عن الفلافل لا اللحوم

هلَّ علينا عيد الأضحى وصارت اللحوم حديث الكثيرين على الميديا. رأيت صورا لثيران هاربة من أمام محلات الجزارين، إذ رأت كيف يتم ذبح أخواتها أمامها ويسيل الدم على الأرض، وهو مشهد تعودناه كل عيد أضحى.
تحدث الكثيرون أيضا عن الأسعار في مصر الآن، حيث بلغ سعر كيلو اللحم مئتي جنيه، وتجاوز سعر الخروف الصغير الخمسة آلاف جنيه. انثالت عليّ ذكريات العيد التي أقلها كيف كان أبي يأخذني معه وأنا طفل في الخمسينيات، إلى سوق الأغنام في منطقة كوم الشقافة في الإسكندرية، لشراء خروف العيد، وكيف كان النِقاش في السعر، فالبائع يريد ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه ثمنا للخروف، ويقسم بالله أن هذا سعر قليل، وأبي يصرّ على ثلاثة جنيهات حتى يوافق البائع. سألت أبي مرة لماذا تصرّ على سعر أقل، والبائع يقسم أكثر من يمين أن هذا سعر حقيقي، فقال لي باعة الأسواق مثل السماسرة، مع ظهور النهار يقسم الواحد منهم يمينا، بأنه لن يقسم اليوم أيّ يمين صادق، ويظل طول النهار يقسم كذبا وفاءً لقَسَم الصباح! مشت معي المقولة التي سمعتها من أبي، وصرت أتذكرها كلما رأيت مسؤولا في أي حكم، يقسم بالله على شيء فعله، أو رأي يراه.
وسط هذا الجو الحافل بعيد الأضحى ذهب ذهني بعيدا عن اللحوم إلى الفلافل. شجعني أيضا على المقال أني عرفت أن محرك البحث غوغل اختار الثاني عشر من يونيو/حزيران من كل عام عيدا للفلافل. قلت لا بأس. لن يختلف يونيو عن يوليو/تموز. تذكرت زيارات كثيرة لسوريا رأيت فيها الفلافل مصنوعة من الحمص لا الفول، وكذلك زيارات لأوروبا. لم نكن نعرف ونحن صغار شيئا عن الفلافل بالحمص، رغم وجود الشوام في المدينة واليهود. كنا نضحك حين نعرف أنهم يسمونها في القاهرة «طعمية». لم أر محلا في الإسكندرية يسميها كذلك، إلا محل لطيف في منطقة سيدي جابر، كتب لافتة «طاع 100». وجد للإسم تخريجا جميلا ربما يعجب أهل القاهرة، الذين يزورون المدينة في الصيف.
سواء كنت تسميها «طعمية» أو «فلافل» فهي علامة في مائدة الإفطار، خاصة يوم الجمعة الإجازة الأسبوعية، وأحيانا الغداء حيث تنشغل النساء عادة بتنظيف المنزل، فتكون الوجبة الأسرع في التقديم. تعرف قيمتها كمصري حين تكون في الغربة في بلاد الخليج، فيكون صباح الجمعة لها من كل أسبوع، يرافقها طبعا الفول والبيض. الفلافل صارت محل نزاع بين بعض الدول العربية فكل منها ينسبها لنفسه. ودخلت إسرائيل النزاع بدورها، تريد كما اعتادت أن تنسب كل الأطعمة العربية لها. فعلت ذلك مع الملوخية مثلا. كانت في مصر محلات أصحابها يهود يصنعون الفلافل، ليس لأنهم يهود، لكن لأنهم وفدوا هاربين من أوروبا وقمعها في القرنين التاسع عشر والعشرين، فعرفوا الفلافل وكيف هي صناعة سهلة يعشقها المصريون. الفلافل عرفها الفراعنة وأحيا الأقباط طهوها بعد أن استقرت المسيحية في مصر، باعتبارها بديلا عن اللحوم في صيامهم، وسميت فلافل لأنها من الفول. فريد الأطرش يغني «ياعوازل فلفلوا» ولا شك في أنه يشير إلى طحن الفول المدشوش في آلة الطحن، التي تدور به حتى تعجنه، وأيضا من الفلفل والشطة التي تضاف إليها أحيانا. أصدق حكاية إحياؤها مع الأقباط، فصيام المسيحيين عن اللحوم أو الروح طويل ومتعدد.
انتشرت الفلافل في دول عربية كثيرة، خاصة بلاد الشام بهذا الاسم. وحينما خرجت الجاليات الأجنبية من مصر، وعادت إلى بلادها في اليونان وغيرها، انتشرت هناك. الشوام الذين هاجروا إلى أمريكا الجنوبية أخذوها معهم. أما اليهود المصريون فأخذوها بعد رحيلهم إلى أمريكا وأوروبا وبالطبع إسرائيل التي كانت أخذتها من الفلسطينيين. أشهر محلات الفلافل في الإسكندرية هو محل «محمد أحمد» في شارع شَكّور في محطة الرمل.
شارع شَكّور فيه مدرسة ثانوية كانت مملوكه للجالية اليهودية وخاصة بهم، فهي في الحرم الخلفي للمعبد اليهودي. أصبحت الآن مدرسة للمصريين بعد هجرة اليهود من مصر. محل محمد أحمد نفسه كان محلا للفلافل يملكه اليهودي بنيامين، الذي ترك البلاد بعد أن ضاقت على اليهود بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وسافر إلى أمريكا والبعض يقول فرنسا. لقد اشترى محمد أحمد المحل عام 1957، وحافظ عليه وعلى منتجاته بجمالها وقام بتوسيعه، وحين توفي في يناير/كانون الثاني عام 2021 سادت الإسكندرية حالة من الحزن، فهو علامة من علاماتها الكبيرة. لقد جعل لمنطقة محطة الرمل في الإسكندرية طعما جميلا، وصار علامة عليها، وصارت به تختلف ولا تزال.
لا أستطيع إحصاء المرات التي أكلت فيها عنده. مئات المرات وربما آلاف المرات. منذ كان شارع شَكّور هادئا وفيه سينما ماجيستك على القمة أمام المحل، وسينما بارك بعد المحل بقليل.. الاثنتان راحتا وامتلأ الشارع بمحلات الموبايلات والزحام، لكن ظل محمد أحمد علامة على الإسكندرية الحلوة. مشاهير كثيرة توافدت على المحل. عالميون مثل الملكة صوفيا ملكة إسبانيا والمغني ديمس روسوس، ومصريون مثل نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف وفؤاد المهندس، بل أزعم أنه لم يزر الإسكندرية أي مشهور إلا وذهب إلى المحل. كانت منطقة محطة الرمل زمان أوروبية الطابع والمحلات، ومن ثم فالفلافل بينها فاكهة، فضلا عن رخص سعرها. لقد عرفنا طريقنا إلى محمد أحمد مبكرا، نحن طلاب المدارس، حين كنا «نزوغ» من المدرسة لدخول سينما الهمبرا، أو ستراند أو ريتس أو فريال. أذكر جيدا كيف كان الساندويتش بقرش صاغ، حتى جاء يوم كنت أجلس فيه في المقهى جوار سينما ريتس، وأحد ماسحي الأحذية يقوم بتلميع حذائي. أعطيته كالعادة خمسة مليمات، أو ما كنا نسميه بـ»تعريفة» أو «قرشا» دون كلمة صاغ. فقال لي «لا.. قرش صاغ النهارده» أي عشرة مليم. سألته ضاحكا لماذا؟ قال لي، إن محمد أحمد رفع سعر الساندويتش إلى «نصف فرنك» أي قِرشيْن صاغ.
طبعا كبرنا وانتهى التزويغ ووجدنا عملا، فصرت حريصا على الأكل داخل المحل، لا شراء الساندويتشات. حتى الآن في كل زيارة لي للإسكندرية، ما أكاد أدخل المحل حتى تأخذني الراحة إلى الماضي والأيام الحلوة، وأنسى جحيم الشارع. يقابل محل محمد أحمد في الإسكندرية لمن هم من جيلي، ومن الأحياء الشعبية جنوب المدينة، كما كنت أنا من حي كرموز، محل «البغدادي» للفلافل في حي العطارين. اشتهر بالفلافل المحشية فضلا طبعا عن الفول، لكنها الفلافل. كان هذان المحلان هما علامة الفلافل الجميلة في الإسكندرية. في الثمانينيات من القرن الماضي ظهرت محلات أخرى، لكن ظل هذين المحلين هما الذاكرة والواقع الأكبر.
شوقي للفلافل لا ينتهي رغم حياتي في القاهرة منذ أكثر من أربعين سنة. كثيرا ما أتوقف بالسيارة أمام محل شهير وأشتري قرصين. أتعمد أن أقول فلافل، فينظر لي البائع ويبتسم. آخذ القرصين آكلهما «حاف» بلا خبز جالسا في السيارة، ثم أعود لقيادتها وكأني امتلكت العالم. طبعا في القاهرة أسرني محل «فلفلة» ولا يزال. يذكرني في طعم الفلافل الجميل بمحمد أحمد والبغدادي في الإسكندرية. يندهش أصدقائي الكتّاب في القاهرة حين نجلس في مقهى البستان ويطلبون طعاما، بيتزا أو غيرها، بينما أرسل أنا الجرسون لشراء قرصين من الفلافل من محل «فلفلة» أو «جاد» القريبين، ومعهما بيضتان مسلوقتان، وآكل بلا خبز. ارتفعت أسعار الفلافل الآن فصار القرص الكبير بجنيهين في القاهرة، وأقول الحمد لله، القرصان بأربعة جنيهات، ولا أناقش البائع في السعر، ولا يقسم البائع بأن هذا هو سعرها الحقيقي، فهو لا يعد نفسه للعمل بالسياسة، ولا يهتم أصلا بها، وستفتح محلات الفلافل أبوابها مع ثالث أيام عيد الاضحى، وستزيد اللحوم التي بلغ سعر الكيلو منها مئتي جنيه، الشوق إليها، وسننسى أن المئتي جنيه كانت سعر سيارة بيجو، حين دخلت البيجو مصر في الستينيات.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى