إذّاك، أحار وأنصرف عنهم إلى تساؤلات معذِّبة من قبيل: من أصدق “القصيدة العاشقة” أم “شاعرها الكاره”؟
شعور كهذا يولد في الأشياء خوف من نوع يحمل على الأذى.

 

* * *

البعد والقرب واحد. مادام الفناء هو المصير، والعدم هو المآل. يعاني الشاعر، برهافة مدمّرة، من شعور متأصل بالخوف من الفقدان، غالباً ما يبدأ خوفاً من فقد آخر قريب. في شعره وقبلا في مزاجه يمعن الشاعر في توجس الفقد. في ذروة لحظات الفرح يتقطر شعوره أسى من فكرة الفقد، كأن وجود الآخر في مساحة وجوده ومسافات الشعور بهذا الوجود، ومن ثم التعبير عنه في الشعر، إنما هو وجود قلق، وجود مهدد، لكونه منذورا للضياع. وتتضاعف لدى الشاعر، على نحو كارثي، وطأة هذه الهواجس والتأملات في الآخر ومصيره، ربما لكونه يقبل على الآخر كما لو كان يقبل على نفسه في المرآة، فما عبور الآخر في العالم إلا صورة أخرى لعبورنا في الوجود. وخوفنا من انقضاء الوقت.

 

مجلة «الجديد»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى