لماذا يقدس المصريون الخبز؟

من العادات التي اعتادها المصريون دون غيرهم من سائر الناس تقديس الخبز دون غيره من سائر الأقوات، فترى المصري ولاسيما القروي يرى بقايا اللحم أو الخضر أو الفاكهة مطروحة على الأرض فلا تلفت نظره ولا تشغل باله. وربما سقط من يده أو من فمه بعض البيضة أو الثمرة أو السجارة، فيأنف أن يلتقطها ولا يكلف نفسه أن يجنبها وطء الأقدام التي تليه، ولكنه إذا وجد كسرة من الخبز على سواء الطريق، أو على جانبه وقف وانحنى وبسمل وتناولها بخشوع، ونفخ ما عليها من التراب، وقبَّلها ثم حملها معه أو دفنها في مكان أمين!
وترى القرويين قد قعدوا للأكل جماعة حرصوا على أن يضعوا الخبز على شمائلهم أو فوق مناديلهم، فإذا انتثر منه فتات على الأرض سارعوا إلى التقاطه وتقبيله، فإذا ندَّت عن أحدهم فتيته ولم يبادر إليها نهروه، وقالوا: «اللي ما يلم النعمة يعمى»، وهم يطلقون على الخبز وحده لفظ (النعمة) أو لفظ (العيش) لأنه سبب النعيم والحياة.
ومن آيات حبهم الخبز أنهم يسرفون في أكله، وأنهم يضعونه بركةً في أساس البيت الذي يقيمونه، ويجعلونه تميمة في حزام الطفل الذي يُعزُّونه، فما السر في هذه القداسة؟ وما السبب في هذا الحب؟
كان القمح وحده هو مادة القوت منذ درج المصريون على جنبات الوادي (لأن الذرة جاءتنا متأخرة من أمريكا)، وكان فلاحنا القديم عبدًا لهذه الحبة، لا يعمل إلا لها، ولا يهتم إلا بها، يبذرها في غرين النيل حين ينحسر الماء بعد مائة يوم من شهر مسرى، ثم يطلق الخنازير في الحقل لتدفن البذور بأرجلها في التربة، ثم يتتبع أطوارها المتعاقبة من إيراق وإسبال وإحصاء، فيستفيد بالملاحظة والتجربة بعض العلم يصوغه في ضوابط مسجوعة لا تزال الأفواه تتناقلها من جيل إلى جيل، كقولهم مثلًا: «إذا صح قمح بابه، غلب النهابة هاتور، أبو الدهب المنثور»، «في برمهات اسرح الغيط وهات»، «في برموده دق العودة». هكذا تدور أمثالهم وتقصر أعمالهم على إنتاج هذه الحبة، وكان إنتاجها موقوفًا بحكم الجفاف على فيضان النيل وكان النيل بحكم الطبيعة يفي ويخلف.
فإذا وفى انطلق المنادون بالبشرى في الشوارع والأزقة واحتفلت الحكومة بوفائه في العواصم والأقاليم وجرت الجواري على مائه الذهبي بالبهجة والغبطة فيرقص النساء ويغني الرجال ويكون من كل أولئك عيد قومي يُدخل الأنس في كل بيت، والسرور في كل قلب. ذلك لأن وفاء النيل معناه وفرة القمح ورخص القوت وتخلف الوباء. وإذا أخلف اقشعرت الأرض وماتت الحياة واشتد القحط وغلا القوت وفشا الطاعون وأصاب الناس بلاء عظيم.
كان نقص الفيضان نذيرًا بالغلاء والوباء والانحلال والفوضى، وفي المقريزي وابن إياس وأبي المحاسن والبغدادي من مؤرخي مصر صفحات سود عن المجاعات التي كابدها المصريون في السنين العجاف التي دَبَّرَ أمثالَها من قبلُ نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
من هذه المجاعات التي لازمها الطاعون (الشدة العظمى) التي ضربت على مصر الجوع والخوف والموتان ثمانية أعوام في عهد المستنصر بالله الفاطمي سنة 1053م حتى أكل الناس القطط والكلاب ثم أكل بعضهم بعضًا.
والمجاعة الكبرى التي حاقت بالبلاد في عهد الملك العادل سنة 1201م فحولتها في بضعة أعوام مقبرة هائلة وارى فيها الموت الأسود أكثر الأحياء من غير لا حد ولا شاهد!
وكان يزور مصر وهي في هذه المحنة عبد اللطيف البغدادي الكاتب العالم المؤرخ فكتب يصفها: «ودخلت سنة سبع (597هـ) مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس الناس من زيادة النيل، وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد، وأشعر أهلها البلاء وهربوا من خوف الجوع، وانضوى أهل السودان والريف إلى أمهات البلاد وانجلى كثير منهم إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن، وتفرقوا في البلاد أيدى سبا، ودخل إلى القاهرة منهم خلق عظيم، واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والقطط والكلاب والبعر والأرواث، ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بني آدم! فكثيرًا ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون مطبوخون فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل .. ورأيت صغيرًا مشويًّا في قفة وقد أحضر إلى دار الوالي ومعه رجل وامرأة زعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما .. ثم فشا فيهم أكل بعضهم بعضًا حتى تفانى أكثرهم ودخل في ذلك جماعة من المياسير والمساتير، منهم من يفعله حاجة، ومنهم من يفعله استطابة! … وكثيرًا ما يترامى النساء والولدان، الذين فيهم صباحة على الناس أن يشتروهم أو يبيعوهم وقد استحل ذلك خلق عظيم ووصل سبيهم إلى العراق وأعماق خراسان… ولو أخذنا نقتص كل ما نرى ونسمع لوقعنا في التهمة أو في الهذر، وجميع ما حكيناه مما شاهدناه لم نتقصده ولا تتبعنا مظانه، وإنما هو شيء صادفناه اتفاقًا، بل كثيرًا ما كنتُ أفرُّ من رؤيته لبشاعة منظره».
ذلك بعض ما كان يقاسيه المصريون في سني يوسف من فقدانهم حبة القمح وحرمانهم لقمة الخبز وما يتبع ذلك بالضرورة من انتشار الطاعون واضطراب الأمن فإذا أدبرت السنون العجاف وأقبلت الأعوام السمان امتلأت الأجران بالحبوب الذهبية وأقبل الناس عليها فرحين مستبشرين يقلبونها بالأيدي، ويقلبونها بالأفواه، وينزلونها من أنفسهم منزلة حبات العيون وحبات القلوب، فلا يتركون منها سنبلة في حقل ولا حبة في بيدر ولا عودًا في طريق ثم يذكرون كلما رأوها تسيل دقيقًا في الطاحون أو تستدير رغفانًا في الفرن، أو تستحيل لقمًا في الفم، كيف كانوا يمسكون رمقهم في غيبتها بأكل الميتة وما هو شر من الميتة فاذداد حبهم لها وضنهم بها فينسبون إليها الأعاجيب وينظمون فيها المواويل، وينسجون حولها الأساطير فيقولون مثلًا: إنها الحبة الوحيدة التي هبطت مع آدم وحواء من الجنة!.
تلك عهود خلت! وهيهات والحمد لله أن تعود! فمنذ العام الثاني من هذا القرن أمنا بخزان أسوان الموت الأغبر وهو موت الجوع، وأمنا بالطب الوقائي الموت الرخيص وهو موت الوباء، وعلى الرغم من ذلك ما زلنا متأثرين بآلام الماضي ومآسيه فنسمي الخبز بالعيش (أي الحياة) وندعو على العدو بالكبة (أي الطاعون)! وأغلب الظن أن هاتين الكلمتين المأثورتين لن تموتا من لغتنا المصرية حتى بعد (السد العالي) الذي سيحول الصحراء جنة وسيجعل الناس من طغيان الصحة والقوة جنة !

المصدر: مجلة الأزهر – الجزء الرابع – السنة السابعة والثلاثون – أكتوبر 1965م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى