حوار الورق بين اليابان وقطر.. استعادة للأحلام الدّافئة

منذ عقود والفنان يوسف أحمد يجاهر بأنّ تجاربه الفنية تستمد قوتها من مدينة الدوحة، من أرضها وبحرها وسمائها، ومن فضاء الصحراء وأفق النخيل، ومن إيقاع أسفاره وذكريات صداقاته. ولطالما تميزت لوحاته بوميض ألوانها وأحبارها وإيقاعاتها الحروفية وفتنتها الاختبارية التي شقت طريقها بقوة نحو المعاصرة، كما رسّخت أنماطاً تجريدية جديدة مستمدة من إيقاعات الكتابات والحروف المسكونة بروح الماضي والحاضر ورونق التجريب.
في معرضه الجديد الذي يُقام في غاليري 3331 (Arts Chiyoda Artistic) في طوكيو، آثر يوسف أحمد أن يتشارك مع الفنان الياباني نيشيغاكي Hayaki Nishigaki تحت شعار “حوار الورق ما بين قطر واليابان”، الذي يتوافق هذا العام مع ذكرى مرور خمسين عاماً من العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
المعروف أنّ يوسف أحمد ابتكر منذ سنوات صناعة ورق للرسم من سعف النخيل في قطر، مستحدثاً خامة جديدة ما لبث أن أوجد لها تطبيقات تتخطى المفهوم السائد للّوحة نحو أعمال تجهيزية ورقية ذات وظائف جمالية مغايرة للمألوف.

وقد لفَته خلال تعرفه إلى أعمال الفنان الياباني نيشيغاكي هذا التقارب بينهما في عشق خامة الورق والحبر الأسود. ففي اللون الأسود يكمن جوهر الشعر المضيء بالخيالات، حيث ترحل تجاربهما إلى البعيد في استكشاف الفراغ على أنه إيقاعات الفضاء الكوني.
تدور الكلمات على ذاتها كي تومئ بالشرارة الفريدة التي تفتّق ليل اللغة، عندما تسلك الكتابة التجريدية طريق الحركة الدائمة التي تجمع عناصر الوجود، وتهيئ للكائن فضاءات فنية جديدة يلتقي فيها بإنسانيته. فقد رأى يوسف أحمد أن جوهر الشعر يكمن في دوائر حركة الأحبار السوداء التي تتجلى في لوحات صديقه الياباني. فهي تشبه عوالمه عندما يطرق في تكوين كتاباته باب الاستدارة ومداد متاهات الانسكاب البديع للّغة تجريدية كلغة واحدة لكل العالم. كما لو أنّ الفنان المعاصر هو وريث لهذا الإرث الحضاري الذي تجلى في علاقة الورق بالحبر.
الورق في خزائن الحضارات.
يندرج حضور الفنان يوسف أحمد في معرض طوكيو، ضمن برنامج الأعوام الثقافية لدولة قطر مع دول العالم، في مسعى لإلقاء الضوء على إسهاماته الكبيرة في تطوير صناعة الورق من سعف النخيل القطري، واستعادة مهارات الورّاقين العرب الذين كانت لهم إسهامات كبيرة في المدن الأندلسية الكبرى كقرطبة وإشبيلية وغرناطة.
والمعروف أن أول مصنع للورق في أوروبا انطلق من المحترفات العربية في صقلية عام 1102 ميلادية. وقد ازدهرت صناعة الورق في إيطاليا وجنوب فرنسا في القرن الثالث عشر، بفضل الورّاقين العرب الذين اندمجوا في المجتمعات الأوروبية بعد سقوط الأندلس.
لفت انتباه الفنان يوسف أحمد عملية تسجيل تقنية الورق التقليدي الياباني اليدوي الصنع “واشي”، في التراث الثقافي غير المادي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم عام 2014، في الوقت الذي كان فيه منهمكاً في تكوين اللفائف الورقية ضمن أطر مفاهيمية مبتكرة للوحاته وأعماله التجهيزية. فاكتشف أنّ ما كان يقوم به هو أشبه بحوار الحضارات الكامن في خزائن المكتبات الشرقية القديمة وكنوز المعابد اليابانية، لا سيما أن أول ورقة مصنوعة في اليابان “مينو واشي” محفوظة في “شوسو إن”، وهي خزينة كنوز معبد “تودائي جي” مدوّن عليها التعداد السكاني الأول للقرن الثامن الميلادي.
لقد عاش اليابانيون مع اختبارات تطوير صناعة الورق لفترات تاريخية طويلة، انغمست فيها عمليات الصناعة الورقية بشيء من الأحلام الشعرية الدافئة. إذ تعددت الروايات حيال الورق التقليدي الياباني، فقيل إن التجار في مدينة “ايدو – واتي” التي كثرت فيها الحرائق قديماً، كانوا يواجهونها بإلقاء سجلات دفاترهم الحسابية في الآبار للحفاظ عليها وإبعادها من الحريق.
فالورق التقليدي “واشي” بعد تجفيفه يعود كما كان، ولا تختفي الحروف المكتوبة عليه بالحبر حتى ولو ابتلّ. كما أنه يصعب تمزيقه ولا تقترب منه الحشرات. هكذا نجد أن ورق “واشي” هو أشبه بسيرة حياة في أوراق نباتات “الكووزو” و”الميتسوماتا” و”الغانبي”، وفي تقنيات نزع اللّحاء ثم الضرب برفق على الألياف الداخلية وخلطها بالماء مع هلام نبات “الباميا أيبيكا”.


ويقال إن مدينة “أوتاكي” أصبحت أشهر مدينة متخصصة بإنتاج ورق “واشي” الياباني التقليدي، المميّز بالنعومة والرّقة والمتانة ونصاعة البياض، وإن هذا النقاء يعود إلى أماكن صناعة الورق بمحاذاة مجرى الوادي النقي. فحياة إنتاج الورقة له علاقة وثيقة بالضوء والماء ورقة التلمّس باليد للتحكّم في نعومة الملمس.
التّجريد في اختراق مفاهيم اللّغة والشّكل
وجد يوسف أحمد أن عمله المتواصل في تطوير صناعة الورق من سعف النخيل، يتجسد في جريان إيقاعات الدائرة التي تعبّر عن تجليات شغفه الحروفي العميق، وانشغالاته التقنية في سبر أغوار أوراق النخيل وعلاقتها بالضوء والصحراء ورطوبة البحار، وباليد التي تلاطف وتعمق المباحث وتطور الاكتشافات.
هي اليد ذاتها التي تخلط وتمزج وتكسو وتكشط وتلوّن وتراكم، كي تحقق حلمه القديم في اعتبار أرض قطر، الأرض الجليلة، الأرض البكر، الذي يقيم في سديمها ويلاعب بشرتها الحية النابضة. فقد تسنّى ليوسف أحمد خلال عقود طويلة من الاشتغال على التقنيات أن يخترق مفاهيم اللغة والشكل وسلطتهما للوصول بفنّه، إلى حالة من التناغم المستمدّ من رحم الأرض القطرية ومن طبيعتها، وأن يترجم إيقاع نخيلها المنفتح على العالم.
لذا فهو من خلال تحقيق هذا المعرض الثنائي، كان ينير ويستنير عبر تمثيلات دوائر روح الكتابات الصافية، التي تكشف عن أواصر الجوهر المشترك بين الفن الياباني والفن القطري، الكامن في ظواهر حركات الكتابة بالأحبار وارتكازها على الارتجال التجريدي، الذي يقتنص حركات الضوء، كي يجد ضالّته في التعبير عن المطلق والسرمدي في ارتباط الفن المعاصر بتقاليد الشعوب العريقة. فالفنان وريث لهذا الإرث الحضاري، والنتاج الفني المعاصر هو محض استرجاع لذاكرة ماضوية في المكان.
كأنّه حنين الى ماضٍ هو ماضينا الذي أوصلنا إلى تلك الخصوصية الأسلوبية، أو ذلك التفرد. فالتراث لا يعني الساكن بل هو نتاج حياة في حركة وتغيير.
هكذا تجلت لوحات يوسف أحمد كوقفة احتفاء بحوار الحضارات. فاليابانيون يكتبون بالفرشاة بدلاً من القلم، وهذا ما جعل إلمامهم بتقنيات ضربات الفرشاة وحساسيات قيم الرسم الارتجالي بالحبر الأسود يتميز بفلسفته الجمالية. فالخط الياباني “شودو” Shodo تطور من خلال اللعب على مقام الحرف بالحبر الأسود، كلون يتدرج ليترجم حركة الحياة والطبيعة، على اعتبار أن الماء والهواء هما أصل عناصر الطبيعة. لذا فهو يتجانس في لوحات الفنان هياكي مع حركة الدائرة التي تتوافق مع نظرية التحول المطلق والتدرج الدائم والانسياب الذي لا ينقطع، كون الدائرة هي حال الديمومة أو اللا نهائي الذي لا بداية له ولا نهاية.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى