الرواية الجزائرية بين مطرقة العنف السياسي وسندان التطرف الديني

كان لسنوات التسعينات في الجزائر، وتحديدًا بعد أحداث 1988 أو ما أطلق عليها العشرية السَّوداء، الأثر الكبير في أن تتشكَّل الرواية الجزائريّة مصحوبة بهاجس السؤال عمّن المسؤول عما حدث ولحساب مَن؟ بل قطعت الرواية شوطًا أكثر جرأة وهي تدين السّلْطة بكافة تنويعاتها؛ السياسيّة والدينيّة، فمن وجهة نظر الشخصيات الروائية، أن هذه السلطة على اختلافها هي مَن زرعتِ الرعب والموت! فلم يكن التطرف محصورًا في السلطة السياسية وممارستها الإقصائية، وإنما أيضًا شمل التطرف الديني الذي أرّق المجتمع برمته، وأدخل البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة لم تنجُ منها الجزائر تمامًا.
الجدير بالذكر أن ثمة إرهاصاتٍ مبكرةً في بعض الكتابات الروائية تمثلت لموجة العنف ورصدتها عبر مروياتها في استشراف مسبق للكارثة، كما في نموذج رواية “الزلزل” للطاهر وطّار والتي صدرت عام 1973، فالرواية كانت استشرافًا مُبكِّرًا لما حدث من وقائع مفجعة ليس فقط في الجزائر وإنما في البلاد العربية، حيث خروج الشخصية المتعصبة المتمثلة في شخصية عبد المجيد بوالأرواح، خريج الزيتونة وإن كان ينتهي به الحال إلى نموذج المتعصب المتطرف.
ثم تأتي روايته “الشمعة والدهاليز” التي صدرت عام 1992 أي قبل الانتخابات العاصفة التي حصدت الأخضر واليابس، وقد عكست الرواية الصراع المتأجّج وقتها بين الأيديولوجيا الشيوعية الماركسية والأيديولوجيا الدينية.
أشارت الأدبيات التي أرّخت لهذه الفترة إلى أن هذه الأحداث التي منيت بها الجزائر كانت نتاجًا لمسار السُّلطة الأحادي الذي انتهجته بعد إلغاء انتخابات 1992، وقد تجلّى أثره الكبير في ظهور الاستبداد الذي مارسته السلطة وصار ماضيًا مؤلما. وكان – أيضًا – له انعكاسه الخطير في تغيير هوية المُدن على حدِّ تعبير واسيني الأعرج في روايته “سيدة المقام” حيث غيّر حُرَّاس النوايا ملامحها، وأعادوها إلى الماضي، أو أحضروا الماضي إليها، فصارت «مدينة غيّرت الكتاب والعلم بالصفرة والشعر بالحكاية، والكتابة بالرواية، والحروف المنسوخة على جلد الماعز بالنار والموت والدم، كل شيء تصدع بقوة، بقوة فظيعة» (الرواية:ص45). حتى إن الحديث عن الحب صار غير مناسب، ويُعَدُّ من الخجل أن يُفْتَحَ حديثهُ “والوطن يشيّع أبناءه كل يوم” فكما تقول فضيلة الفاروق “الحب مؤلم جدًّا حين تعبره الجنائز، وتلوثه الاغتصابات ويملأه دخان الإناث المحترقات” (تاء الخجل، ص 15).

(1)

لم تقف الرواية الجزائرية عند شخصية المتطرف من الخارج، بل سعت لمعرفة الأيديولوجيات الدافعة للتحريض على العنف، ومن ثم قدمت المدونة الروائية صورًا مُتعدِّدة لشخصية المتطرف وتوقفت بوجه خاص عند نظرته العدائية للآخر، كما كشفت هذه المدونة عن وجه من أَوجه تخاذّل الدولة في مساعدة مَن اكتووا بنار الإرهاب، على نحو ما قدمت فضيلة الفاروق في روايتها “تاء الخجل” الصّادرة عام 2003، عن دار رياض الريس، وإن كانت تميل الرواية في جزئها الأوّل إلى سرد التحولات في شخصية البطلة التي نشأت في بيت تحكمه سلطة الرِّجال، المحكومة بأنساق المكان المهيمنة والمكبلة للشخصيات، وهو ما يقود البطلة إلى رفض هذا الواقع أولاً ثم التمرد عليه في مرحلة لاحقًا. وقد كان له انعكاسه على رؤية الساردة/البطلة للعالم أجمع فيما بعد، خاصة بعدما خبرت الظلم الذي تعرّضت له أمّها بسبب إنجابها البنات، وكذلك حالة الامتهان التي تتعرض لها نساء العائلة في ظل هذه الهيمنة الذكورية فكما تروي “كان يزعجني أن أرى سيدي إبراهيم في موقع السلطان وأعمامي وأبناءهم حاشيته المفضلة، يجلسون في غرفة الضيوف حول المائدة الكبيرة، ينتظرون خدمتنا لهم” (الرواية، ص 24).
وأثر هذا المشهد في نفسيتها وهي تَرى نساء البيت يبقينَ في المطبخ يسكبن الصحون، بينما الصَّبايا تَقوم بتوصيلها. فكانت تهرب إمّا على سلالم السَّطح أو في البستان، كنوع من التمردِ على هذه العنصرية. ثم تنتقل عبر فصل “أنا ورجال العائلة” لتقدّم لنا صورة قاسية لانتهاك جسد المرأة في مشهد العرس، باسم التقاليد والأعراف التي تنتصر لذكورية الرجل وتؤكِّد عليها عبر جسد المرأة. ثم تأخذنا الراوية مع بطلتها عبر مشاهد من حياتها وعلاقاتها بالرجال والإكراهات التي مارستها البيئة الجبلية التي كانت تنتمي إليها “وكانت تترصد الحب بعيون الريبة” (ص، 34)، أو ذكورية أفرادها كي ترضخ لنزواتهم، غير أنها دائما تتمرد وعندما أقترح جدها إبراهيم أن تتزوج من محمود أو أحمد، بعد الإشاعة التي تم تسريبها من قبل عمّها نكاية في رفضها نزوات ياسين الذي كان يبتزها بقوله “كوني مطيعة وإلا فضحتك”، فكما قالت لها أمها مشفقه “يا ابنتي سيكسرك رجال العائلة”، ومع هذا فتهرب أيضًا وتنتقل البطلة إلى قسنطينة لإتمام دراستها الجامعية، وهو الحدث الذي كسر احتكار ذكور العائلة له دون إناثها.
وخلال هذه الرحلة كانت تبرز السَّاردة لحكايات تظهر قسوة الرِّجال، وهو ما يُنمِّي في داخلها كراهية لسلطة الرجال بصفة عامة، حتى تبدأ عملها في الصحافة المعارضة، حيث انضمت إلى جريدة “الرأي الآخر” التي كانت “مزيجًا من الإسلاميين والديموقراطيين والعلمانين” فتتصاعد الانقسامات والاختلافات وتصل ذروتها إلى الاغتيالات عندئذ تدرك أن “باب الحديد الذي نغلق به مقر الجريدة لن يحمينا ما دمنا مشتتين” (الرواية: ص35) لتصل بعدها إلى الأزمة الكبرى، أزمة الوطن حيث كانت سنة العار “سنة 1994 التي شهدت اغتيال 151 امرأة، واختطاف 12 امرأة من الوسط الريفي المعدم”. ومع ابتداء عام 1995 أصبح الخطف والاغتصاب استراتيجية حربية، إذ أعلنت الجماعات الإسلامية المسلحة (GIA) بأنها وسّعت دائرة معركتها “للانتصار للشرف” تضاربت الأرقام بطريقة مثيرة للانتباه في حضور قانون الصمت. 1013 امرأة ضحية الاغتصاب الإرهابي بين سنتي 1994 و1997، إضافة إلى ألفي امرأة منذ سنة 1997. والبعض يقول إن “العدد يفوق الخمسة آلاف حالة. ولا أحد يملك الأرقام الصحيحة، إنّ السّلطات مثل الضحايا تخضع لقانون الصمت نفسه” (الرواية ص 36).
تناولت الكاتبة ظاهرة من أسوأ الظواهر التي نتجت عن الإرهاب والتطرف والانتقام من الآخر، أقصد ظاهرة الاغتصاب التي تعرّضت لها النساء الجزائريات في فترة العشرية السوداء، بعد اختطافهن بعمليات عسكرية، من قبل جبهة الإنقاذ الوطني الجزائرية، وقيادتهن إلى الجبال حيث تتمركز معسكراتهم وجماعاتهم المسلحة. فتصف الرواية حالة الموت التي عمّت البلاد حيث “الموتى في كل مكان، والقبور كالمقاهي يزورها الناس أكثر من مرة في اليوم حتى صار صمت الشوارع (مخيفًا) والناس وقوف، والنعوش الخضراء تقصد بيوتها الأبدية” (الرواية، ص 38)، “فالقتل صار عادتها السيئة، صار فطرتها السيئة (ص 93)، و”الوطن كله صار مقبرة”، ثمّ ترصد الانتهاكات التي تعرضت لها النساء، وما ارتكب ضدهن مِن ممارسات وتعذيب واغتصاب وهو ما دفع والد الطفلة “ريما نجّار” وهي في الثامنة لأن يرمي بها من على “جسر سيدي مسيد” لِيُخلِّصَها من العار لأنها أُغْتصِبَتْ على يد رجل في الأربعين أحدب وقصير. حُكِم عليه بعشر سنوات سجن من المحكمة بفضل حنكة محاميه، وعيب قانون العقوبات الجزائري الخاص بهتك العرض.
كانت النساء تُساق كالغنائم، وهناك في المعسكرات تُباح أجسادهن، وكان العنف يصل ذروته بقتلهن، أما مَن تبقى على قيد الحياة فيتم تشغيلهن في إعداد الطعام والشراب للجماعات المسلحة، لأنهن في نظرهن، زوجات أو بنات أو قريبات لمسؤولين أو موظفين في الحكومة الجزائرية، التي تعتبرها جبهة الإنقاذ، كافرة في خدمة دولة وسلطة كافرة أيضا، وبالتالي من الجائز الانتقام من نسائهن.
تأتي الحكاية عبر بطلة الرواية التي تقوم بتحقيق صحفي تتناول فيه قضية النساء اللواتي تعرضن للإرهاب عن طريق خطفهن من “جيش الإنقاذ” وما تعرضن لهن من وسائل مهينة وصفتها يمنية بممارسة العيب، حيث قام رجال الجيش باغتصابهن، وحين يلدن يقتلون المواليد، دون مبالاة بصراخهن أو توسلاتهن، وهذا العنف وما خلقه في نفوسهن من كسور وجروح جعلت النساء يتزعزع إيمانهن، فتقول “يمينة” وهي تحكي “ربطوني بسلك وفعلوا بي ما فعلوا، لا أحد منهم في قلبه رحمة، وحتى الله تخلى عني مع أنني توسلته. أين أنت يا رب، أين أنت يا رب؟” (الرواية: ص 45).
حالة زعزعة الإيمان التي تسربت إلى يمينة وهي تسرد مأساتها، جعلت البطلة تتعاطف معها، وتدين هذه الجماعات التي تتستر بالإسلام، فكما تقول “لا يعرف أحد رحمة الإسلام منهم، بل منهم مَن يغتصب النساء باسمه، وكذلك البعض ينبذهن باسمه، والبعض ينكر أنهن ضحايا باسمه”، لم تكن يمينة ضحية هذه الجماعات الإرهابية بل كانت – أيضًا – ضحية الأنساق الثقافية في قريتها الجبلية، التي أملت على أبيها أن يرفض إدخالها ثانوية آريس ذات النظام الداخلي، فتوقفت عن الدراسة وهي في الرابعة عشرة من عمرها، ثم يأتي تأثيرها القوي عندما يرفض الأب الاعتراف بأن له ابنةً عندما اتصل به ضابط شرطة آريس، فقد أنكر في البداية ثم بعد ذلك رفض استقبالها. الهدف الأسمى الذي كشفته الرواية تمثل في شقين: الأول في توضيح أضرار الإرهاب والتطرف التي وقعت على المرأة أيضًا، وهم يستحلون أجسادهن باسم الدين، وهي صورة أغفلتها بعض الأدبيات التي تحدثت عن المأساة، والشق الثاني تمثل في أنها كشفت عن موقف مريب للدولة بتخاذل مؤسساتها في حماية وتقديم المساعدة لهؤلاء الضحايا من النساء اللاتي وقع عليهن فعل التطرف والإرهاب في أبشع صوره، أي القتل المعنوي. خاصة أن القانون كان لا يسمح بالإجهاض، وكأن قانون المنع يجعل ثمرة الخطيئة التي لم تكن المرأة سببًا فيها، صخرة سي زيف التي تحملها في عنقها طيلة حياتها، وهو الأمر الذي دفع “برزيقة” الفتاة الجميلة التي أعجب بها الأمير، واختص بها نفسه، وأراد مراودتها إلّا أنّها صدته كوحشة، وخدشت وجهه بل وتركتْ له ندبة تحت عينه، فأراد قهرها بمساعدة رجلين واغتصبها أمامهما، وبعد محاولات فاشلة للهروب، اضطرت في النهاية، لأن تنهي حياتها في الحمام، وبالمثل قاد هذا المصير أيضًا الفتاة الثالثة “راوية” لأن تذهب إلى مستشفى المجانين.

دمية النار

النموذج الثاني من الأعمال التي رصدت التطرّف الذي أدخل البلاد في موجة من العنف، إبان هذه الحقبة، وإن كانت تعرضت لجانب العنف الذي مارسته السُّلطة السياسية هو رواية بشير مفتي “دُمية النَّار (الصَّادرة عن الدَّار العربية للعلوم ناشرون، ومنشورات الاختلاف2010). يقدّم بشير مفتي لنا عبر مروية «دُمية النَّار» نموذجًا للروايات التي تسعى لتفكيك أيديولوجيا السُّلْطة؛ فالرواية تُعَرِّي السُّلْطة السِّياسية وممارستها الفجَّة من أَجْل الإمساك بزمام الأمور، وذلك من خلال رَصدها لمعاناة أسرة كاملة وقعت أسيرة لِلعْبَةِ السِّياسة القذرة، فيتحوّل أفرادها تِباعًا إلى أداةٍ غاشمة سَاهمت في تغوُّلِ السُّلْطَةِ، إلى أن ينتهي مصير هذه الأسرة إلى التدمير، سواء بالقتل كما حدث مع الأب، أو بالمصير الغامض الذي ينتظر الابن، كما خلقتْ نوعًا من القطيعة إلى حدِّ النفور والكراهية بين الابن وأبيه.
استطاع الراوي عبر شخصية «رضا شاوش» أن ينفض الغبار عن تلك الألاعيب والممارسات الخفيّة التي قامت بها هذه الجماعات السِّرية تحت مظلة الحفاظ على هيبة الدولة، عبر سيرة هذا الشخص المدعو «رضا شاوش»، منذ ولادته في حي شعبي اسمه «بلْوَزْدَادْ» وطفولته التي لا يستحضر منها سوى ومضات تُذَكِّرهه بقسوة أبيه ومعاملته السيئة والقاسية لأمه، وفي أحيان ضربها، وربما كانت هذه الصُّورة القاسية عاملاً يُفَسِّرُ حالة الانطواء التي عاشها، فقد خَرَجَ من حياته بلا أَصْدِقاء باستثناء الدكتور عدنان. ورغم تلك المعاناة التي حفرت في ذاكرته ألما خاصًا إلا أنه كان متفوقًا في المدرسة، شغوفًا بالقراءة نالَ رضا معلميه خاصّة معلمة اللغة العربية التي خصَّته بمعاملة خاصة ومدَّته بالكتب من مكتبتها الخاصة، وبفضل القراءة صَار ينظر إلى العالم من خلال الأدب لا غير.
الرِّوَاية أشبه بشهادة أو وثيقة حيَّة عن المسكوت عنه في فترة حرجة من تاريخ الجزائر أعقبت مرحلة الاستقلال، وهي التي تولَّى فيها الرئيس هَواري بومدين مقاليد الحُكْم، وحالة الالتباس التي بدت بين صفوف الثوريين والمجاهدين، فتحوَّلوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، أو تحوَّل المناضل الثوري إلى جَلادٍ يَنْتَظِرُ ضحيته ليحفظَ مكانه. وللأسف انتهت هذه الفترة بحرب أهلية في الثمانينات كان الإسلاميون أنفسهم ضحيتها ومن ثمَّ جاءت الرِّواية وكأنها إجابة عن تساؤل كبير مفاده: ماذا حَدثَ؟ وأين موطن الخلل؟ بعدما سعت الأيديولوجيا المناصرة لهذه الفترة، لإضفاء الطابع الرومانسي الغنائي عليها. لهذا تبدو الرِّواية في صورتها البسيطة بمثابة هتك لتلك الممارسات غير الشرعية، وما أعقبها من انقسامات وتمزُّق في الهوية، وفقدان لــ«الروح التي لم تَعُدْ روحًا بعدما أصابها الفقد» (الرواية: ص 118).
العجيب أن هذه الجماعة السِّرية التي كانت اليد الباطشة فيما حدث، تشكَّلت بهدف وطني نبيل هو المطالبة بالاستقلال، وما أن تحقَّقَ هذا الاستقلال حتى وجدت هذه الجماعات السِّرية نفسها في قلب اللُّعْبة السِّيَاسيَّة، وبدلاً من أن تتخلَّى عن الدور السِّري بعد أنْ انتهى الغرض الذي تشكَّلت من أجله، استمرت في نفس الدور وبنفس ألاعيبها في تصفية المعارضين لها ولسياستها التي بدت تُعلن عن مَصالحها الخاصة.
تأخذ الرواية صيغة الاعترافات حيث تبدأ بالبطل رضا شاوش وهو على وَشْك مرحلة النهاية، بعدما فقد روحه وفقد كل شيء: رانية المسعودي وذاته التي ضاعت، وابنه الذي عرفه في لحظة افتقاده. الاعتراف الأهم له هو كشف طبيعة المنظمة وخروجها عن المسار الذي أُنْشِئت من أجله فيقول «بعد الاستقلال، التقينا، وتحدثنا، وكانت الفكرة تأسيس جماعة في الظِّل تحمي البلاد وتُسَيِّرُهَا من خلف ستار..(..) لماذا سَارت الأشياء بعدها عكس ذلك، لقد حاربنا في البداية المعارضين العملاء للإمبريالية، ولكننا أصبحنا العملاء، نحن مَنْ يخدم مصالحهم، ونُسَيِّرُهَا لهم، ونأخذ بعض الفتات (..) الحقيقة، إنني نادم على بعض الحوادث التي ارتكبتها بنفسي، ليس نادمًا، ولكنني ناقمًا (كذا) لأنه كان يمكن عدم فعلها دون أن يختل أيّ شيء… تصوَّر لقد صفينا رجالاً ظننا أنهم خطر على أمن البلاد، ولكننا بداخلنا كنا نعرف أنهم ليسوا خطرًا بالمعنى الكبير إلا على مصالحنا نحن، كانوا ضد زعامة الرئيس الواحد، كانوا يؤمنون بالحرية، وأشياء من هذا القبيل» (الرواية: ص ص 127 – 128). وأخيرًا اعتراف رانية المسعودي حبيبته التي اغتصبها لينالَ منها عنوة ما حرمته طائعةً، بأن له ابنًا منها، وقبلها اعترافها بأنها لم تنسَ تلك الوشاية التي وشي بها لأخيها وما أحدثته من أثرٍ كبيرٍ في تغيير مَسَار حياتها بعد تركها المدرسة. اطّراد هذه الاعترافات داخل النَّص، يشير إلى أن معظم الشخصيات كأنها جاءت لتقفَ أمام منصة الاعتراف لذا تُعَدُّ الاعترافات نوعًا من التَّطَهُّر، أو نَوْعًا من تصحيح التاريخ لهذه الفترة، التي ساعدت أيديولوجيا السلطة على إظهارها بغير حقيقتها، وترويج رومنسيتها.
تقف الرواية عند أبعاد الشخصية الرئيسية وتحولاتها، فقد صاحب صعود «رضا شاوش» إلى الجانب الآخر الآمن كما كان يظن، مجموعة من التحولات، جاء بعضها نتيجة لظروف أُسرية (طبيعة الأب المتسلِّط، ووظيفته في مؤسسة العقاب)، وبعضها ذاتي (إخفاقاته في الدراسة والحب) وبعضها لظروف سياسية (الاستبداد وانعدام الحرية)، وإزاء هذه الظروف تحوَّل مِنْ ناقم على السلطة، وفسادها في صورة أبيه الذي يحبُّ الرئيس بومدين ويؤمن به ويصدقه «ويعتبر نفسه جنديًا في خدمة تعاليمه، مناضلاً في جهاز سلطته، رقمًا له دور في هذا العالم الذي يحكمه بيد من حديد» (الرواية: ص 32)، إلى رقم وترس ضمن تروس النظام، رغم أن الله ساق إليه معلمه السياسي ووالده الروحي «عمي العربي» كما كان يناديه، وبما كان يعتنقه من أفكارٍ مناقضة لرؤية والده، فكان يسخر من الرئيس بومدين ويمقته أشدّ المقت، وإن كان يعترف بما حققته اشتراكيته من مجانية للتعليم ما عدا ذلك فهو يراه «قمة الغرور الذي تصنعه عظمة القوة لتكسر عظمة الشعوب» (الرواية: ص37).
التحولات التي أصابت شخصية رضا بدأت بتداخل الذاتي مع الأيديولوجي مع التاريخي المعقد، لينتهي البطل نهاية متطرفة، فَمِنْ شَخْصٍ مثالي رومانسي يقرأ الكتب، ينتهي به المطاف إلى وحش يغتصب مَنْ أحبَّ، ثم في مرحلة لاحقة إلى قاتل مأجور، أو أداة في يد السُّلطة، على غير ما توقَّعَ له أخوه، بأن يصيرَ فنانًا أو أديبًا. العلاقة بينه وبين رانية المسعودي تأتي في صورة متناقضة لأيّ علاقة يمثل أحد طرفيها الرغبة ويمثل الطرف الثاني النقيض تمامًا وهو النفور. فالرغبة من قبل رضا، يقابلها نفور من قبل رانية، ونتيجة لصدودها تتحوَّل الرغبة إلى تدمير، بعد علمه (بمساعدة الضابط سعيد بن عزوز) بمكانها وهروبها مع زوجها، بعيدًا عن دناءة عالم أخيها كريم وعالمه (هو)، فما أن يعرض عليها حبّه وترفضه، حتى يُقْدِمُ على اغتصابها بوَحْشيةٍ، ويتركها تواجه مصيرها العدمي، وعالمها الذي بدأ في الانهيار.
تمثِّلُ لحظة الاغتصاب لحظة حِديّة وفارقة لكليهما؛ حيث انقادت «رانية» في درب من المهانة والتعذيب النفسي للجسد بامتهانها الرَّقْص في كباريه، ثم بزواجها من سعيد غريم رضا، ثمّ انضمامها للمنظمة لإرغام مَنْ يعجزون عنه. وكذلك على «رضا» الذي يقول «وشعرت وأنا أخرج من بيتها بأنني خلاص تغيَّرت، صِرتُ شَخْصًا جديدًا بالفعل، وأنه يمكنني أن أفعل أيّ شيء أريده فلم يعد هناك ما يخيفني في الوجود، وأنني من تلك اللحظة قد ذهبت للضفة الأخرى من العالم» (الرواية ص ص: 111 – 112)، وقد تبدو هذه اللحظة لي بكل فظاظتها وقسوتها (لاحظ مفردات الوصف: ظلام العالم/حيوان مفترس/كالبركان/ذئب منهار/يصرخ/عيناي احمرتا/توقدتا) بمثابة اللحظة الكاشفة أمام نفسه بأنه صار في طريقهم، وما فعله كان بمثابة التطبيق العملي لتلك المبادئ والأفكار التي استقاها من جلساتهم، والتي يشعر بالتقزُّم والتفاهة أمامها، والتي مفادها بأن «ما لا تحصل عليه تلوثه»، وهو ما تحقق لحظة الاغتصاب، وهو ما يعني انتصار السلطة (منظومة الفساد)، ونتيجة هذا صار «شخصًا ينفذ الأوامر ويعيش بلا ضمير» فاقدًا لقيمه، جسدًا بلا روح حتى أنه يعترف « صرت أبى بشكل لا واعٍ» مع أنه هرب من هذا الماضي إلا أنه أيقن أخيرًا بأنه «مرتبط به بخيط سحري، ومندمج حتى العظم بداخل تلابيبه» ( ص 122).
تستمر الرواية في رصد التحولات والتغيرات التي أصابت بنية المجتمع الجزائري والتي كانت – مع الأسف – من سيء إلى أسوأ، بنهوض الحركات الإسلامية واضطلاعها بدورٍ مُهِمٍّ، وإن كان تحوَّل إلى بركان عنيف في أحداث 1988، وخاصة في ظل صعودهم للسلطة، وهو ما قابلته المؤسسة العسكرية باعتراض شديد، انتهى إلى القتال الذي شبَّ في الجزائر، العجيب أن المذكرات تشير إلى أن هذه الجماعات لم تكن وليدة نفسها وإنما قامت بما قامت به بتحريض وبأيدي هذه الجماعات السِّرية. مع كل هذا إلا أن بعض الشخصيات قاومت أو صارت إشكالية بمصطلح لوسيان جولدمان والأبرز على هذا شخصية عدنان الماركسي الصديق الوحيد لرضا، فهي واحدة من الشخصيات المتسقة مع ذاتها، فمع أنه كان يعيش مع زوجة أبيه المتعسفة إلا أنه بفضل ثقافته وإيمانه بالأفكار الماركسية ودفاعه عنها، عاش حالة من الوئام، حتى أنه صار بمنأى عن مواجهة ما كان يسميه بـ«استبدادية العائلة»، لكن لم يمنعه هذا من عدم معارضة «استبدادية النظام» عبر المقالات التي كان يكتبها أثناء وجوده في منفاه الاختياري، حتى عندما أرادت الجماعة الظلامية الضغط عليه استطاع أن يصمد ولا يرضخ لهذه الادعاءات، وهو ما يمثل الخروج من هذه الدائرة أو النسقية المحكمة فمعارضته لاستبدادية النظام بمثابة الخرق لهذه الدائرة، أو البديل لعالم أفضل، بدلاً من هذه الأجواء الكافكاوية، التي سورَّت بها السلطة المجتمع، ومن أراد الخلاص بالتحرّر من هذه الدائرة سَقَطَ فيها كما حدث مع رضا الذي أراد أنْ يتحرَّر من دائرة الأب فيسقط في نفس الدائرة مع فارق أن الأب لمـَّا عَلِمَ نأى بنفسه، أما هو فمع علمه إلا أنه توغَّل حتى صار أشبه بمصاصي دماء دراكولا على حدِّ تعبيره.
لا شك في أن تأثير السلطة السياسية والدينية على المجتمع كان هائلاً ومورعًا، وهو ما عكسته المرويات التي أرخت لهذه الفترات من تاريخ الشعوب، واستطاعت الرواية بخطابها المعرفي الذي تجاوز التسلية والمتعة – كما كانت تعرف سابقًا – إلى كشف دناءة توجهات وأغراض هذه السلطات، وفي مقابل الغموض الذي أحاط بجرائم هاتين السلطتين، استطاعت الرواية عبر خطابها الحجاجي من تفكيك هذه الأكاذيب، وكشف المسكوت عنه، وهو ما جعلها أشبه بسردية بديلة عما حدث، كانت المخيلة أساسها، وإن كانت استفادت من الاعترافات والشهادات والوثائق، وهو ما يعطي أهمية للخطاب الروائي في كونه سردية بديلة تجابه السرديات الكبرى وتعارضها أحيانًا كثيرة.

 

مجلة الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى